يعيش الشاعر الذي التصقت به كلمة شاعر، إلى الدرجة المربكة التي تقيّد عنقه بالمسؤولية تجاه الحياة والشعر، حالةً تحدّ لا يُحسد عليها، عند بدء كتابة عمل جديد، بعد إنتاج أعمال عديدة تضعه تحت أعين انتظار ما يليق بهذه الأعمال: حين يتجاوزها. وعلى الشاعر في هذا القيد خوض معركة وجوده الشعري الأصعب، إذ هو يعرف أكثر من غيره أنها خاسرة إن خيضت بأسلحة ما اعتاد تشكيله، ويعرف أن «ميدوزا» ما يواجه سوف تمسخُه حجراً، إن لم يسعفْه استخدام مرايا داخله في مواجهة الاعتياد، بالطريقة التي تليق بمكانة ما وصل إليه.
الشاعر السوري الكردي فواز قادري يختار الطريق الأصعب في مواجهته تحدي إنتاج مجموعة جديدة عن وجهٍ من وجوه المأساة السورية التي وصلت بهولها إلى وضع شعبه السوري كما لم يحدث في تاريخ المآسي: «شعب أعزل في مواجهة العالم المسلّح بأسره». وعلى الشاعر أن لا يسقط في فخاخ المباشرة والسطحية وردود الفعل الفنية الفورية التي يفتحها الهول ليُسقِط الأعمال الفنية وأصحابها، في عادية ما لا يرقى إلى حجم المأساة التي خلقْ.
بالجرأة والبساطة والعفوية التي امتزج فيها دم طليق حار بطلاقة وفوران دم أبناء مدينة لا يتوانون حين يواجهون الاستحالة عن صفع العالم، وهو ما يتجلى بين أسلحة مجموعته، يضع قادري العالم بين ضفّتي كتاب، ببساطةٍ أمامه تحت عنوان: «العالم يجلس أمام بابي»، ويُشرع أبواب أسلحته في مواجهة العالم؛ لا لتعريته كعالم قاس متآمر لصّ ومتحامل وغير آبه بالإنسان وقاتل، وموصوف بكل ما اختزن التاريخ من رذائل الإنسان، ولكن أيضاً بوضعه كعالم هو جزء منه، رحيم ومقهور ومقاوم وخالق للجمال والحب والحياة، وأكثر من ذلك بوضعه العالم أمام الشاعر فيه، كميدوزا موتٍ حجري، عليه مواجهتها بقصيدة الحياة:
«أيها العالم الرابح/ تخسر إذا واجهتني/ ليس عندي ما أخسر/ ختمتُ خسائري وما من خسارة جديدة/ غيّرتُ خانة ولادة القصيدة/ من الضيّق إلى الرحب/ من الغرف المغلقة/ إلى الشوارع والساحات/ من سبيل الاتجاه الواحد/ إلى سبلٍ ليس لها عدّ/ تمشي على الأرض القصيدة أو تحلّق/ وضوء رأسها في الأعالي/ تتبع كشّافاتها البليغة/ تُبارك من يهدم السدود بين الناس/ العالم يجلس أمام بابي/ صِبْية يهزّون القلاع المنخورة/ كشفوا هشاشتها وأخبروا العالم/ رقصوا وغنّوا والطلقات تحصد/ أنا جاهز للحياة/ جاهز للاحتفاء بقصيدة تتعلّم/ سرب من العصافير على الشجر/ قافلة الحمام في الساحة القريبة/ دلافين المتوسط حيث بلادي يحتلها ألف رجيم/ والفرات يُجري تمارينه الأخيرة/ القصيدة لم تستكمل المديح/ ما زالت تبحث معي/ عن قمر عازبٍ/ لأرملة هذا الليل الأخير».
في مواجهة عالمه الميدوزي الفني، يُجري قادري عالمه الجالس أمامه نهراً لا يتوقف، كما الفرات الذي يستقي منه رموزه وألوانه وأساطيره والحياة التي يخلقها على ضفافه، فيشكّل مجموعته كقصيدة واحدة ملحمية بطول 150 صفحة، يكتفي فيها بتجزئة جريانها إلى 69 جزءاً مفصولةً بنجمات، ومن دون عناوين توقفها وتميزها كقصائد مستقلة. وفي هذا الجريان يتجلى العالم الجالس الجاري، متداخلاً على صعيد المعنى، بما يتضمن من موتٍ وحياةٍ، حبّ وحربٍ، خصبٍ وقحطٍ، إلهٍ وشيطان، وقاهرٍ ومقهورٍ. وبتفاصيل ما خلق الإنسان من مطامح مرذولةٍ، وأديان مكبلة، وهويات قاتلةٍ، ومن مطامح خيّرة، وأفكار بانيةٍ وإخوّة معمّرة للأرض بالمقابل؛ وتمرّ عبر هذه الأضداد صراعات الإنسان من أجل الحرية أمام طغاةٍ معيّنين ويلمَسهم القارئ في الجسد السوري الذي مزقوه وأطعموه لمرتزقة الأرض وسفاحيها. بانحيازٍ واضحٍ للثورة السورية ولإنسانها المهجر والمعتقل والمغتصب والمفجر والممزق، الذي خصص له قادري أربع مجموعات شعرية سابقة، من دون التباس في الموقف، وبفنية عاليةٍ تتجاوز ردود الفعل الآنية. مع انزياح الانحياز إلى ثورات الربيع العربي، في العراق ولبنان والجزائر ومصر والعالم العربي، وتمجيد شهدائه مثل العراقي الشهيد صفاء الأسمر:
«أفتح لكَ الباب/ يا صفاء الأسمر المبلّل بدم العراق/ أين ذهبتْ قبلةُ أمكَ على الجبين؟/ روحُك ليست ورقة بيضاء/ روحُك سمراء أم زرقاء لا يهم/ روحك العراق يخرج من المقبرة/ من آيات المصفّقين الأجراء/ وبثور الدين الطافحة على جسد البلاد».
وكذلك تمجيد شعراء الربيع العربي الذين ارتقت بهم الإنسانية مثل الشاعر الأردني أمجد ناصر، وبثّ روح رفاقه بالأسماء التي أصبحت معروفةً كشخصيات وطنية تركت أثرها الطيب الذي يبعث في الناس الحياة.
ويرتقي انحياز قادري للإنسان بصورة مُعدِيةٍ إلى حرق روح التعصب بين طوائف وقوميات الوطن السوري: «يفككني الليل قمرين خاسرين/ أجمّعني وأكمل من أجل المرثية/ أنا ولد العتمة/ لم أفتح الباب لأحد المحتلّين/ في سلّة واحد أضع الجند والبنادق والطائرات والطاغية/ قاتلٌ من يشمّ رائحة البارود وينتشي/ هذه الأرض حبلى بالزهور وبالأمل/ وأحلم: ترتفع بنا الأرض/ الكرديّة تحمل دمعة العربي/ العربيّة تجمّل صورة الفرات/ توزّعه على الينابيع ونشرب/ من جديد/ يوزّع الأمل قلبي على قارتين وعلى الشعوب/ تلملمني المسافات/ لست وحدي».
ويمكن للقارئ الذي سيشهد العالمَ مع الشاعر جالساً أمام بابه كذلك، ويَجري معه في تجلياته وتحولاته، أن يلمس الحب الذي يمسه كما لو كان على جسور الفرات بأيدٍ متشابكةٍ تبتسم للحياة، وتشارك مياه وأشجار وأزهار وكائنات النهر خلْقها وتمجيدها للحياة. كما يمكنه أن يلمس الحرب بأشنع بشاعاتها، وما تجرّ على البلاد والكائنات والبيئة من تدمير، وأن يرى مدمري هذه الحياة على ما مسخوا أنفسهم، وأن يشمئز من أفعال الخسة التي تستحيل نفطاً محروقاً قاتلاً للبيئة وكائناتها، بأسلحةٍ وأعضاءٍ مشوهةٍ كريهةٍ مكشوفةٍ تمارس رذالاتها من دون حياء. وأن يلمس القارئ كذلك علاقة «الشاعر النوعي» بالعالم، من جميع وجوه التاريخ والفنّ والأسطورة والثقافة التي تمرّ بشعراء العالم ومبدعيه مثل الفرنسي آرتور رامبو.
وفي مواجهة عالمه الميدوزي كذلك، على صعيد سلاح فنه، يحافظ قادري على أسلوب صياغة شعره بقصيدة النثر، في أحدث ابتكاراتها، وبعذوبة ودهشة تراكيب جملها، مع التميّز بالجمل الشعرية القصيرة المتدفقة، واللجوء إلى التعبير بصيغة فعل المضارع الذي يجعل الحدث ماثلاً، ويعرض الصور الشعرية كما لو على شاشة سينما. وذلك مع غلبة الحديث بخطاب المتكلم الذي يوحي بالخبرة دون انزياح إلى الذاتي الفارغ الذي لا يتشاركه البشر؛ وارتقاءِ صيغة المتكلم هذه عند الحديث عن آلام البشر وما يعترضهم من تدمير لحيواتهم، إلى نبرة وطبيعة خطاب التراجيديا الإغريقية، وكأننا في مسرح يوناني يقرع فيه صوت العراف تيريزياس صنوج القدر.
والأهم في هذا الأسلوب تميّز قادري بلغة طازجةٍ تنبض بالحياة ولا تقيّدها الفصحى القديمة، ويجعلها متفردة ما منحه الفرات للشاعر من إضاءات على جميع أصعدة التعامل مع الطبيعة وكائناتها، كما يمنح مفرداتها التفرّد ما يستخدمه قادري من مفرداتِ مدينته دير الزور الغنية باشتقاقات الأفعال من المصادر والأسماء، بما يبعث في اللغة الفصيحة دهشةَ المحكي الطازج:
«غرغرينا في أقدام العالم/ في حنجرته وعينيه وفي الضمير/ شوفي إلى أين أوصلني حبكِ أيتها البلاد/ تقودني الصّدف إليك أينما تكونين/ شربت ماءك وأكلت الخبز/ قشّرت الفول وكتبت الشعر صدفة/ لم تفتّشني أمي عندما كانت القصائد ترنّ في الليل/ واقشّرها من الحزن كل صباح».
وفي مواجهة عالمه الذي يحار ولا يحار في صلاحه وطلاحه، يتدفّق جريان قادري بقوّة الحبّ التي تحمي قصيدته من الانجرار نحو روح الانتقام، جرّاء فداحة الشرور المتدفقة، ويحافظ بهذا الحبّ الذي يشيع في المجموعة على شفافيّة نفس الشاعر وحكمته في التعامل مع العالم، محاولاً محو هذه الشرور بما تملك نفوس الناس من قوة الحبّ. وتعيد خاتمة قادري لقصيدته بروح الحب والتصالح مع العالم تدفّق المجموعة إلى بداية افتتاحها بـ: «تمر الريح/ لا يهتزّ العالم/ تمرّ قصيدة حبّ/ يختلج الكوكب/ ويغنّي الحجر /يجلس العالم على باب الشاعر/ يوقف الحرب ويستريح».
فواز قادري، شاعر سوري من مواليد دير الزور 1956، ومقيم في ألمانيا. أصدر مجموعته الشعرية الأولى «وعول الدم» عام 1992، وأعقبها بعشر مجموعات بينها «بصمات جديدة لأصابع المطر»، «نهر بضفة واحدة»، «لم تأت الطيور كما وعدتك»، «قيامة الدم السوري»، «تفتح قرنفل أبيض»، «بيتها على النهر»، و «أناشيد ميونيخ المؤجلة».
فواز قادري: «العالم يجلس أمام بابي»
دار الدراويش، كاوفبويرن (ألمانيا) 2021
151 صفحة.