يحدث منذ مدّة أنّه، ومن بعد الإفراط في ضرب المواعيد وتحديد الآجال، تحيُّناً لوثبة شعبية جديدة تعيد الروح إلى ما جرت أسطرته تحت مسمى «ثورة 17 تشرين» أن انصرف بعض الرهط للالقاء باللائمة على الشعب اللبناني جُملة، والانتقال مباشرة من الملامة إلى التأنيب فالتوبيخ فالشماتة واللعن، بحجة أنّ الناس التي انقطع بها حبل الانتفاض في خريف 2019 ولم تعاوده، تتحمل الوزر الكبير من المسؤولية الجسيمة التي حلّت بها، مع مصادرة ودائعها، والتدهور المريع لشروط العيش، وطوابير الإذلال والاهتراء على محطات البنزين، وانقطاع الدواء وحليب الأطفال، والضرب عرض الحائط بالتحقيق العدلي بشأن تفجير المرفأ شبه النووي الذي دمّر أجزاء واسعة من بيروت وقتل المئات من سكانها.
بالتالي، يجري تفسير انقطاع الحراك الاحتجاجي الشعبي بعد تألقه في خريف 2019، على أنه نتاج لواقع مرير يقول بعدم أهلية هذا الشعب للانتفاض والثوران بشكل ممنهج، بل تواطؤه في نهاية الأمر مع جلاديه، بحيث يصبح فساد الحكام انعكاساً أو تكثيفاً لفساد المحكومين.
وهكذا، يجري تحميل شعب لبنان خصالاً سلبية واستسلامية متأصلة، تلقي عليه بالمسؤولية، وتتهمه بأنه غير جدير بالحرية والكرامة والعيش الكريم بما أنه لا يخرج بشكل عاصف مجدداً طلباً لهم، وبما أنه تطبّع مع كل الأحوال السيئة المهيمنة على البلد منذ عقود طويلة.
بالتالي الظلم النازل بعموم الناس سيكون والحال هذه شكلا من أشكال العدل.
هذا يقول لك أنّ شعباً لم يخرج عن بكرة أبيه لتأديب المصارف هو شعب خانع، وذاك يقول أن شعباً لم يتمرّد برمّته على سطوة «حزب الله» هو شعب رَعِش. وبينهما «ثائر» موهوم ينعي تبديد آماله على شعب لم يخرج لملاقاة البحارة الثائرين على سلالم أوديسا، كما في فيلم «المدرعة بوتمكين» لأيزنشتاين. عندهم أن الشعب خان «ثورة النخب»! وعند بعضهم أن ثورة النخب «بالناقص من شعب»!
في أقل من عامين جرى الانتقال من المبالغة في تمجيد صنيع الشعب بشكل إرادوي فظ إلى الإفراط في التشنيع عليه.
تنمّ النغمة الأولى عن نزعة شعبوية، مع فارق أنها نزعة شعبوية لا ترسم هالة حول قيادة كاريزمية، إنما حول بيئة نخبوية معدومة الكاريزما، وأبعد ما تكون عن المهارات القيادية، ولبيار روزنفالون في تشريح الشعبوية توقف هام عند هذا الصنف منها.
أما النغمة الثانية، التي تمسخ تمجيد الشعب تقبيحاً له، فهي كذلك الأمر، على طريقتها، شكل مبتذل ومحتقن من الشعبوية. إنّها «الشعبوية الكارهة للشعب». بل أن قسماً لا يستهان به من الناس، أي من هذا الشعب بالنتيجة، يتبنى ويتداول هذه الترّهات، ويفسّر بها مصابه.
فلان يلعن «الشعب الذي لا يثور» ولا يخطر في باله أنّه يلهو خلف هاتفه، أو يأخذ نفساً من أرجيلة، وليس شريداً في الأدغال أو الصحاري ينظّم العصابات، تمهيداً لحرب الشعب الطويلة الأمد.
هذا التخبّط بين تمجيد الشعب أو تحميله وزر استسلامه يتواشج مع مجموعة أوهام أدّت دوراً شنيعاً للغاية سواء في الحال اللبنانية، أو قبلها في الانتفاضات الربيعية العربية
والشعبوية «الكاملة» أساسها الدمج بين أقصى تمجيد للشعب وأقصى تحقير له. إنما على قاعدة: إما المجد وإما الذل. وأحياناً كثيرة، يحصل ذلك من ضمن النزعة لفرز الشعب نفسه بين محبين للمجد ومحبين للذل. أما في الحالة التي أمامنا، فهي شعبوية على طريقة لعبة «اليو يو»: الانتقال من التمجيد المبالغ به عندما يُرى «الشعب» في الساحات، إلى التأمّل بأنه لن يتركها، أو بأنه سيعود إليها قريباً، أو بعد حين، ومن ثم صب جام الغضب والفشل على «الشعب» الذي خذل «الثورة».
وعلى أية حال، لم ينس اللبنانيون بعد أّن العماد ميشال عون نفسه، صاحب شعار «يا شعب لبنان العظيم» أواخر الثمانينيات، لم يتردد في إحدى طلاته قبل تبوئه السدة الرئاسية على قول سلبي للغاية حول الشعب. الشعبوية تلعب اليويو. تمجيد الشعب كله أو التسابق في السلبية لوصمه ككل.
لكن الناس في المقابل لا تلعب اليويو بهذا الشكل. عندما تنتفض ثم تحجم يكون هناك دوافع وأسباب. تتبدّل الأمزجة إنما ليس لأسباب مزاجية. يكون هناك وقائع وحسابات، من النافع استيعابها والتفاعل معها. تكون هناك خيبات فعلية، وأزمات ثقة فعلية، بما في مقدورها القيام به، أو بمن يتكلم باسمها.
الجماهير ليست غبّ الطلب. الوهم القاتل الذي يصيب حتى أصدق الثوريين هو عندما يظنون أن الجماهير اذا ما خرجت إلى الساحات لأسبوعين متتاليين، فإنها ستثابر على هذا المنوال، أو تعود اليه حتماً، حتى الحسم النهائي للصراع. التعبئة الدائمة وهم.
وما يحصل اليوم أن هذا التخبّط بين تمجيد الشعب أو تحميله وزر استسلامه يتواشج مع مجموعة أوهام أدّت دوراً شنيعاً للغاية سواء في الحال اللبنانية، أو قبلها في الانتفاضات الربيعية العربية، وفي طليعتها وهم أنه يمكن القيام بحركة تغييرية واسعة لبنى سياسية من دون أي خدش تغييري في البناء الاجتماعي المتصدّع أساساً، وأنه يمكن إحداث هذا التغيير السياسي، في الميدان، إنما دون حاجة إلى مفهوم القيادة، ومع الاستعاضة عنه بهلامية النخب المدنية التي تدمن شيئين، التهكّم على «التنظير» وسَوق الشعارات المجرّدة شديدة العمومية والمنقطعة عن كل فحص للطرف والسياق وسمات الوضع الحالي.
لا يعني هذا ان أزمة القيادة هي أزمة تحل باستحضار شخص له مواهب خطابية، أو يبني التفافاً عاطفياً كثيفاً حوله. فهذا على أهميته فرع من مشكلة أكبر، وهي فداحة تغييب تحديد القيادة الطبقية لعملية التغيير. أن لا تكون لعملية التغيير من قيادة طبقية، يرادفه ان لا تكون لعملية التغيير آثار على التركيبة الطبقية القائمة للمجتمع، يرادفه ان لا تكون عملية التغيير تحمل من التغيير سوى العلامة التجارية.
والمشكلة ليست لفظية. ماركس وانجلس لم يترددا مثلا في سوق نعوت هجائية لشعوب بأكملها إبان ثورة 1848 / ربيع الشعوب الأوروبية. في حسبتهما وقتها، البولونيون والمجريون جديرون بالتمجيد لأن الحركة القومية الديموقراطية تتصادم عندهم مع قوى الاستبداد في روسيا والنمسا. هذا بخلاف التشيك وسلافيي الجنوب، إذ صب ماركس وانجلس ضدهم كمية من النعوت السلبية التي توحي بأننا أمام قائلين بصراع الأقوام والأعراق لا الطبقات. لكن الأساس عند ماركس وانجلس انه كانت هناك مناخات حرب أهلية أوروبية، تنقسم فيها الحركات القومية بين تلك التي تقف في المعسكر الديمقراطي الثوري، وبين الحركات القومية لمن أسموهم «شعوب بلا تاريخ» المشتبه في أنّهم سيدورون عاجلاً أم آجلاً في فلك الرجعية.
هل اللبنانيون اليوم «شعب بلا تاريخ» أو «شعب خارج التاريخ»؟ في أقل تقدير، ازدواجية المهمة الملقاة على عاتقهم، التحرر من أوليغارشية مالية مافيوية، ومن نموذج للدولة منحاز لكبار الأغنياء أولاً، والتحرر من الانسياق ضمن منظومة الممانعة المقادة من إيران، ومن الانقسام بين إيران وأخصامها الاقليميين في نفس الوقت، يجعل قضيتهم ديمقرطية ثورية بامتياز من حيث تعريفها.
لأجل هذا، الاقتصاد في الملامات ضد الشعب اللبناني أكثر وجاهة. في القضية الوطنية لهذا الشعب مضمونان: أحدهما معاد للاستبداد والثاني معاد للطور الاوليغارشي من الرأسمالية. ولا يمكن تفعيل هذه القضية بتغييب أحد هذين المضمونين أو تغليبه على الآخر على طول الخط.
كاتب لبناني
وليس النيّة/القصد الخروج، بمنتج لغوي، مثل كتاب (غادة السمّان) بعنوان (السباحة في بحر الشيطان)، في بلد تجد فيه كل شيء ممنوع (لبنان) أو بنت ثقافة (فرنسا)، بالذات؟!
فلسفة التغيير، هل تصلح في العلاقة (داخل) الأسرة أو الشركة أو المجتمع أو الدولة؟!
أم يجب ابدال، مفهوم التغيير أو (قتل) العلاقة، والبحث عن علاقة أو دولة أو شركة أو أسرة أو وظيفة جديدة،
إلى كيفية فهم واستيعاب، معنى المسؤولية تجاه الآخر في حضوره أو غيابه، أي لا مكان للاستهتار أو العند أو الدلع أو الكرامة أو السيادة في أي علاقة داخل الأسرة أو الشركة أو المجتمع أو الدولة، بين ممثلي (شعب الرّب المُختار)، وممثلي (آل البيت)، تحت عنوان تجربة (السباحة في بحر الشيطان)، كمنتج ذو عائد إقتصادي، يعود بالربح على الكاتب والناشر والمُسوّق (المكتبة الشاملة) أو (غوغل) في سوق العولمة،
الذي أصبح كل شيء فيه افتراضي ومجاني، أي لا قيمة مادية له، بالمحصلة حتى للعواطف أو الحب، سبحان الله؟!??
??????