عادت أزمة لبنان المزمنة إلى الاحتدام.. ظنّ البعض أن وتيرة الخلافات والصراعات ستتلاشى بمجرد أن يقرر رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري الاعتذار عن تأليفها، الحريري اعتذر، لكن الأزمة احتدمت، لماذا؟ لأن المشكلة الأساس ليست في شخص الرئيس المكلّف، بل في ما يعتزم القيام به، أو عدم القيام به بعد تأليف الحكومة.
هل ينوي التشدّد في التدقيق الجنائي بحسابات البنك المركزي والمصارف وحسابات إدارات الدولة، لمعرفة سبل تحويل مليارات الدولارات من لبنان إلى حسابات في الخارج بصورة مخالفة للقانون؟ هل ينوي مفاوضة صندوق النقد الدولي للحصول على قروض ومساعدات وفق شروطه، كالخصخصة مثلاً، المسيئة للاقتصاد الوطني؟هل ينوي تعديل أحكام قانون الانتخابات، وعلى أي أساس سيكون ذلك؟
لا توافق بين التكتلات السياسية الأساسية في مجلس النواب على القضايا سالفة الذكر، الأمر الذي يعوّق الاتفاق على شخص الرئيس المكلّف، كما على برنامج عمل حكومته.. فما العمل؟
أرى أن يتحمّل حزب الله، بوصفه حزب المقاومة وصاحب الكتلة الشعبية والنيابية الأكثر تماسكاً في البلاد، مسؤولياته الوطنية بالضغط على حلفائه، ولاسيما التيار الوطني الحر (العونيين) وحركة أمل (كتلة التحرير والتنمية) وسائر حلفائه السياسيين والميدانيين، للتوافق على مضامين الحد الأدنى للقضايا الإصلاحية، سالفة الذكر وذلك على النحو الآتي:
ترشيد دعم الأغذية والأدوية والوقود (بنزين وغاز ومازوت) حتى لو اقتضى الأمر قيام الدولة باستيرادها مباشرةً.
تفعيل التدقيق الجنائي في حسابات البنك المركزي والمصارف لكشف المسؤولين عن مليارات الدولارات المهربة إلى الخارج.
(جـ) تسهيل التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت، بتجاوز الحصانات والأذونات المعرقلة.
(د) استيراد البنزين والفيول من إيران بالليرة اللبنانية.
(هـ) مفاوضة صندوق النقد الدولي مع الحرص على رفض شروطه المضرّة بالاقتصاد الوطني، كالخصخصة مثلاً.
التوافق على هذه القضايا الإصلاحية، مجرد مدخل للتفاهم على شخصية الرئيس المكلف تأليف الحكومة الجديدة، غير أن القضية الأهم هي الاتفاق على ضرورة تنفيذ أحكام الدستور، ولاسيما تلك التي استوعبت نصوصُها إصلاحات اتفاق الوفاق الوطني لعام 1989 (الطائف).
لا حياة سياسية صحيحة ولا استقرار ولا ازدهار لبلاد لا تحترم دستورها ولا تنفذ أحكامه بل يمعن حكامها في خرق أحكامه
أجل، المطلوب التوافق على هندسة انقلاب دستوري، سلمياً وديمقراطياً، لتنفيذ جميع أحكام الدستور وتعديلاته، التي لم تنفذ منذ إقراره سنة 1926 ولغاية الوقت الحاضر، ما أدى إلى حدوث اختلالات دستورية وسياسية، انعكست سلباً على وحدة لبنان واللبنانيين، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات، وعلى ميثاق العيش المشترك. الانقلاب الدستوري، السلمي والديمقراطي المطلوب، يكون من خلال تعديل قانون الانتخاب في مجلس النواب، وفي استفتاء شعبي معاً. بهذه الطريقة يشارك اللبنانيون لأول مرة في تاريخهم المعاصر، في تقرير مصيرهم بأنفسهم بعيداً من أيّ تدخل خارجي.
في هذا السياق، يقتضي قيام الحكومة الجديدة المتفق عليها بتضمين برنامج عملها كل القضايا الإصلاحية سالفة الذكر، وكذلك بوضع مشروع قانون ديمقراطي للانتخاب يتضمن الإصلاحات المبيّنة أدناه، على أن يحال بكونه مستعجلاً على مجلس النواب سنداً للمادة 58 من الدستور:
ـ الدائرة الوطنية الواحدة (مدلول المادة 27 من الدستور).
التمثيل النسبي المعمول به في قانون الانتخاب الحالي، شريطة إسقاط الأحكام المتعلقة بالصوت التفضيلي.
خفض سن الاقتراع إلى الثامنة عشرة، كما هو الحال في جميع الدول الديمقراطية.
انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف (منطوق المادة 22 من الدستور).
تضمين مشروع القانون مادة تُحدد صلاحيات مجلس الشيوخ بما هي “القضايا المصيرية” المنصوص عليها في المادة 22 من الدستور، وذلك سنداً للنص والعرف والتقليد المتّبع، بأن يكون من صلاحية مجلس النواب تفسير مواد الدستور كما تعديله. ولا بأس في هذا السياق من اعتماد كل أو بعض المواضيع المعتبرة أساسية في الفقرة 5 من المادة 65 من الدستور، كصلاحيات لمجلس الشيوخ العتيد.
تضمين مشروع قانون الانتخاب الجديد مادة تقضي بطرحه على استفتاء شعبي بعد إقراره في مجلس النواب، أو بعد صدور مرسوم عن رئيس الجمهورية باعتباره نافذاً سنداً للمادة 58 من الدستور، وذلك كله لإضفاء مزيد من المشروعية الوطنية عليه.
يصار إلى إجراء انتخابات نيابية فور إعلان نتائج الاستفتاء الشعبي.
لا حياة سياسية صحيحة ولا استقرار ولا ازدهار لبلاد لا تحترم دستورها ولا تنفذ أحكامه بل يمعن حكامها في خرق أحكامه، والتسبّب تالياً كل خمس أو عشر سنوات في حرب أهلية أو اضطرابات أمنية مدمرة. تعقّلوا أيها اللبنانيون واطلبوا الحل الديمقراطي الدستوري، حتى لو بدا بالغ الصعوبة، لأن البديل الوحيد هو البقاء في حال حرب أهلية إلى أبد الآبدين!
*كاتب لبناني
*للأسف مشكلة لبنان تكمن في فساد معظم
الطبقة السياسية الحالية وارتباطها بالخارج..