عندما يكون النداء موجها إليك وأنت لا تسمعه، فاعلم أنك تتوجه إلى المغاور لتختبئ فيها خائفا من صدمة الأبدية، لكن هربك لن يجديك شيئا، فلسوف تجدها تحتل مغارتك، ولا من يحميك من هذا القدر التراجيدي سوى الميتافيزيقيا وحدها تعرف أين توجد السعادة التي تبحث عنها. ومن المحتمل أن يسلك الإنسان مسالك زرادشت الذي استطاع أن يصل لوحده إلى جزر السعداء ويطمئن على سقراط هناك؛ فبأي معنى يمكن أن نفهم خطاب زرادشت الموجه إلى النسر والأفعوان؟ وكيف سنصل إلى جزر السعداء بمجرد ما نفتح قلوبنا للأبدية؟ وما معنى أحبك أيتها الأبدية؟ ولماذا أراد نيتشه أن يتزوج بها؟
يتساءل زرادشت باستياء عميق قائلا: فهل وجب عليّ أن أفتش عن السعادة في الجزر السعيدة بعيدا وراء البحار؟ ثم يعترف بخيبة أمله؛ «لا شيء يستحق العناء والاهتمام، وعبثا تفتش فإن الجزر السعيدة قد توارت من الوجود». منذ رحيل الفيلسوف عن الوجود توارت جزر السعداء التي ذكرها سقراط في محاورة فيدون عندما كان يودع طلبته، حيث قال بأنه سيرحل من هذا العالم متوجها نحو جزر السعداء، باعتبارها مقاما لكل الواصلين، ويقصد بهم الفلاسفة الذين تتصف نفوسهم بصفات النزاهة والرقة وحسن المعاملة، وسهولة التعلم، وقوة الذاكرة، لأنه من الخطأ أن ندع نفسا عدمت هذه الصفات تنضم إلى مملكة الفلسفة، وتتمتع بالجزر السعيدة، وإلا كانت سببا في نشر الكراهية والبلادة، وتعميم الشر وغيرها من الرذائل، ذلك أن الرديء ينتج الرداءة ويسعى إلى تعميمها على أكبر عدد من الناس. هكذا سيتحولون إلى عبيد يضعون أنفسهم رهن إشارة السيد، جدل العبد والسيد.
والحال أن الفيلسوف يفجر جدل العبد والسيد من الداخل، حين يظهر تناقضه للطبيعة، فالإنسان يولد حرا، لكن كيف يمكن استعباده؟ كما أن الفيلسوف لا يعترف بسلطة أولئك السياسيين الذين يفتقرون إلى التعقل ويطغى على نفوسهم الجهل والكسل وجمع المال. فلا هو يقبل هذا الظلم والوحشية، ولا هو يصمد وحده أمام طغيان السلطة المستبدة. هكذا يتأكد لديه أن مصيره سيكون الفناء، دون أن يكون قد نفع وطنه أو أصدقاءه: «وسيخلد إلى السكينة وينصرف إلى شؤونه الخاصة، وكأنه مسافر باغتته عاصفة فاحتمى خلف جدار من عواصف الرمل والأمطار، وعندما تحل النهاية، فإنه يرحل عن الحياة بقلب عامر بالآمال، ونفس هادئة مطمئنة» .
كم هو مدهش قدر الفيلسوف، إلى درجة أنه تجاوز درجة دهشة الفلسفة، فبالإضافة إلى أنه مجرد شيء هدفه العيش في جزر السعداء، فإنه لا يرغب إلا في الرحيل عن هذا العالم المضطرب بقلب عامر بالأمل ونفس هادئة مطمئنة، كل الاطمئنان: «إنه يشبه الملاح الجيد الذي يرسي سفينة حياته عند ما هو أبدي ودائم». وفي الحقيقة أن الأبدية هي الرأسمال الرمزي الذي يرغب فيه الفيلسوف، بل إنه يريدها زوجه له.
قال نيتشه على لسان زرادشت: «أواه! كيف لا أحن إلى الأبدية وأضطرم شوقا إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر، حيث يصبح الانتهاء ابتداء؟ إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها، لأنني أحبك أيتها الأبدية».
أحبك أيتها الأبدية، هكذا يعلن الفيلسوف عن حبه دون تردد، بيد أن هذا الحب لا يمكن أن يتحقق ما دام أن التضاد يتسلل إلى كينونته ويمزقها، وإلا كيف يمكن بين المتناهي واللامتناهي؟ وبعبارة أخرى كيف يمكن للكائن الفاسد أن يحب الكائن الأبدي؟ بل أكثر من ذلك، كيف تستطيع الفيزيقيا عشق الميتافيزيقيا؟
عندما لا يعود لأي إنسان من الممتلكات إلا شخصه الذي تتصرف فيه الشهوات، كما تتصرف في البهائم، ويصبح ما عدا ذلك مجرد أوهام وأشياء تافهة، ولذا تراهم ينظرون بعين العداوة إلى من ينافسهم في هذه الشهوات، ويمضون في عداوتهم إلى ما بعد الحد الذي يضطر فيه المذنبون والأشرار إلى ارتكاب الجرائم من قتل ولصوصية واغتصاب، ولذلك تجد الدولة صعوبة في إصلاحهم، لأنهم لم يتعلموا قواعد التعقل، أما الذين خضعوا للتربية والتثقيف وفتحوا عيونهم على حب الأبدية والاستنارة بنور الميتافيزيقيا، فإنهم يحاولوا أن يبثوا في خصومهم فضيلة التعقل، وينظرون إليهم على أنهم أصدقاء يمكن إصلاحهم، لا على أنهم أعداء: «وهكذا فإنهم يمضون في خلافهم واضعين نصب أعينهم أنهم سينهون يوما إلى الوفاق».
ومما يثير الانتباه تلك الأسئلة الشاردة التي جاءت في كتاب «الجمهورية» لأفلاطون، ولعل سؤال الدولة اليونانية في مقابل الدولة البربرية، قد أثار اهتمامنا، خاصة أن ما يقصده بالبرابرة هم أناس لم يمنحوا للفلسفة مكانة في بلدانهم، والشاهد تأسيس الدولة لن يكون سوى فلسفي، هكذا نجد سقراط يتساءل: ألن تكون الدولة التي نريد تشييدها دولة يونانية؟ ان يكون مواطنوها خيرين متمدينين؟ ألن يكونوا محبين لليونان يشعرون بانتسابهم إليها ويشاركون في بنائها؟ ويختم أسئلته قائلا: ليس ثمة جماعة محبة لوطنها تجرؤ على تمزيق الأرض التي هي أمها ومصدر غذائها.
وفي الحقيقة أن هذه الدولة السعيدة لن تتحقق إلا عندما يصبح الفلاسفة ملوكا، وحدهم يعرفون ما معنى التشريع الذي «يجعل جميع المواطنين سعداء، وبإمكانهم أيضا بناء الدولة على دستور حكيم تتحكم فيه العدالة، والحرية، والمساواة، وكل ذلك من أجل حفظ كرامة المواطنين، فقيام دولة لها مثل هذا الدستور، هو هدف الفيلسوف، ولذلك يتعين على اعداء الفلسفة أن يفهموا ولو مرة واحدة في حياتهم، أنهم لا يحاربون الفلسفة، لكن يحاربون حقوقهم، وسيظلون عبيدا لسيد يحتقرهم.
كاتب مغربي