انقلاب دستوري على «الانقلاب الدائم»

أمّ الأزمات التي تتخبط فيها تونس منذ سنوات هي أزمة اقتصادية. لكن سببها سياسي. إذ إن عدم الاستقرار، الناجم عن تشتت الأحزاب وعدم كفاءة الطبقة السياسية حكما ومعارضة، قد أدى إلى عزوف الاستثمار وتدهور الاقتصاد وتفاقم الفقر والبطالة.
هذا الكابوس لن يزول بمجرد تراجع رئيس الدولة عن قراراته الاستثنائية الصادمة التي يرى هو أنها تطبيق أمين لبند دستوري، بينما هي في الواقع انقلاب صريح (تطبيق الدستور لا يمنع الانقلابات: بن علي 1987 نموذجا). ذلك أنه حتى لو عادت المؤسسات، بعد شهر أو شهرين، إلى سيرها المعتاد وحتى لو تم القضاء على الوباء، فإن عدم الاستقرار سيبقى مستمرا. لماذا؟ لأن النظام البرلماني، الذي تواطأت الأحزاب النافذة على فرضه في دستور 2014، نظام غير صالح لديمقراطية ناشئة في بلد فقير. بل إن النظام البرلماني قد لا يكون صالحا حتى لديمقراطية عريقة في بلد غني (مثل فرنسا). وإذا كان هنالك من نسي، فلنتذاكر:
كان ديغول هو الذي أنقذ شرف فرنسا عقب استسلامها المخزي أمام الغزو النازي في مايو 1940. وجد هذا الرجل الأبيّ أمة تنوء بأوزار الهزيمة والعار فانتشلها، بل إنه «أقام جثتها فأقنع العالم بأنها على قيد الحياة» (حسب قولة أندري مالرو). لهذا كان للفرنسيين بديغول افتتان عجيب، حيث بلغت شعبيته حدا حوله إلى أسطورة تضاهي في سحرها أسطورة نابليون أو جان دارك. لكن عودته المشهودة إلى باريس يوم 26 أغسطس 1944 ظافرا منصورا لم تشفع له لدى الأحزاب؛ فلم يجد بدّا، بعد أقل من عام ونصف، من رمي المنديل والانسحاب من الحياة السياسية. كان ديغول مؤمنا بوجوب أن تكون السلطة التنفيذية قوية واسعة الصلاحيات درءا لخطر عدم الاستقرار، بينما كانت الأحزاب تريد أن يكرّس الدستور الجديد برلمانا قويا وتحاجج بأن ذلك أضمن للديمقراطية. عندها أيقن ديغول أن فرنسا لن تحكم بالنجاعة اللازمة لأن مصالحها ستبقى كرة تتقاذفها الأحزاب في ملعب البرلمان. لهذا فاجأ البلاد يوم 20 يناير 1946 بإعلان استقالته وهو في عز مجده. وتم للأحزاب ما أرادت. فعرفت فرنسا في 12 سنة، هي عمر الجمهورية الرابعة، ما لا يقل عن 12 حكومة! وبلغ عدم الاستقرار مدى دفع بالرئيس رني كوتي إلى استدعاء ديغول من عزلته في بلدته، كولومبي، وتكليفه في مايو 1958 برئاسة الحكومة. وقد قبل ديغول، لكن بشرط أن يكون له صلاحيات استثنائية لستة أشهر وأن يعقد استفتاء حول دستور جديد.

النظام البرلماني، الذي تواطأت الأحزاب النافذة على فرضه في دستور 2014، نظام غير صالح لديمقراطية ناشئة في بلد فقير

وكان الشعب الفرنسي قد أدرك، بعد تجربته المريرة مع الألاعيب الحزبية والباب الدوّار للحكومات، أن أمر البلاد لن يصلح إلا بسلطة تنفيذية قوية. وقد شرح ديغول ذلك بالقول: «تحتاج الدولة رئيسا، قائدا، يمكن للأمة أن ترى فيه الرجل الذي يبرم أمورها ويوجه مصيرها. ولا ينبغي لهذا الرئيس، بما أنه في خدمة الأمة قاطبة، أن يأتي من البرلمان الذي هو تركيبة من المصالح الفئوية». ولا يزال دستور الجمهورية الخامسة هذا، الذي أيده الشعب بأغلبية 80 بالمائة، هو الذي تحكم به فرنسا اليوم وتحتكم إليه. ومعروف أن ميتران ظل يندد بدستور 1958 ويصفه بأنه «انقلاب دائم» إلا أنه ارتضاه لما صار رئيسا فحكم به 14 سنة كاملة! ذلك أن دستور الجمهورية الخامسة قد كان ثمرة استخلاص وطني للعبرة من رداءة النظام البرلماني الذي ولد مشلولا نتيجة الاستقطابات الحزبية المزمنة والتشتت الانتخابي الفسيفسائي.
وهكذا بعد 12 سنة من الشلل البرلماني، تعلمت فرنسا الدرس واختارت النظام الرئاسي لأنه النظام الأنسب لشعبها ولثقافته السياسية. أما تونس المسكينة، التي مضى عليها سبع سنوات وهي تجرّب المجرّب، فلا يزال ساسة الداخل ومنظّرو الخارج يريدونها أن تبقى حقل تجارب لمسلّمة باطلة قائلة بأن النظام لا يكون ديمقراطيا إلا إذا كان برلمانيا! لكأنه لم يحدث لهؤلاء القوم أن سمعوا في نشرة الأخبار يوما أن الديمقراطية في الجمهورية الأمريكية، أو الفرنسية، إنما هي ديمقراطية رئاسية.
بقي التوضيح أن القول بأن الديمقراطية الرئاسية هي النظام الأنسب لتونس لا معنى له إلا إذا أتت الانتخابات المبكرة برئيس جديد، أجدر بالمنصب وأخبر بفنّ السياسة، وببرلمان جديد أكثر احتراما لنفسه ولشعبه. أما الأحزاب فإن في وسع القانون الانتخابي، إذا أصلح كما ينبغي، أن ينهي فوضاها بحصر تمثيلها النيابي في ثلاثة أو أربعة تكتلات ذات توجهات سياسية واضحة وبرامج اقتصادية متمايزة.
ما حصل يوم 25 يوليو انقلاب يخشى أن ينزلق نحو الحكم الفردي أو «الدكتاتورية الدستورية». لكن ماذا عن النظام البرلماني بشكله الكاريكاتوري الحالي؟ إنه انقلاب أيضا! «انقلاب دائم» على نجاعة الحكم وعلى مصلحة الشعب.

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    الآن عرفت، لماذا هناك إختلاف الرؤية، مع قيادة قناة (الجزيرة)، على سبيل المثال،

    لأن هناك فرق شاسع بين ردة فعل، أو ما كتبه (مالك التريكي)، وما كتبه (محمد كريشان) في سياق ما حصل في (تونس)،

    لأن الأول نشر عنوان (انقلاب دستوري على «الانقلاب الدائم»)،

    بينما الثاني نشر عنوان (طوفان من الأسئلة)، بينما عندما لم يكن الأمر، له علاقة ب(تونس)،

    يا محمد كريشان، لقد أتيت بها، لأن (ثقافة الأنا)، أو (ثقافة الآخر)، النقيض بالنسبة لفلسفة الصراع، تعتمد على التقليد الببغائي، لمن يمثل (ثقافة الآخر) بالنسبة إلى (ثقافة الأنا)،

    ولذلك هناك نسبة عالية من (العنوسة) في تونس أولاً وبقية دولنا، على أرض الواقع،

    تعليقاً على عنوان (نتنياهو مقلدا ترامب)، والأهم ما الحل،

    وهل يمكن التعايش بين عقلية التقليد، وبين عقلية الاتباع، وما الفرق بينهما أصلاً؟!

    في البداية يجب الاعتراف بوجود خطأ، لأن سبب وصول دلوعة أمه (دونالد ترامب) لقيادة أمريكا، هو تراكم أخطاء إدارة وحوكمة الثنائي (أوباما-بايدن) ما بين 2009-2017،

  2. يقول S.S.Abdullah:

    لتجاوز انهيار النظام المالي النقدي الربوي والتأمين عليه لرفع المسؤولية عن الموظف (الآلة/العالة/الروبوت/الفضائي)، في أداء أي وظيفة، مقابل الراتب، على أرض الواقع،

    فتم اختيار الأكثر صراحة ووضوح بينه، وبين (هيلاري كلينتون) ممثلة الضبابية، في كل شيء، بداية من علاقتها مع زوجها داخل الأسرة، رغم كل علاقاته النسائية بداية من السكرتيرة،

    وأكثر من ذلك كما أوضح ذلك (جون ترافولتا)، عندما قام بتمثيل فيلم عن كيفية وصوله إلى وظيفة الرئيس، أثناء وبعد فضيحة حادثة السكرتيرة.

    ومن وجهة نظري، الذي قلب (المعادلة) على الجميع، الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمنتجات الانسانية وبالتالي الدولة،

    ما حدث من (نجاح) في عيد رمضان عام 2021 في (فلسطين)، يا مالك التريكي ومحمد كريشان.??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية