تساؤلات عبد الصمد صقر الأخيرة 

لماذا تعضّ الفَراشةُ، مثلي، على ظلّها كلّما ارتطمتْ بالجدار.
كأنّ صدى الضوءِ أعمى، كذاكرةٍ، ذبُلتْ في الزوايا
متى يستحمّ المحيطُ،
ويهدي روائِحَهُ للقطا،
ولجُذمورِ سوسنةٍ في المراعي
تأخّر عنها وعنّي، الربيعُ قليلاً بِفعلِ الرطوبةِ؟
مَنْ قالَ إنّ الشعاعَ الّذي صارَ يقطنُ عينيّ
منذ رأيتُ يديْ تتجوّل بين فساتينِ جارتِنا
فوق حبلِ الغسيلِ المُطلّ على شُرفتي
لم يعدْ في الليالي حديثَ الصبايا؟
وهلْ أخطأتْ قطرةٌ من دمٍ هربتْ من عُروقِ الصليبِ
لتُظهِرَ، مثلي، آياتِها الطيّباتِ
على حِيَلِ المُفسدينَ ومَكرِ العُصاةِ؟
كأنّي خرجتُ بما جعلوا جسدي عبرةً،
بينما لمْ أجدْ وطناً
غيرَ ذاكَ الّذي لا يزالُ يعيشُ معي في المرايا.
لِمَنْ يتركُ الضوءُ عينيهِ في الليلِ
حتّى يرى ظلّه يتفقّدُ في الغدِ قامتَهُ؟
لمْ أعدْ أكتفي بالهواءِ النحيلِ
الّذي يتنفّسهُ سارقو الماءَ من بئرِنا.
تلكَ حريّتي أنْ ألُمّ بقايايَ وحدي
كمنْ مزّقتْ دمَهُ في الجهاتِ الشظايا.
وكيفَ  تموتُ الزهور، كحقلٍ من القمحِ، في المزهريّةِ،
مُستوحشٍ
دونَ أنْ يُدرِكَ العاشقونَ
بأنّ الكلامَ عن الحبّ أيضاً يجفّ إذا قيلَ؟
لكنّني لمْ أجدْ محضَ جدوى
لأقرأ ما لا يراهُ سوايَ على الميّتينَ وصايا.
بمَنْ تحتمي الريحُ، مثلي، إذا ارتطمتْ بالجبالِ؟
أنا مَنْ سقيتُ العِطاشَ،
وفجّرتُ بين السهولِ البعيدةِ هذي الينابيعَ،
لكنّهمْ ردموا بالحجارةِ بئري الوحيدة،
وما كنتُ أرمي، بلا رحمةٍ مثلهمْ، جسداً بالخطايا.
وكيفَ تُطيلُ النجومُ المكوثُ، كذاكرتي، في سماءٍ فَقدْتُ
بِما يُشبِهُ وطناً ضيّعتهُ الخريطةُ في غفلةٍ عنهُ.
ما عادَ لي غيرُ هذا الهباءِ
فكيفَ أقاسِمُ طائفةَ الشعراءِ الّذينَ رأوا النجمَ يتبعُني
كِسرةً مِنْ سَمايَ.
وأيّ الطواحينِ تكفي ليمضي الهواءُ إلى شأنِهِ،
وتكفّ الرمالُ الّتي اشتبهتْ بالحصى
عن زيارةِ تلكَ القُرى في الجزيرةِ؟
للنفطِ عاداتُهُ،
وأنا مَنْ يبشّرُ ماءً يطفّ على السدّ
إنّ حروبَ الطوائفِ لا تنتهي قبلَ أن يأذنَ الأبعدونَ،
وينتصرَ الأقربونَ
الّذينَ يحبّون شعرَ العمودِ،
وحَلقَ الشواربِ دونَ اللحى،
والسبايا.
وأنّى تربّي الغُصونُ الّتي قصّفتْها القذائفُ، وسطَ الخرابِ المقيمِ، صغارَ هديلِ الحمائمِ؟
لمْ يجدوا في رسائلِنا،
بعد عشرِ سنينَ منَ الحربِ،
غيرَ عناوينِ مَنْ دُفنوا تحتَ أشلاءِ دُورٍ مهدّمةٍ،
أو مضوا خلفَ تلكَ البحارِ الغريبةِ كي يكبروا بين أحفادِهمْ.
لا يُصدّقُنا غيرُنا مذْ خرجنا، كدُمّلةٍ فقأتْها التواريخُ، من صُحُفِ الأوّلينَ
بِسَقطِ البغايا.
وعمّنْ تردّ المناراتُ، منهكةً كَكَثِيبٍ بأثقالِهِ، ظُلُماتِ البحارِ الأخيرةِ؟
ليسَ الشراعُ،
ولا هَرَجُ الموجِ بينَ عِراكِ قراصنةٍ متعَبينَ مِنَ الرقصِ فوقَ الحبالِ،
ولا سُفُنٌ تركَ القِرْشُ فيها العظامَ لِعِفّةِ تلكَ الطحالبِ،
لا المائلونَ على جنباتِ الشواطئِ رتلاً فرَتْلاً
لكي يحرسوا من رُقى اللاجئينَ نُفورَ الأساطيرِ
أو ثرثراتِ الحضاراتِ،
أو مَنْ أتوا خلفهمْ بأيادٍ بلا شرُفاتٍ،
وأفئدةٍ عَلِقتْ بشُقوقِ المجاذيفِ،
لم يجدوا في حقائبِ مَنْ لجأوا للشمالِ مواسمَ أسلافِهمْ،
كلّ ما سوفَ يحدثُ أنّا نؤاخي الحصى في مجاري الينابيعِ.
نحنُ بقايا الخميرةِ في ضِيْقِ أرغفةٍ فسُدتْ
لمْ نعدْ في ممالكَ قتلى الحروبِ الأخيرةِ غير بقايا.
إلامَ تظلّ الوعولُ تقلّدُ في غابةٍ، عبثاً، قُنفُذاً داهمتْهُ الوحوشُ،
وتحلمُ، مثلي، بأنْ يتعلّمَ ممتهنو الصيدِ تربيةَ النحلِ،
أو يجعلوا خشبَ السهمِ نايا.
وكمْ مرّةً ستصدّقُ سيّدةٌ كلبَها المتعجرفَ، ذاكَ الّذي عضّني أمسَ،
دوني،
ويقسِمُ كلً الشهودِ بأنّي مشيتُ على ظلّهِ بعدَ مُنتصفِ الليلِ
ما عدتُ أذكُرُ إلا لأنسى.
لأنّي تقاسمتُ ذاكَ الرصيفَ مع الغرباءِ أضعتُ خُطايَ.
ومِمّ تخافُ البلابلُ حين يحومُ الغرابُ على شجرٍ في الجِوارِ؟
كأنّ الأغاني الّتي كلحتْ في الصناديقِ
مثلَ رسائلَ حبّ قديمٍ،
تُعجّلُ موتَ المغنّي.
أنا شاعرٌ ثارَ حبرُ الكلامِ عليّ،
وما أخطأتني يدايَ.
ومَنْ سوفَ يَأوي الطبيعةَ، بين الحرائقِ والطَوَفاناتِ، كاملةً
مثلما كنتُ،
أو يتفقّدَ سَيْرَ الكواكبِ فوقَ سُطوحِ البيوتِ الّتي سكَنتْ لي،
ومن سوفَ يرجو شهاباً عجوزاً، كصبّارةٍ تتألّمُ، ألا يخرّ قريباً مِنَ الديرِ.
ما خُنتُ عهدي،
لكنّني سوفَ أخلو إلى جسدي
كي أرى ما الّذي سوفَ يحدثُ بعدي.
كمنْ يتلمّسُ عينيهِ بينَ دُوارِ الضحايا.
ومالي، ولنهاياتِ أبطالِ أسطورةٍ سقطوا في مخيّلةِ المُتحفِ الوطنيّ

أنا شاعرٌ خصّني الموتُ بالموتِ ذاكَ الّذي يتمهّل بي موتَهُ.
عدتُ حتّى أضيءَ سراديبَهُ بِهباتِ رؤايَ.

شاعر فلسطيني مقيم في موسكو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية