لا يترك المسرحي محمد عبد الفتاح لقارئه المفترض من خلال «الياقوت» إمكانية التخمين في نوع ما يكتب من مسرح، فهو يعلن صراحة من عتبات النص أنه مرتجلة، في محاولة منه لتوريط القارئ في أفق هذا النص، وأعتقد – والحالة هاته- أنه قد أصاب هدفه، إذ أن كل أدب حقيقي هو الذي يكون باستطاعته تعديل أفق توقعنا كقراء. محمد عبد الفتاح يبدع من داخل اشتغاله الأكاديمي والميداني أيضا، فهو يكتب بقناعة العارف بشؤون التجربة المسرحية في المغرب في تنوع خرائطها، بينما يروم على وجه التخصص جانبا لا يقل أهمية يرتبط بالتجريب المسرحي، من خلال بحثه الجامعي المعنون بـ»بناء المرتجلة في مسرح محمد الكغاط»، ولذلك فعمله المسرحي «الياقوت» ما هو إلا طلقة من طلقاته التجريبية التي يواصل فيها خطه الإبداعي الرامي إلى إرساء مشروع مسرحي مبني على التجريب، وما يتيحه للمسرحيين من آفاق إبداعية رحبة، استجابة لداعي العشق والغواية المسرحية الميدانية التي راكم فيها القدرة على الخلق والإبداع، بما أن الدراما ترتكز على الفعل قبل الأدب أو الكتابة النصية، كما أقر بذلك أرسطو، من خلال الانفتاح على دور الشباب، والانخراط في تجربة مسرح الهواة، والمسرح الجامعي، ومسرح الطفل، وشغفه المستمر باقتناء كل إصدار جديد في مجال المسرح، فضلا عن انخراطه الدينامي في الكتابة والمتابعة النقدية لمجموعة من القضايا ذات الصلة.
قبل الخوض في عوالم «الياقوت» أود بتركيز دقيق أن أشير إلى بعض الأهداف التي تروم المرتجلة تحقيقها من خلال المسرح، ولعل خير تعبير يمكن الاستعانة والإفصاح من خلاله عن مقصدية استراتيجية المرتجلة، ما جاء على لسان الراحل محمد الكغاط صاحب المرتجلات المغربية الثلاث (المرتجلة الجديدة، مرتجلة فاس، مرتجلة الشميسة لالة): «خير وسيلة لتبليغ مواقف المسرحيين إلى الجمهور»، بمعنى أن النص المرتجل يصبح خطاباً يقوم على تعرية القضايا والمشاكل التي يتخبط فيها رجال المسرح، بهدف أن يطلع عليها الجمهور، من خلال تقنية التمثيل داخل التمثيل. يقول خالد أمين: «يمكن اعتبار المرتجلة صيغة احتفاء بالنسخة والزيادة، تدخل فيها إيواليات صناعة الفرجة المسرحية غمار التمسرح، منتجة انعكاساً ذاتيا يحيلنا إلى ذات المسرح وماهيته أكثر من أي شيء آخر». أريد أن تنطوي مقاربتي هاته على محورين اثنين:
■ الخصائص أو الخصوصيات:
الخصائص أو الخصوصيات: تنبني مسرحية «الياقوت» على جملة من المؤشرات الدالة على طبيعة النص، وتعزز انتماءه إلى فن المرتجلة، يمكن الوقوف على أهمها:
□ العنوان الفرعي للمسرحية «مرتجلة للمسرح».
□ التعريف الذي يقدمه المؤلف عبد الفتاح في بداية الكتاب عن الارتجال والمرتجلة.
يقول الباحث جمال الدين الخضيري في مقال له بعنوان: «الارتجال والمرتجلة في المسرح المغربي»، «كما أن المسرحي محمد عبد الفتاح في مسرحيته «الياقوت» يضع عنواناً فرعياً لهذه المسرحية، ويحدد طبيعتها بعبارة مرتجلة للمسرح، ثم إن المقدمة التي وضعها لمسرحيته يتحدث فيها بوضوح عن الارتجال والمرتجلة، وجاء متنه المسرحي واعيا بتاريخ المرتجلات ومساراتها على لسان شخصية المخرج الموظفة في المسرحية المخرج: مزيان، كتعرفوا الارتجال، والإمكانات الهائلة اللي كيتيحها بالنسبة للممثل، وكتعرفوا بأن أعظم النصوص المسرحية في تاريخ المسرح العالمي هي مرتجلات: الضفادع ديال أرسطوفانيس ق 6 ق. م، مرتجلات سوفوكليس، يوربيديس، وأسخيلوس، مرتجلة فرساي ديال موليير…».
□ البرولوج (التقديم) أو الاستهلال من خلال تعرية وكشف الشخصية الرئيسية في النص.
□ ازدواجية اللغة بين الفصحى والعامية لاستهداف أكبر شريحة ممكنة من المتلقين.
□ مخاطبة المتلقي بلغة تتسم بالكثير من الجرأة (الكشف والتعرية).
في حوار المخرج مع الفتاة، يقول المخرج:» ما تسبقيش الأحداث، على أي مزيان، إيوا طلقي شويا.
الفتاة: أنا مطلوقة ص23.
النيابة العامة للقاضي: «أنظروا إليها هذي إيمان بطلة المسرحية اللي قتلها هاذ المجرم بطل المسرحية غفلها وقجها بعد ما وهمها بلي باغي يبوسها…» ص37-38.
فضلا ًعن الحوار بين الممثلين الثاني والثالث ص15.
□ تبادل الأدوار بين الممثلين.
□ ثمة عنوانان لمقطعين من المسرحية يدلان أيضا على طبيعة النص كمرتجلة من خلال المقطع الثالث المعنون بـ»ميتاتياتر» والمقطع الحادي عشر «نهايات خارج المتن المسرحي».
□ خاصية التناص أيضا المتمثلة في استحضار مقطع للشاعر الفلسطيني محمود درويش ص35.
ثم موال أندلسي ص38.
فضلا عن أشعار حرة.
تأثر الكاتب ـ هنا ـ بكتابات محمد الكغاط المرتبطة بالمرتجلات جعلته يؤثت نصه انطلاقا من شخصيات خلفت صدى لديه اضطرته لاستدعائها، مثل شخصيتي: القاضي والشاعر المستمدتين من مرتجلة فاس.
□ النهاية المفتوحة التي عمد محمد عبد الفتاح إلى جعلها مجالاً لتوقعات المتلقين وفق ما يناسب قناعاتهم النفسية والاجتماعية والثقافية والجمالية أيضاً.
□ اعتماد النص في بنائه الدرامي على أحد عشر عنواناً بمثابة مقاطع لهذه المرتجلة عوض التسميات المتعارف عليها، كالمشاهد والفصول، وقد جاءت هاته العناوين تباعا كالتالي:
1- البداية ص13.
2 – ومن العشق ما قتل ص16.
3 – ميتاتياتر ص22.
4 – شكون قتل الياقوت؟ ص28.
5 – الشاعر في برولوج متأخر جدا ص33.
6 – إيمان تلعب دور الياقوت ص36.
7 – مسرح… وأشياء أخرى ص43.
8 – الممثل الثاني عاشقا ص48.
9 – الياقوت تقرر الرحيل إلى مدينة مهجورة ص50.
10 – السوفلور ص60.
11 – نهايات خارج المتن المسرحي ص66.
2 – القضايا:
قلنا في محور الخصوصيات بأن المرتجلة هي خير وسيلة لتبليغ مواقف المسرحيين إلى الجمهور، وإنها انعكاس ذاتي يحيلنا إلى المسرح ذاته وماهيته أكثر من أي شيء آخر، إذ أن أغلب المرتجلات ينصب موضوعها في النقد الاجتماعي والسياسي والأخلاقي أو الفكري… كذلك الشأن بالنسبة – مثلاً – «لمرتجلة فاس» لمحمد الكغاط التي تطرح فيها ثيمة أساسية تتعلق بتحريم المسرح، وتجريم محاكمة أصحابه، حينما استحضر رسالة الفقيه المغربي أحمد بن الصديق المعنونة بـ»إقامة الدليل على حرمة التمثيل».
يقول الكغاط على لسان شخصية المنادي:
« آهيا اسيادنا ما تسمعوا إلا خير:
قالكم الكونترول سيفيل
التأليف ممنوع
الإخراج ممنوع
التمثيل ممنوع
الضحك ممنوع…»
يقول سعيد الناجي: «لا يتعلق الأمر – هنا ـ بتحريم المسرح من أصله، كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكن بمصادرة التجريب في المسرح، ومحاولة الوقوف ضد كل محاولة تجديد وتجريب..».
وبالعودة إلى مرتجلة الياقوت لمحمد عبد الفتاح، وانطلاقاً من العنوان الذي يُحيل إلى نوع من الأحجار الكريمة، وهو من أكثر المعادن صلابة بعد الماس، ولونه غالبا ما يكون شفافا مُشَربا بالحمرة أو الزرقة أو الصفرة ويستعمل للزينة. يمكن القول إن «الياقوت» كشخصية رئيسية في المرتجلة هي بؤرة دلالية كبرى تجذب إليها باقي الشخصيات الأخرى، لأنها موضع إثارة، وهو ما نطلع عليه بشكل مكشوف، حين يجعلها المؤلف تعرف نفسها للجمهور في البداية أو (البرولوج): «أنا الياقوت سفيرة الأنوثة النسائية في العالم…» ص14.
كما يعرفها المخرج في ص63:» الياقوت امرأة عربية، الياقوت أسطورة..».
استناداً إلى هذين التعريفين المكشوفين لشخصية «الياقوت»، وبناءً على علاقتها بشخصية الشاعر في المقطع الثاني من المسرحية والمعنون بـ»ومن العشق ما قتل» يمكن الوقوف على تلك العلاقات الثنائية الرومانسية التي أغنت موروثنا العربي والإنساني عامة. فحضور الشاعر في المسرح يكتسي بعداً ثقافيا تليداً في المخيال العربي، على اعتبار أن الشعر هو ديوان العرب وجماعة أفكارهم وثقافتهم وعوائدهم، وكأني بالمؤلف – هنا- يبحث في شبه نوستالجيا عن الزمن الجميل الذي حظي به الشعر والشعراء بالفخر والاعتراف والمجد. هذا الاستحضار يرومه بغاية فضح وتعرية واقع مثقل بأشكال التهميش، تغيب فيه الثقافة، ويندحر فيه الشعر كموروث ثقافي وما يتعالق معه من آداب وفنون ومن ضمنها المسرح.
فعلاقة الشاعر بالياقوت تذكرنا مثلا بعلاقة قيس بليلى، وعنترة بعبلة، وابن زيدون بولادة، وروميو بجولييت، وغيرها من قصص العشق والغرام في التراث الإنساني. فالياقوت هي المرأة، هي الأنثى، قد تتخذ لها أسماء مختلفة، لكنها قد تدل على المجتمع، الوطن، ذلك أن حب هذا المخلوق بصدق وإخلاص بعيدا عن المصالح، ما هو إلا رمز لحب الوطن والإخلاص له أيضا. يقول المؤلف على لسان المخرج: «اعترفوا الحب ماشي عيب، الحب فضيلة، المرأة في مشروع هذا العمل المسرحي ممكن تكون سميتها أي اسم من الأسماء اللي ذكرتوا.. إيمان، سهام، بلقيس.. الياقوت» ص24… «ودابا غتخيلوا معايا هذه المرأة هي رمز للوطن كفاش كتخيلوها؟ ص25.، فضلاً عن هذه الدلالة يمكن الوقوف على جملة من القضايا نتوقف عند بعضها:
1- إبادة وتعطيل الفعل المسرحي.
2 – الضحك على ذقون المتفرجين عبر الممثل الفاشل:
جاء على لسان الممثلين الثاني والفتاة
«الثاني: هاذي طرات بصح، واحد المخرج مرة مشينا لعندو بغانا في شي عمل.
الفتاة: ومن بعد؟
الثاني: سولنا واش عندنا شي سوابق في المسرح.
الفتاة: سوابق!؟
الثاني: معلوم، ﯕلت ليه سبق لي قتلت زوج مسرحيات وقجيت مسلسل» ص45.
وأيضا حواره: «أنا راني كنت خانز فلوس.
الفتاة: إيه؟!
الثاني: مشاو الفلوس، بقا غير الخنز..ونا نولي ممثل» ص46.
□ المتاجرة في مصالح الناس، وشراء الذمم في الانتخابات. جاء على لسان المناضل2: «صوتوا على المرشح لمفروح، اللي ف الما كيسبح وف السما كيربح.. المرشح لمفروح شرا للرجالة بلاغي، وللعيالات شرابل، ولكن بلاتي غاتخذوا فردة دابا، والفردة الاخرى حتى ينجح» ص56.
□ غياب العدل والإنصاف من خلال شخصية القاضي وفضاء المحكمة، وكأني بالمؤلف يستحضر هنا التحكيم المسرحي الذي تدور حوله الشبهات في تقييم العروض المسرحية، بحيث يتم اعتماد الزبونية وتبادل المصالح.
يقول القاضي: أنا قاضي ديمقراطي.. ما كنقولش أنا قاضي كامل مكمول، الكمال لله عز وجل، ولكن فيا شي براكة النزاهة والديمقراطية (بتسكين نون النزاهة دلالة على الزهو).
□ إعادة الاعتبار للمسرح باعتباره رمزا للحضارة والفن، قول المخرج في الصفحة 44 «لا حضارة بدون مسرح»
□ التحرش في الميدان المسرحي:
يقول القاضي: – كنقسم فمي بالله بللي أنا قاضي نزيه، وحق هاذ النعمة (يشير إلى الفتاة التي تكشف عن طراوة ذراعيها).
يمكن القول إن مرتجلة الياقوت للمسرحي محمد عبد الفتاح هي محاولة جادة في مسار المرتجلات في مسرحنا المغربي، ذلك أن المؤلف بحكم رصيده الأكاديمي، وثقافته الميدانية طيلة سنوات نجح في بناء عالم درامي يتأسس على المرتجلة، وتشكيل فضاء لعبي يحضر فيه التمثيل داخل التمثيل بنَفَس يهدف إثارة بعض القضايا التي يعرفها المشهد المسرحي المغربي دونما إغفال الحس الكوميدي الذي يذكرنا بطبيعة المرتجلات المسرحية في الغرب والوطن العربي على حد سواء.
كاتب مغربي
نور الدين الخديري