وغدت قصيدة النثر منبراً للقوّالين

يرى جيم فيرير ( إن إحدى السمات البارزة في الشعر الحديث هي إصراره على أن يكون فن الأقلية ). وهي سمات كتابية اعتمدها شعراء الحداثة لتدمير تقاليد التلقي وتفكيك المنظور التقليدي للغة والشعور والتعبير. على اعتبار أن الشعر فن تمرد وليس حالة امتثالية لما هو قائم وسائد، وبالتالي فإن هذا النمط من النصوص جدير بأن يُتَأمّل، ويُتبَّتل به، عوضاً عن إلقائه على صقيع المنبر. فالشاعر الذي يرفع صوته، حسب تعبير ويستان أودن، إن هو إلا دجال في لبوس شاعر.
ذلك يعني أيضاً، أن الشاعر الحديث، هو كائن ضد فكرة الكثرة. ولن يكون حديثاً تماماً، بالمفهوم الرامبوي، إلا عندما يعاند هوى الجمهور. وينذر خطابه الشعري لما يتنافى مع ذوق البرجوازية الخاملة. من خلال التزامه بالتعبير الجمالي الصرف. الذي قد يتسبب في قطع صلاته مع الذوق أو الحسّ العام. وهو الأمر الذي أثار حفيظة فئات إجتماعية لا ترى في الشعر إلا صدى لما يتردد في داخلها من هواجس وأجراس. كما تسبب في قطيعة أكاديمية من قبل الذهنيات النقدية الأصولية، التي لم تجد فيه ما يتناسب مع اعتياداتها المنهجية.
ومع ظهور قصيدة النثر في العالم العربي ارتفعت شعارات تحطيم المنبر، والإكتفاء بقراءة النصوص الشعرية في حالات إختلائية حميمة. في البارات والباصات والمراكب البحرية والحدائق العامة. وذلك على إيقاع تظاهرات إنقلابية ساخطة تطالب شعراء قصيدة النثر بلبس قمصانهم بالمقلوب. في إشارة إلى تحدي الذوق العام. وزحزحة مواضعات القول الشعري. وتأسيس جماعات شعرية أشبه ما تكون بالعصابات الخارجة على وصايا المؤسسة الأدبية، المتولّدة في حضانات المؤسسات السياسية والدينية والإجتماعية.
وبالفعل صارت قصيدة النثر العربية تتشكل بعيداً عن اشتراطات الجمهور. وبمعزل عن رعاية المؤسسة. بدون أي استجابة لإغواءات المنبر. حيث كانت المجموعات الشعرية تُطبع في كراسات صغيرة، وبأعداد محدودة، من جيب الشاعر. تماماً كما كان يحدث مع الشعراء الحديثين أمثال بودلير ووالت وايتمان. إلا أن كل ذلك انهار بسرعة وصارت قصيدة النثر، التي يفترض أن تكون هي التعبير الفني والموضوعي عن الحداثة، تهرول نحو ما كانت تعانده وتزعم أنها منذورة لتحطيمه.
المهرجانات الشعرية اليوم، التي تتبناها المؤسسة وترعاها، تزدحم بشعراء قصيدة النثر الذين يتكاثرون كالفطر. وهي مهرجانات أكثر من أن تُعد. وتقام في مختلف الأقطار العربية. لدرجة أن بعض هؤلاء المنتسبين للشعر يقضون معظم وقتهم متنقلين من بلد إلى آخر، ومن مهرجان إلى مهرجان. ويعتقدون أن الدعوات التي توجه إليهم للمشاركة، إنما تعني في المقام الأول إعترافاً بشاعريتهم، وإيماناً بأهمية قصيدة النثر كلون إبداعي.
والحقيقة أن عملية الإستقطاب والإحتفاء تلك ما هي إلا خطة مدروسة أشبه ما تكون بالمسمومة. التي تنتقص من فاعلية قصيدة النثر، وتتركها عرضة للتآكل على صقيع المنبر ومتوالية المهرجانات، ما بين الفلاشات والصور التذكارية، فالمنبر لا يُنتج قصيدة حقيقية بقدر ما يفرّخ طابوراً من ( القوّالين ) الذين يوطّنون أمراض القصيدة القديمة.
ومن المثير للدهشة والإستغراب أن ينبعث السؤال بين آونة وآخرى عن الطريقة المُثلى لاجتذاب الجمهور. وكأن معيار الشاعر والشاعرية تقاس بذلك الكم من المستمعين. وهو الأمر الذي يفسر لهاث معظم شعراء قصيدة النثر وراء الجمهور. حيث صارت القراءات تؤدى فروضها في كل مكان وسط ضجيج السيارات والتهاء المارّة بحركة الشارع وبين أقدام المتسوقين في المراكز التجارية. وكأن الشاعر قد تحول إلى متسولٍ يزحف بكل ما أوتي من شبق للشهرة والجماهيرية ناحية الناس. بدون أن يميز ما بين المتلقي والمستمع والقارىء والجمهور. الأمر الذي دفع فئة عريضة من منتجي النصوص المدهونة بقشرة حداثية إلى تخفيض مستوجباتها الفنية والموضوعية لاكتساب أكبر قدر من المعجبين.
أما معضلة النشر فقد تم حلها بسهولة وكرم من المؤسسة التي تكفّلت بطبع ركام هائل من المجموعات الشعرية وتوزيعها كهدايا في كل المناسبات. فيما ظهرت دور نشر متخصصة في استحلاب الناشئة وأشباه الشعراء. لتتكدس المخازن بهباءات لا علاقة لها بالشعر. إذ صار المتلقي العادي، وليس الناقد وحسب، يتحاشى موافاة فئة من الطارئين على قصيدة النثر، لئلا يحمّله عبء هدية لا تشبه المجموعة الشعرية إلا من الناحية الشكلية.
والأكثر غرابة أن هؤلاء القوّالين صارت لديهم الجرأة لرفض أي ملاحظة نقدية، بحجة أنهم لن يخضعوا خطابهم الشعري لمتطلبات المناهج النقدية. وأن نصوصهم تختزن من التمرد ما لا يفقهه النقاد. وهي حيلة معلومة النوايا، للنأي بكل منتجهم عن المساءلة. في الوقت الذي تبدأ فيه خربشاتهم من حافة مساءلة الذات الإلهية.

كاتب سعودي

محمد العباس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية