“بيروت بعد الـ40” يوثّق تجربة المخرج في 4 آب
بيروت-“القدس العربي”: “بيروت بعد الـ40” عنوان فيلم وثائقي من توقيع المخرج أنطوني مرشاق الذي عاش هول كارثة تفجير المرفأ من مسافة 600 متر. بعد أربعين يوماً استوعب الصدمة وقرر العودة إلى المكان الذي كان فيه وبرفقة الكاميرا. فالصدفة شاءت أن يغادر من كان معه الأستوديو للوقوف على أصوات الانفجارات المتتالية، وترك الباب مفتوحاً، فنجيا معاً من أن يكونا صورتين على جدار.
في الطب تلتئم الجراح بعد 40 يوماً، وكذلك حال النساء بعد الولادة حيث يتعافين كلياً. اعتقد مرشاق أنه تعافى نسبياً بعد الـ40 يوماً. إنما تبين له أن إلتئام جراح النفس لا يخضع لوحدة قياس أو معيار. بكى الشاب بحرقة، واستنجد بالعذراء في المكان الذي دخله بصعوبة تماماً كما خرج منه في 4 آب/اغسطس 2020 بعدما “بلعت حالي” كما قال. تذكر ارتطامه ووقوعه وجراحه.
انطوني مرشاق مخرج درس مهنته ويعيش منها، شاءت الصدفة أن يتواجد في قلب حدث لم يشهد العالم مثيلاً له، فكان من البديهي توثيقه من خلال تجربته الشخصية، وبكل واقعية واحساس. بنى مسار فيلمه منطلقاً من الحيثية التي حتّمت وجوده في الجميزة وفي هذا الأستوديو بالتحديد، ومن ثمّ كل من صادفه في طريقه إلى المستشفى.
في الحقيقة وصل انطوني مرشاق إلى الأستوديو بحدود السادسة، لإجراء كاستينغ لمحمد الذي يهوى التمثيل. فقد كان المخرج بصدد فيلم بعنوان “خيط تماس” جال لأجله في مناطق لبنانية من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب باحثاً عن ما يجمع بين الشباب اللبناني، والهدف التحريض للبقاء في الوطن. وفي طريقه إلى الأستوديو شاهد محمد النار تلتهم المرفأ، صوّر وأرسل الصور إلى مرشاق، مرفقة بتعليقات الناس في الشارع “راح البّور” أو “يا عدرا”؟
في مسار “بيروت بعد الـ40” استعان المخرج بما سجلته بعض كاميرات المراقبة في المنطقة التي عبرها، واختار منها مشاهد، وأشار إلى مساره بسهم أحمر بين الجميزة وشركة الكهرباء بحثاً عن محمد. واستعان بتلك الكاميرات باحثاً عن من ساعده بالوصول إلى مستشفى الروم الذي كان ساحة مليئة بالدماء والجرحى والخراب.
هذا الوثائقي الذي يسرد تجربة شخصية موجعة يخرج من الخاص إلى العام، لأنه بالتأكيد يشبه عشرات إن لم يكن مئات التجارب للجرحى الذين سقطوا من جرّاء هذا التفجير، والذين انتقل أكثرهم إلى المستشفيات بمساعدة الدرّاجات النارية. صاحب الدراجة النارية أتاح لأنطوني أن يتصل بوالديه مطمئناً إياهم عبر هاتفه. لم يسأله عن إسمه لكنه حفّظه على هاتفه بـ “خلّصني من الانفجار” ولاحقاً صار فؤاد. سأله في الوثائقي “ليش وقّفتللي”؟ جاء الجواب: “بدي وقف لمية حدا… تنذكر وما تنعاد”.
فيلم “بيروت بعد الـ40” مرشح للعرض في مهرجان برودواي الدولي في دورته الـ14 في تشرين الأول/اكتوبر المقبل. وسبق أن فاز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان البرازيل الدولي للعام 2021. وفاز في مهرجان جنوب أمريكا بجائزتي أفضل فيلم وثائقي وأفضل مخرج، بعد منافسة مع أفلام عدد من الدول من بينها كندا، واليابان وإيطاليا.
مع المخرج أنطوني مرشاق هذا الحوار بمناسبة مرور عام على الكارثة:
*”بيروت بعد الـ40″ يجول في المهرجانات ويحقق نجاحاً. ما هو السبب برأيك؟ وما هي التعليقات التتي سمعتها؟
**يكمن السبب في صدقه المطلق وكونه حقيقيا ويعبّر عن معاناة شخصية، هي في الوقت نفسه معاناة كل لبناني. ربما أشبه في هذا الوثائقي حوالي عشرة آلاف لبناني أو أكثر، كانوا منتشرين على مسافات مختلفة من مكان التفجير. وكل منهم تلقى ما حصل بطريقة مختلفة. ربما يشكل “بيروت بعد الـ40” ذاكرة الناس. خارج لبنان حيث تمّ عرض الفيلم أمام الجمهور كانت ردود الأفعال والتعليقات مشجعة، كمثل ما كتبه لي رئيس أحد المهرجانات السويسري الجنسية. إذ قال أن الـ25 دقيقة التي هي زمن الفيلم تضمنت تكثيفاً كبيراً للمشاعر، وأطرافاً عدّة في حين أنك كنت قادراً على فعل ذلك بجهد أقل. من جهتي قررت أن لا يضيع أي تفصيل يمكنني أيصاله للمشاهد. ولم أختصر ولو ثانية من المعاناة التي عاشها الجرحى وكل من تواجدوا في المكان. رغبت بأن يشعر المشاهد كائناً من كان بتلك المعاناة، ليكون على تماس حقيقي مع خسائرنا الإنسانية والمادية الفادحة في ذلك اليوم الدامي. ليس هذا وحسب، بل كذلك التغيير الذي طرأ على حياة اللبنانيين في ذاك اليوم.
*كنت بصدد فيلم “خيط تماس” فصرت بحاجة لمحو الخطوط المؤلمة من داخلك عبر فيلم آخر؟
**”خيط تماس” هو الخيط الأحمر الذي نشاهده في الفيلم، والذي يذكرنا بعلم لبنان، وبالمشاكل التي كنا نلتقي حولها. هذا الخيط الأحمر أردته واصلاً بين الشباب اللبناني، فهم أينما كانوا يعيشون في الشمال أم الجنوب يعانون المشكلات نفسها. أردت هذا الرابط بينهم بهدف حثّهم لعدم الهجرة، والعمل ليكون لنا وطنٌ يحترمنا. هذا الخيط انقطع مع تفجير مرفأ بيروت التي كانت تشكل صلة الوصل بين كافة مناطق لبنان. من جهتي بتُّ عاجزاً عن المرور في بيروت من أجل متابعة تصوير فيلم “خيط تماس” رغم إلحاح فريق العمل.
*كم حررك فيلم “بيروت بعد الـ40” من الكابوس الذي عشته؟
**بل أعاد فتح جراحي. بدأت التصوير بعد الذكرى الأربعين بيومين، واسترجاع الذاكرة بالمكان ذاته كان صعباً. وكان الأصعب لي أن أتواجد في لحظات طالما سعيت لنسيانها. وكلما شاهدت الفيلم مجدداً تنتابني مشاعر الضيق نفسها. كان الفيلم عاجزاً عن نقل المشاعر بدقة، إنما نقل ما يفوق الـ95 في المئة من الحقيقة. لم يحررني الفيلم مطلقاً، وما زلت إلى اللحظة أجفل من كل صوت مرتفع. لم يكن هدفي منه ذاتيا، بل ليبقى الحدث قائماً في الذاكرة، وأن نعمل لغد أفضل.
*هل استعدت الروائح والأصوات خلال التصوير؟
**بل هي لم تغادرني ولا يزال الضجيج في أذنيَ. تركت الأشياء والمشاهد كما هي وبخاصة لحظة حصول الانفجار. ولم أكن حيال مشهد درامي ولا مشهد تمثيلي.
*هل وضعت الخطوط الرئيسية للفيلم؟
**فقط القرار بأن يكون فيلماً واقعياً. ولم أكن أعرف ماذا سأرى في تلك المنطقة. وإن كانت سيارتي في مكانها، أو إمكانية دخول الأستوديو مجدداً؟ تركت مدير التصوير يتبعني. وبالتدريج إكتملت عناصر القصة بناء على مساري بعد التفجير. لم يكن حاسماً أنني سألتقي الطبيب، لأني كنت أجهل إن كنت سأرى فيلم كاميرا المراقبة أم لا؟ مستشفى الروم سمح لي بمشاهدة تلك اللقطة وسأل الطبيب رأيه في أن يكون من ضمن الفيلم، ووافق. وهكذا أكملت العناصر بعضها ولم يكن ممكناً غض الطرف عن أحدها. في الواقع محمد كان العنصر الوحيد المحسوم حضوره سلفاً في الفيلم. وحده الشاب الذي ساعدني لدخول الأستوديو بحثاً عن النظّارات والهاتف لم أتمكن من التعرُّف إليه.
*يبدو أن مشاعرك هي التي رسمت مسار السكريبت؟
**بل الذاكرة والمشاعر. في الأيام الأولى التي تلت الانفجار شعرت بأن ذاكرتي متعبة. لاحقاً بدأت تتكون وبالتدريج. تضافرت مشاعري مع ذاكرتي واستوعبتُ ما حصل معي، وعندما احتلّ الوعي مكان اللاوعي قررت تنفيذ الفيلم، وبعد التواصل مع معالجتي النفسية عبر الهاتف لأخبرها بقراري. فهي رافقتني لمرحلة معينة بعد التفجير لأنني كنت أستيقظ من نومي مضطرباً وغيرها من الانعكاسات. سألت معالجتي النفسية إن كان حضوري في تلك الأمكنة مجدداً سيتسبب بأذيتي؟ وكان ردها: عندما تشعر بأنك جاهز لتكون هناك إفعل. صراحة لم أكن في كامل جهوزيتي، إنما فضّلت الفيلم على نفسي. وإن كان من واجب المخرج الفصل بين المشاعر الشخصية وعمله، فمن جهتي أعترف أني نجحت أحياناً وفشلت في أحيان أخرى. حرصت كي لا يوصم الفيلم بالشخصي، ولهذا أمتنع حتى الآن عن عرضه في لبنان. والهدف الأساسي من الفيلم مشاركته في مهرجانات دولية ليرى العالم مدى معاناتنا في ذلك اليوم المشؤوم.
*هل وجد صديقك نيقولا أبيه الذي كان على المرفأ؟
**كل من شاهد الفيلم يسألني عنه. نعم وجده وقد تعرّض لجروح. وتكرار السؤال يحمسني لأرفق الفيلم بما يسمّى مشاهد لم تُعرض لتكون الجواب لهذا السؤال.
*كم من الأفلام ستصور عن تفجير 4 آب في رأيك؟
**الحكايات لا حصر لها ونقلها إلى الشاشة ضروري. كنت أتمنى لو امتلكت الامكانيات كي أحمل الكاميرا وأنزل إلى الشارع لأسأل الناس الذين مروا بتلك اللحظات المؤلمة وأتركهم يفضفضون. من المؤكد أن تدوين ذاكرة الناس حتى وإن لم تُعرض على الشاشة أمر قد يريحهم. ومن المؤكد أن كثيرين تألموا أكثر مني بأضعاف. منهم من فقد أعضاء من جسده، ومنهم من فقد أحبة أمام عينيه. ثمّة أوجاع يستحيل وصفها.
*كانت لك مشاركات دولية منذ فيلم التخرج “هيك بدّن” كيف وصلت سريعاً إلى هذه المهرجانات؟ هل للصدفة دور؟
**ربما. شكل الفيلم القصير “هيك بدّن” مشروعي لنيل الماجستير من معهد الفنون في الجامعة اللبنانية. يتناول الفيلم حقوق المرأة اللبنانية انطلاقاً من المادة 528 من القانون اللبناني. بعد انجازه أرسلته للمشاركة في عدد من المهرجانات. وبعد مشاهدته استصافتني العديد من تلك المهرجانات. وهنا ليس للصدفة وحدها أن تدعمني، بل العمل.
*عرس ومحكمة وحياة زوجية في 16 دقيقة طول فيلم “هيك بدّن”. لماذا خطرت لك هذه الفكرة لمشروع الماجستير؟
**تجذبني الموضوعات الواقعية والاجتماعية وعندما كنت بصدد البحث عن موضوع لفيلمي، كان يجري بحث واسع في لبنان حول إلغاء المادة 528 التي تقول بتزويج المُغتصبة من مُغْتَصبها كي لا يدخل السجن. علمت أن المادة ألغيت، وأن مفاعيلها لا تزال سارية المفعول. وإنطلاقاً من هذا بنيت سيناريو الفيلم الذي كانت خلاله عائلتين تبحثان عن “السترة”. وينتهي الفيلم بقول العروس “هيك بدّن بس أنا مش هيك بدّي”.
*ستكون في تشرين الأول/اكتوبر المقبل في برودواي خلال عرض الفيلم؟
**صحيح وسيشكل “بيروت بعد الـ40” افتتاح الدورة الـ14 لمهرجان برودواي في لوس أنجلس. وقريباً سأباشر تصوير فيلم قصير عن قصة حب حقيقية عنوانه “مش للبيع”.