يشهد عالمنا المعاصر فوضى إعلامية كبرى ،في شتى مفاصله خاصة الأخلاقية منها ،رغم تبنيه لعدة نظريات كان يفترض بها ان تقود المجتمعات المعاصرة للبناء وتحقيق حلم الحق في الإعلام ، ونشر الحقيقة والمعلومة دون مغالطة او تزييف.
لدقة وحساسية المعلومة وقدرتها الرهيبة على الشحن،فالإعلام سلطة حقيقية كاملة الأركان ،ومؤسسة نافذة في المجتمعات ،لها أسسها الإدارية والمالية التي تخضع لها أي مؤسسة إقتصادية اخرى،وبالتالي القدرة على الجذب ومنه القدرة على التوجيه.
ويتبنى عالمنا بشقيه الشرقي والغربي نظريتين إعلاميتين تبدوان ظاهريا غاية في الإختلاف والتنافر،لكنهما متطابقتان من حيث النتائج ، ونبدأ بالصحافة الحرة في الغرب، والتي تعتمد مبدأ الحرية المطلقة في الإعلام،وحق الفرد في تبني الأفكار وإمتلاك الوسائل الإعلامية مرئية كانت او مقروءة ،لنشر معلوماته او أفكاره ايا كان نوعها ،سياسيا او إقتصاديا او ثقافيا ،وأيا كانت خلفيته الفكرية التي ينطلق منها، وكان للقانون دور غاية في الأهمية بهذا الخصوص،حيث تكفل كل المواثيق و المعاهدات والدساتير التي يتبناها الغرب هذا الحق وترعاه.
لكن الذي نتج عن هذه الحرية المطلقة،ليس إعلاما حرا ومسؤولا،بل إعلام الإبتزاز والإبتذال وإقتحام خصوصيات الناس ،وتقديم مواد إعلامية تختص بالجريمة والعنف ،وإغراق الجمهور في حاجاته الثانوية فقط، وإنتقال مهمة الصحافة من الإعلام الى الدعاية .
والسبب يعود للبنية الأساسية التي يقوم عليها او يتكئ، وهي رأس المال،فالمال هو المحرك الأساسي لكل المؤسسات الإعلامية، لذلك هو لا ينظر للجمهور إلا نظرة المستهلك الذي يجب إستمالته بشتى الطرق حتى بمخاطبة غرائزه لكسب أكبر قاعدة جماهيرية، وبالتالي القيام بمهمة التوجيه .
ولأن إرتباط المال بالسياسة أمر بديهي لا يختلف عليه إثنان تقاطعت المصالح السياسة مع الإقتصادية وبالتالي تغولت المؤسسات الإعلامية وإحتكرت الفضاء والورق وحتى العالم الإفتراضي على الشبكة العنكبوتية،فهي تعتمد استراتيجية القضاء تدريجيا على كل منافس لها بالتكتل والإحتكار المطلق للمعلومة.
والقضاء على المنافسة الحقيقية يفتح المجال أمام القائمين على هذه الإمبراطوريات لتشتيت إنتباه الجمهور وإغراقه في نفسه وتلبية حاجياته بوعي منه او بدونه،وحتى تلقينه إيديولوجيا وحقنه ضد أي خصم مفترض في العالم ،وما الإسلاموفوبيا ببعيدة عنا وما آلت اليه أوضاع المسلمين عندهم ،حتى أصبح ينظر لكل مسلم كإرهابي مفترض، قد يفجر نفسه في أي لحظة.
والعالم كله شهد الشحن الإعلامي الذي سبق إحتلال العراق عام 2003 في وسائل الإعلام الأمريكية،وإقناع الجمهور الأمريكي بوجود أسلحة كيميائية في العراق.
والكثير منا كذلك يذكر كيف كان ينظر للأفغان ايام مقاومتهم للسوفيات ،وكيف اصبحوا الآن في الإعلام الأمريكي على سبيل المثال.
والنوع الثاني الغني عن التعريف في العالم العربي على سبيل المثال هو الإعلام السلطوي الذي شهد في الواقع مرحلتين اساسيتين في تاريخه:مرحلة الإحتكار المطلق لوسائل الإعلام على ضحالتها وقيامها بالمهمة المقدسة «التلقين المذهبي»والمناداة بكل ما تراه السلطة صائبا في السياسة والمجتمع والإقتصاد وكل شيئ آخر ،وإعتبار الإعلام مؤسسة من مؤسسات الدولة عليها واجب الإمتثال لكل أوامر النظام السائد،ومراقبة المواد الإعلامية قبل بثها وأثناء البث.
أما المرحلة الثانية عرفتها الدول العربية بفضل الطفرة المعلوماتية ،وتيقن الأنظمة من المحيط الى الخليج ان ما يمنع نشره في الإعلام الرسمي يمكن الإطلاع عليه على الشبكة العنكبوتية،مما إضطر الأنظمة إعتماد القنوات الفضائية الخاصة، مع تشديد من نوع آخرفي النواحي القانونية، ومع ذلك قلة قليلة جدا من هذه الصحافة المرئية او المقروءة او الإلكترونية انعتقت حقيقة من السلطة ،لسيطرتها المطبقة على أركان القضاء والإدارة ،وقدرتها على الإبتزاز والمناورة وحتى إعادتها الى دار الطاعة إن أبت إلا أن تتمرد وتصدح بحقها في الحرية.
ولأن مهمة النسخ واللصق حتى في السياسات الإعلامية يعتبر أمرا مباحا في عالمنا العربي، ظهرت شركات مقاولة تمارس الدعاية لا الإعلام تقوم بكل مامن شأنه خدمة الأنظمة السياسية وإطالة أمد حكمها، لأجل تثبيت مكانتها الإقتصادية ويضمن إستمرار تدفق المال عليها.
وإكتسحت البرامج الترفيهية «المخدرة»حقيقة في هذا الظرف الحساس من تاريخ الأمة ، وتم صرف أموال خيالية على هذه المواد لجذب فئة الشباب بشكل خاص كونه الأكثر قدرة على التغيير، وصرفه عن مطالبه الحقيقية المتمثلة في الحرية والعيش الكريم، أو إلهاء الرأي العام بقضايا تاريخية ماتت مع اهلها ،او كتاب او قصيدة وإقامة المحاكمات الصورية.
بينما الرأي العام مع او ضد او يندد بهذا أوذاك،أعمال السلب والنهب على قدم وساق، والإعلام يوجه لجهة واحدة من المركب .
وبذلك نجد أن الإعلام في كلا العالمين الشرقي والغربي يلتقيان عند نقطة التغيير الحقيقي،فكلا النهجين في الإعلام سواء هنا أو هناك يرنوان إلى هدف واحد هو التلقين المذهبي أو الفكري بما يخدم مصالح النظام ايا كانت شعاراته وإن تغنت بالحرية في الإعلام ،او تشبهت في عالمنا العربي وإدعت تصحيح المسار والإنطلاق نحو حرية إعلامية تؤرق مضاجع السياسيين.
على الإعلاميين في شتى بقاع العالم التكتل هم كذلك والمساهمة في تأطير قوانين تمنع إحتكار المال للمؤسسات الإعلامية، وتوجد في الحقيقة بعض المؤسسات الإعلامية تعتمد على تمويل القراء او المستفيدين ،وتضمن لهم جودة المعلومة والموضوعية وباتت تنتشر وتوزع في شتى الدول لمهنيتها الفائقة،فهذا شبه عقد بين الإعلام والجمهور على الجميع تقديسه وتبجيله،فمن حق الشعوب الإستفادة من إعلام واع ومسؤول ، يحترم الحقيقة ويقدمها دون كذب او نقصان، يرقى بالذوق العام ،ويحترم ثقافة الأمة،ويساهم بشكل جدي في بناء الدولة من خلال النقد البناء وإحترام الرأي والرأي الآخر ،والحفاظ على مكونات الشعب ،ونبذ إعلام الإبتذال والمبالغة ،وبذلك يقيم توازنا بين حرية الرأي والتعبير وبين مصلحة المجتمع وحماية إرثه الأخلاقي وخصوصيته التي تحفظ له ديمومته .
الإعلام إذا ما وظف بشكل ذكي ومدروس وسخر لبناء الدولة والمجتمع يمكنه ان يرتقي بهما الى مصاف الدول والمجتمعات العظمى،لقدرته الهائلة على الإختراق والتوجيه فهو بحق السلطة الأولى إذا ما لعب دوره الذي وجد أساسا ليقوم به.
منى مقراني
شكرا استاذة منى على هذا المقال الرائع ، الذي شمل الموضوع وعالجه من كافة الجوانب. لقد انتقل دور الاعلام من نقل الخبر، الى بناء رأي عام في المجتمع يمهد في النهاية الى صناعة الحدث الذي يخطط له .وهذا ما يلاحظ في الغرب. فمثلا موقف انجيلا ميركل من الحرب على العراق، التي كانت في تلك الفترة نائبة في البرلمان قد.يوضح الصورة. فلقد قالت ان هذه حرب بين الحضارة والرجعية وانها لو كانت المستشارة لارسلت جنودا المان الى العراق، وهذا ما رفضه المستشار الالماني جيرهارد شرودر في ذلك الوقت. تلقف الاعلام الصهيوني تلك التصريحات في ذلك الوقت وبدأت مرحلة التلميع وصناعة الحدث حتى تصبح ميركل مستشارة وهذا ما حدث بالضبط. حتى في اوروبا لا يوجد اعلام حر، بل لوبيات ورأس مال يسيطر على كل شيء، وبعض الصحف التي تغرد خارج السرب وتسير عكس التيار تعاني من ازمات مالية ادت الى اغلاق العديد منها. اما عن الاعلام في الوطن العربي، فهذا موضوع طويل ومعقد وشائك وفقت الاخت منى في تلخيصه ولكنه يحتاج الى دراسات، فالاعلام هو احد اسباب تخلف الوطن العربي بدل ان يكون سببا للنهضة الفكرية، فهو يهدر طاقات الشباب واموالهم واوقاتهم في برامج هابطة واخبار تافهة ومسلسلات بدأت تهدم قيم المجتمع، اما الاعلام الحكومي الرسمي فهو مايزال اعلام الخمسينات بامتياز، فاخبار لا تزيد عن استقبل وودع وهنأ وتباحث في صاحب السعادة او صاحب السمو او سيادة الرئيس في القضايا التي تهم الامة والنتيجة صفرا كبيرا. وبقي ان نناقش نوع جديد من الاعلام وهو ما تمثله القنوات الاخبارية العربية وهنا اود ان اقول ان بعض هذه القنوات شقت طريقا لا بأس به وهي بكل الاحوال تبقى افضل من القنوات الرسمية الا انها تعاني من الرقيب ومن اجندة الممول ومن ضغوطات من شتى الاتجاهات. فصورة الاعلام في العالم العربي سوداوية بامتياز ولا يوجد حسب رأيي الشخصي الا بعض الصحف التي تستحق القراءة وهي تعد على اصابع اليد الواحدة في وطن عربي يفوق تعداده السكاني 300 مليون . اشكر الاستاذة منى مرة اخرى على المقال المفيد
ما شاء الله تبارك الرحمن
والله مقال ممتاز وفريد ويناسب ما يحصل من أحداث هذه اليومين
أقتبس من كلامك ثلاثة أسطر لكي أسألك :
– فالمال هو المحرك الأساسي لكل المؤسسات الإعلامية، لذلك هو لا ينظر للجمهور إلا نظرة المستهلك الذي يجب إستمالته بشتى الطرق حتى بمخاطبة غرائزه لكسب أكبر قاعدة جماهيرية، وبالتالي القيام بمهمة التوجيه .-
والسؤال هو هل لو استثمر العرب بهذه المؤسسات الاعلامية نغير من نظرة الغرب لنا كمسلمين – حبذا لو أجبت على السؤال بتوسع بالاسبوع القادم
بصراحة يا أستاذة منى لقد استمتعت جدا بقراءة تعليقك الذي سأعيده هنا :
علی حامل القلم ؛ صحفيا او رساما او . او ان يعي جيدا انه يحمل رشاشا هو كذلك؛ وان رصاصاته تقتل خصمه هي كذلك.
هذان الشابان اللذان أقدما علی هذه العملية هما قتيلان وان كانت فيهم روح واقدام يمشون بها.
الرصاص قاتل ياأستاذي ايا كان مصدره كلاشنكوف او قلم حبر.
فعلينا توقع ردة الفعل عندما نقوم بالفعل.
وحي الله استاذنا الكبير أحمد مطر حين قال عن القلم :لا ياسيدي هذا يد وفم ؛ رصاصة ودم. وتهمة سافرة تمشي بلا قدم.
كل هذا يطلع منك يا أستاذه منى اليوم ما شاء الله لا قوة الا بالله
ولا حول ولا قوة الا بالله
شكرا جزيلا أخ د.رياض من المانيا ؛ وشكرا للأخ كروي داود وأعدك اني سأحاول الكتابة في الموضوع الذي طلبته مني ؛ في المرات القادمة.
دمتم بخير وعافية؛ وتقبلوا فائق تقديري وإحترامي.
لقد قلنا سابقا ان الاعلام في الدول العربية والاكثر في بعض الدول يحرك من قبل رجال الاعلام ولذلك تجد القليل من الصحفيين من يكتب كلمة فيها من الصدق وامانة الكلمة اما الاكثرية فهي التي تكتب كما يلقى اليها من السياسيين او رجال الاعمال لتوجيه الشباب عن الهدف الاساسي من الغاية من الحياة وللمستقبل الذي هو امل الشباب ولكن الشباب لم يحصلوا على الهدف من الحياة والمستقبل الذي يرجوه من تاءمين العمل والزواج والمسكن الذي لم يستطع تاءمينه ولا تؤمنه الدولة او الشركات الخاصة او حتى رجال الاعمال الذين استفادوا من نهب الاراضي لتعميرها وبناء شقق للشباب والاسر التي ليس عندها منزل تقيم فيه فلا خطط تنمية ولا خطط اقتصادية لاتاحة الفرصة للشباب ومساعدتهم على بناء مشاريع او ارض تزرع لتاءمين المستقبل فلا مبارك ولا السيسي ولا الحكومة قدمت عرضا او مشروعا الا برفع الدعم عن السولار والاسمدة عن الفلاحين ومنع الطلاب الممتازين المتخرجين من ابناء الشعب بالتعيين لاءن الحصص في التعيين لابناء الطبقة المخلية التي اعتقدنا اننا تخلصنا منها ولكن عادت مع مبارك والسيسي وزمرتهم الفاسدة ولذلك يجب التخلص منها باءسرع ما يمكن بثورة على الطغاة والدولة البوليسية البغيضة 0
للأسف وطننا العربي يبدو انه لم يدرك بعد ما للاعلام من سلطة ومن تاثير في تنمية الموارد البشرية واستغلالها احسن استغلال
وحتى ان ادرك فانه يوظفه في التسبيح بحمد الحاكم وتعداد مناقبه واحصاء عدد زفراته وانفاسه … ويجعل رقابة النظام مسلطة عليه كمان عليه الشان منذ سنوات بالمغرب اذ كان وزير الداخلية هو نفسه وزير الاعلام (:
شكرا لك سيدتي على هذا التحليل الموفق جدا وعلى هذه الرسائل القوية التي ازهرت في موعدها المناسب تماما
تحية لقلمك القوي مبنى ومعنى
شكرا جزيلا اختي العزيزة ماجدة من المغرب الشقيق؛ وشكرا لابراهيم بن عمر علی التعليقات القيمة.
مساءكم سعيد.