بعيداً عن المزاج السوداوي والتشاؤم والميل إلى النكد، إلى غير ذلك من الحالات المزاجية السلبية التي قد أتهم بها ـ الأمر الذي ربما لا يخلو من قدرٍ ضئيلٍ بالطبع، من الصحة ـ فلن أنكر أن سعادتي الحقيقية والصادقة بزيارة الرئيس السيسي للكاتدرائية المرقسية للتهنئة بعيد الميلاد المجيد لم تطل؛ وليس مرد ذلك إلى أيٍ من المذكور أعلاه، ولكن لأنني ومع إقراري بذكاء الحركة وحسن توقيتها وبراعة إخراجها وحصافتها وحاجتنا الماسة إليها، لم ألبث أن أتذكر أموراً وتفاصيل أخرى، كتصريحه في الأزهر وما أحدثه من هزة من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى خبر إدراج أسامي بعض الاشتراكيين الثوريين على قائمة الإخوان المسلمين ومصاردة أملاكهم وأرصدتهم المنعدمة.
من ناحية تصرفات قد توحي بالذكاء وحسن التخطيط، أو وجود هدفٍ واضح نوعاً ما، ومن ناحيةٍ أخرى سقطات تؤكد معاني الحماقة وانعدام الحرفية أو الكفاءة، ولا تملك حين تراقب هذه الأمور جنباً إلى جنب سوى أن تتساءل إلى أين نحن ماضون؟
وعلى الرغم من كوني لست قاصداً هنا التعمق في تحليل مسألة معقدة كتجديد الخطاب الديني، ولا أوجه القصور والتسرع في حركته تلك، ففي يقينــــي الشخصي أن السيسي اختار المناسبة الخاطئة، وألقى أو قذف بتلك الدعوى على أسماع الجمهور الخاطئ، شيوخ الأزهر. كما أنني أرى أن المعنى والمقصود بهذه التصريحات في الأساس هو الخارج، وتحديداً ذلك التحالف الذي ترأسه أمريكا لمحاربة الإرهاب المتأسلم، بالطبع الذي خرج عن الخطة المرسومة وعن السيطرة… السيسي ببساطة يقدم أوراق اعتماده.
لن أسأم من تكرار ما قلته من قبل، السيسي ابن هذه الدولة بامتياز، ضابطٌ منضبط يؤمن بهرمية القيادة والسلطة… يؤمن بالجيش، ولعل تلك السمة الوحيدة التي أرى فيها تشابهاً مع الرئيس الراحل عبد الناصر، يراه محور الدولة والسلطة، وهو كذلك واقعياً في بلدٍ كمصر، حيث يمثل الضامن الأول والركيزة الأساسية للنظام وأداة قوته الأكبر والأخيرة، كما أثبتت أحداث السنوات الأخيرة، ناهيك عن أن كوادر الهيكل الإداري والوظائف المفصلية للدولة بدءاً من الرئيس ومروراً بالمحافظين يتم انتقاؤها منه… لذا فلا شك في أن التضعضع الذي منيت به الدولة راعه، وهو الآن يبذل كل ما لديه لترميم هذه الدولة، ومحاولة بسط هيبتها التي ينتقص الإرهاب أطرافها، واهتزت جماهيرياً طيلة سني الحراك الثوري، ومن هنا لا بد أن نتناول زيارته للتهنئة بعيد الميلاد، من منطلق لم الشمل وبسط الهيبة والحضور، وإسدال مظلة الدولة لتشمل الجميع كمواطنين، وهو أمرٌ محمود ولا يضير في حد ذاته على أي حال… لكن كل تلك التحركات أو الحركات لا ينبغي أن تجعلنا نغفل البعد الخارجي والأهم في رأيي… لقد جاء السيسي مدعوماً من محور السعودية – الكويت- الإمارات على أساس ضبط الأوضاع في مصر وتحجيم حالة الفوران الثوري، ومن ثم وأده إن أمكن، ومحاربة الإرهاب والتصدي لإيران أو على الأقل الحد من تغولها وتوسعها، وإنه من خلال ذلك المنظور يتعين قراءة الكثير من قراراته وتحركاته… خطوات عملية على طريق تنفيذ ذلك المشروع – المصلحة المشتركة وإثبات قدرته على الوفاء بمتطلبات ذلك الدور، وبالتالي صحة الرهان عليه في المقام الأول.
أمــا داخــــلياً، فإن شـــيئاً تقــــريـــباً لم يتــغــــير… business as usual كما يقول الإنكليز.. وكأننا نستأنف من حيث توقفنا مع مبارك، فالانحيازات كما هي بدون تغيير مع مراعاة ما يتبع تغيير رأس السلطة من تغيير المطبخ والمقربين وحصول الجيش والشركات التابعة له على حصةٍ أكبر من العقود والمشاريع المدنية، لكن ذلك لن يترجم نفسه في صورة مكاسب اقتصادية واجتماعية تحدث تغييراً نوعياً في حياة المواطن العادي، الذي نزل إلى الشارع مطالباً بالتغيير.. غير أن الأهم والأفدح في نظري هو عودة منظومة الأمن السياسي إلى ممارسة دورها بشراسة غير مسبوقة، حيث اكتسبت منحى انتقاميا جعلها تنطلق مسعورةً بشهوة الثأر والدم وراء كل من تظن أن أنفسهم سولت لهم المساس بها أو التطاول عليها.. والنتيجة أنها ترتكب حماقاتٍ تجعلها تفقد هيبتها وتصبح أضحوكة الجميع كضم الشيوعيين إلى قائمة الإخوان.
للأمانة فإن ذلك هو ما يصيبني بأعمق الدهشة… كيف يتعامل ذوو المصالح وأجهزة الأمن مع كل ما حدث من غليان وكأن شيئاً لم يكن؟ أي قدرٍ من الغرور والجهل والبلادة يتطلب توفرها لكي يستطيع المرء نسيان وتجاهل أحداث السنوات الماضية؟ بالتأكيد أكثر مما يمكن لعقلي القاصر أن يتصور.
إذا كانوا استكانوا لما يرونه من انطلاء أكذوبة وأسطورة «مؤامرة 25 يناير» على قطاعاتٍ واسعة مرهقة وسئمة، فإن درساً آخر تعلمناه بعد ثورة يناير هو، أن الناس في فترات الفوران تعرف تغيراتٍ مزاجيةٍ حادة في زمنٍ قياسي من النقيض إلى النقيض، وبذا فالرهان على هدوئها النسبي والوقتي يتسم بالتسرع وعدم فهم طبيعة المرحلة، خاصةً حين يكون الثابتان الوحيدان تقريباً هما استمرار الوضع المتردي نفسه، أي الظرف الموضوعي للسواد الأعظم، و القمع وكبت الحريات نفسهما، أي باختصار الثنائية نفسها، التي أدت للحراك الثوري.
يبدو أن هناك تفاوتاتٍ وربما انقساماتٍ في السلطة حول كيفية التعامل مع ظاهرة 25 يناير التي باغتتها ما بين موقفين: محاولات التظاهر بتلبية بعض المطالب وبعض التنازلات البسيطة التافهة، التي لا تضير، والعودة إلى سياسية العنف المحض والاختراقات الأمنية، فإن لم يفلحا فالمزيد من العنف والاختراقات الأمنية، والكل يوحدهم الارتباك والتخبط والإيمان بضرورة عودة هيبة الدولة وسيطرتها والحد الأدنى من العنف، وليس من شك في أن هذا يثير سؤالاً مهماً أوجهه لمن ينتظرون الانتخابات البرلمانية معولين عليها في رسم خريطة طريق للإصلاح السياسي، والبرهنة على وجود عملية سياسية حقيقية: أي ديمقراطيةٍ تلك التي ستتحقق وتحدث تغييراً في ظل منظومة أمنٍ قمعية وبلهاء تتهم الشيوعيين بالعمالة للإخوان؟
في حديثه في الأزهر عرَّض السيسي بالشيوخ حين تحدث عن صعوبة رؤية الظاهرة أو الشيء من داخله… ولعل هذا الكلام لا ينطبق على مجموعةٍ كما على رجالات النظام الذين لا يستطيعون إدراك أن طريقتهم في التعاطي مع الأمور لم تعد تجدي وأن أي حل بدون التغيير الجذري لن يؤدي سوى للمزيد من الاحتقان والصدام، آجلاً أوعاجلاً.
لقد تحرك الناس في 25 يناير وتغير محيط مصر الإقليمي وقوى جديدة تصعد في العالم، ذلك واقعٌ لا يمكن تغييره والعودة للوراء باتت مستحيلة.
٭ كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
“من ناحيةٍ أخرى خبر إدراج أسامي بعض الاشتراكيين الثوريين على قائمة الإخوان المسلمين ومصاردة أملاكهم وأرصدتهم المنعدمة.”
يبدو أن ما يزعجك في هذه القائمة يا دكتور هو فقط احتواؤها على الاشتراكيين والشيوعيين أما اﻹخوان المسلمين فلا بأس أن من مصادرة أملاكهم فهؤلاء لا بواكي لهم.