رامسفيلد في العراق

أبّنه الرئيس بوش الابن بأنه «جعل أمريكا أكثر أمنا»، ووصفته الصحف بمهندس الاحتلال الأمريكي الفاشل للعراق، وجعلوا بذمته فضائح سجن أبي غريب، وتشفّى هنا بموته من تشفّى، وتشمّتوا، وطربوا ورقصوا بالمشعل مثلما يقول المثل، بينما ترحّم عليه آخرون، وكتبوا عنه في صفحات التواصل الاجتماعي خطبا وأشعارا، وكأنه ليس الرجل نفسه الذي ذمّه الفريق الأول، وقالوا فيه كلاما ينزله إلى أسفل سافلين. فما هو السرّ في ذلك، وكيف يستطيع الباحث الجمع بين طروحات مختلفة، تكمن تحتها نار مشتعلة؟ إنها أرض موحلة، وكي نحصل على موضع قدم فيها لابد أن نعيد القصة من البداية.
عندما كان نائبا للرئيس أحمد حسن البكر عقد صدام حسين مع شاه إيران اتفاقية الجزائر، وأعطاه نصف نهر العرب، مقابل أن يكفّ الشاه عن مساعدة الأكراد، وعندما حدثت الثورة الإيرانية قام صدام حسين بتمزيق اتفاقية الجزائر في حركة استعراضية في ملعب الشعب أمام الجمهور، الذي كان يهتف له، بدون أن يفهم شيئا مما يقول. قبل أن يهمّ بعمله كان يصيح بالجماهير: «هل أنتم موافقون؟»، وكان الرفاق يهتفون وينشدون، ولا يعلمون شيئا مما يقوله الرجل. وتناثرت قصاصات المعاهدة في الهواء، لتحطّ على رؤوس الجماهير التي أكملت اليوم كلّه بالرقص والهتاف. ثم اشتعلت الحرب العراقية الإيرانية، وقتلت مليون شابّ من البلدين، وأظهر تقرير الأمم المتحدة أن العراق هو المعتدي. لكن العرب، وبفهمهم المعكوس للأمور، أقنعوا صدام بأنه حارس البوابة الشّرقية، وصارت القمّة العربية في بغداد، وقام الحارس بتوزيع قلائد «الإيمان» على الملوك والرؤساء. ثم جاء حديث الجدّ، وطلب منهم تسديد تكاليف الحرب، الماديّة منها على الأقلّ.. لم يدفعوا له شيئا، وخلع الحارس الأبواب كلّها، وطلع مباشرة إلى الخزنة: احتلّ الكويت.

الاحتلال

جاءت حرب الخليج الثانية باثنين وثلاثين جيشا يحاربون جيشا لا يستحقّ قائده أن يكون جنديا في الجيش الأمريكي، والتعبير لنورمان شوارزكوف، وحدثت الانتفاضة، وحلّت بعدها الطامّة الكبرى: الحصار الاقتصادي. جاع العراقيون وماتوا من قلّة الدواء طوال عشر سنوات، وباعوا الثياب والأثاث والسقف والشّبّاك في سبيل أن يأكلوا، وكان من المشاهد العاديّة أن تدخل بيتا وتجد أنه مكشوف للسّماء، لأن صاحبه باع حديد التسليح، وباع الأبواب والشّبابيك وأنابيب المياه.. كلّ شيء، غير الأرض والحيطان، أما السيراميك الذي يغلّف جدران أيام الخير، فقد باعوها منذ زمان. وكان على العراقيّ الذي يريد مغادرة الوطن دفع 450 ألف دينار للسلطة، وهو صكّ التّحرير من العبودية، مبلغ مكلف جدا لأن راتب الموظف وقتها 3000 دينار، أي دولاران. باهظ جدا هذا الصكّ لكنه مُجزٍ. تشرّد العراقيون في كلّ أنحاء الأرض، وتبهذلوا، وماتوا من الجوع والقهر. وفي سورة هذه المعمعة يقرّر صدام حسين تحرير القدس، وأرسل الرّفاق إلى كلّ مكان يجمعون الشباب الذين سوف يتكوّن منهم «جيش القدس»، وهو جيش تطوّعيّ في الأساس، أي أنه في غير الخدمة الإلزامية، لكن المعاني عندنا تتمّ في العادة بالمقلوب، فالتطوعيّة تعني أن يُقبض على الرجال في أيّ مكان ويرسلوا في جيش يكون أولّه في بغداد وآخره في القدس الحبيبة، وهذا تعبير صدام. إنه يقصد حتما التخلّص منهم عن طريق الموت جوعا وعطشا وبهذلة، وإلا ما الذي يفعله هؤلاء المساكين مع جيش يمتلك قدرات نووية؟

يقول ديورانت الحضارة تقوم على مبدأين أساسيين هما الاستقرار والأمان، ويبدو هذا مثاليا في عراق ما بعد الاحتلال

أحلى أيّام العمر هي الشّهور التي سبقت الاحتلال، والشّهور التي أعقبته، قبل أن تبدأ المقاومة العراقية قلب الأمور على رؤوس أهل البلاد. منذ أن بدأت إذاعة «سوا» بالبثّ، صارت هيبة الدولة والحزب إلى أقلّ من الصّفر بكثير. احتلّ الجيش الأمريكي العراق مثلما لو كان البريطانيون في الحرب الأولى يدخلون والبلد خالٍ من الأتراك، أو أقلّ بكثير، فقد ذهبت العشائر في الماضي لمجابهة المحتلّ بالسّيوف وبـ»الهوسات»، أي الهتافات، وبالشعور الدينيّ والوطني. بينما دخلت الدبابات الأمريكية عراق صدام حسين وهي تسير على الطرق السّريعة، وكانت سرعتها حوالي 60 كيلومترا في السّاعة، وأكثر. عدا عن معارك محدودة جدا في الجنوب، لم يحدث قتال حقيقيّ بين الجيشين، العراقي والأمريكي، ولم يطلق شرطيّ أو رفيق حزبيّ أو مسؤول حكوميّ ولا إطلاقة واحدة، وشاعت بين الناس في تلك الأيام واقعة، ربما كانت تأليفا، وهي أن أحد الرجال من كبار السنّ واجه دبابة أمريكية بسلاحه الكلاشنكوف، وكان الجندي يراقبه بفضول من برج الدبابة الأعلى، ولمّا نفذ عتاد الشيخ صاح به الجنديّ: OK Go home. دخل الجيش المحتلّ البلاد، وصارت أحداث السرقات والنهب والسّطو المسلّح على أملاك الأغنياء، وخُطِفوا، وتمّت تصفية الحسابات مع أعضاء الحكومة البارزين والجيش والحزب بالقتل في أغلب الأحوال، ومن لم يلحق بالفرار من بيته لم يسلم حتى على الطفل في عائلته. ثم حلّ الأمريكيون أجهزة الشّرطة والجيش والإعلام، وأحالوهم على المعاش، وجرّ قرار «اجتثاث البعث» الكثير من الظلم بسبب سوء طويّة ونيّة بعض الذين جاؤوا إلى منصّة الحكم، وما تزال تبعات أحكامه تعود على الكثيرين بالحيف والإجحاف والظلم.

سجن أبو غريب

بالإضافة إلى هذا السجن الشهير، الذي يقع في بلدة أبي غريب القريبة من العاصمة بغداد، كان لدينا:1- قصر النهاية 2- سجن الحوت 3- الشعبة الخامسة 4- سجن الكرادة الكبير 5- سجن الفضيلية الكبير. وجميعها تقع في العاصمة. 6- نقرة السلمان، يقع في السماوة، وفيه تمّ دفن آلاف الأكراد وهم أحياء تحت التراب في عملية الأنفال. 7- سجن بادوش الكبير، يقع في الموصل، حيث جرت تصفية طائفية للسّجناء بعد استيلاء «داعش» على المدينة. 8- بالإضافة إلى سجون تضمّها كل مدن العراق، كلّ باسمها. 9- دائرة الأمن العامة في بغداد، ودوائر الأمن في جميع المحافظات. 10- سجون خاصة: وهي مبانٍ تحمل لافتات مموّهة، مثل دائرة البريد أو مديرية الأفران، وتمارس فيها عمليات تعذيب أشدّ. ولأجل إعطاء صورة عن هذه المؤسسات، أنقل وصفا ذكره المعماري رفعت الجادرجي عن غرفة أبعادها: متر ونصف المتر، ومتر، فيها ستة سجناء يقضون الليل والنهار، والفضلات يتمّ التخلّص منها هنا، ويكون النوم على الأرض مباشرة، ثلاثة في ثلاثة. لم يكن للجادرجي شأن في السياسة، وكانت تهمته أن أحد موظفي شركته اتّصل بمؤسسة معمارية أجنبية يسألها في شأن هندسيّ. وحُكم عليه بالسجن سنوات عديدة، ومرّ عليه في هذه الزنزانة سجناء مختلفون، ولكن لم يكن أيّ منهم سياسيا، ومن هؤلاء بلغه وصف المكان بأنه شيراتون سجون العراق.. وهنالك بالإضافة إلى ذلك عشرات أو مئات من ثكنات الاعتقال الخاصّة بالجيش والشرطة، والأكثر إيلاما للنفس هو موضوع المقابر الجماعية. حتى قبل سنتين، أو أكثر، كان عدد المقابر الجماعية المكتشفة في عموم العراق 365 مقبرة، بعدد أيام السنة الكبيسة. في كلّ يوم مقبرة، تضمّ رفات ألف نفس على أقلّ تقدير، أي أن رجال الحكومة السابقة دفنوا ربع مليون عراقي وهم أحياء تحت التراب. وهذا قليل، إذ كان على الحكومة السابقة دفن أضعاف هذا العدد من أجل أن لا تتعاون المعارضة العراقية في الخارج مع الأمريكيين على إسقاط النظام. الجميع أحرار في ما يقولونه عن الوزاء الراحلين، أما أنا فلا أستطيع أن أقرّر حتى الآن في ما إذا كان ما قاموا به كان فرصة عظيمة للبلاد، أم أنه كارثة سوف نظلّ ندفع ثمنها إلى مستقبل لا يرى مداه غير مقدّر الأقدار.
في مفتتح «قصة الحضارة» يقرّر ديورانت أن الحضارة تقوم على مبدأين أساسيين هما الاستقرار والأمان، وهذه الفكرة تبدو مثالية إلى أبعد الحدود في عراق ما بعد الاحتلال، فالزمان يسأل الشعوب أحيانا أن تختار بين غزال وأرنب، وحين ترغب في الغزال يعطيها أرنبا، وعندما تحتجّ يعرض عليها هذه المرة أرنبا عملاقا وآخر أقلّ حجما، فيسقط الأمر في يدها، وتقبل بقسمتها، يقول البياتي:
الفقراءُ
شربوا دموعهم
ودخلوا القفص
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عاطف - فلسطين:

    احمل الايام قبل الاحتلال والايام التي تلتها قبل ان تقلب المقاومه المعادله على رؤوس الناس؟

    1. يقول محمد شهاب أحمد:

      كأنّك في قلبي
      أحسنت!

  2. يقول أبو شهاب:

    كل ما ذكر لا يبرر تدمير العراق. وحكامه الذين تداولوا على حكمه بعد الاحتلال إلى اليوم عاجزون عن مواجهة الحقيقة التالية على بساطتها: إذا ضاعت السيادة على الوطن من أبنائه حل الذل والهوان على الجميع.
    صحيح أن أخطاء وفظاعات وقعت قبل الاحتلال ولكن العقل يقول لا يمكن إصلاح خطأ بآخر أشد منه شناعة. ولكن أين منا العقل يا أمة…؟؟؟

  3. يقول مزهر جبر الساعدي:

    لغرض التصويب: المعاهدة التي مز قها صدام في ملعب الشعب؛ كانت معاهدة الدفاع العربي المشترك،وصدام لم يمزقها، بل قرأ فقراتها…اما الغاء معاهدة عام 1975، فقد الغاءها في خطاب كتلفز قبل الحرب بايام ربما يومين او اكثر قليلا…النظام السابق؛ ارتكب عدة خطايا، من اكبرها، غزو واحتلال الكويت، الذي فتح الباب للاحتلال والغزو والحصار. ان هذا لايعني مباركة الغزو الامريكي واحتلاله للعراق في عملية تدمير ممنهج للعراق كدولة وشعب..عدة كتب صدرت باقلام كتاب امريكيين؛ تدين الغزو الامريكي واحتلاله للعراق، ومن ثم تدميره كدولة….بالوثائق…تحياتي

    1. يقول محمد شهاب احمد:

      ‎السيد مزهر
      ‎معارضة أمر خطأ بعد وقوعه ، شيء متأخر!
      ‎مع ذلك لا بأس بذلك ، إن عُمل على تلطيف آثاره.
      ‎المقياس الأنقى للوطنية العراقية الآن هو تجريم و إدانة الغزو و الإحتلال و المطالبة بالتعويض العادل للعراقيين من أمريكا و كلّ من سهّل الغزو .
      ‎و هذا ليس شهادة لصالح النظام السابق : لكن كمبدأ الجريمة لا تبرّر جريمة أخرى
      ‎مع التقدير

  4. يقول Omar Ali:

    الحل بوجود ديمقراطية حقيقية وليس ديمقراطية المليشيات وان تطالب الحكومة المنتخبة ديمقراطيا من كافة الدول التي ساهمت في حرب ٣..٢ بتعويض العراق عن الدمار الذي لازال يعاني منه العراق.

إشترك في قائمتنا البريدية