لندن ـ «القدس العربي»: رغم انطلاق جُل الدوريات الأوروبية في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، إلا أن تركيز الأغلبية الساحقة لعشاق كرة القدم الحقيقية، كان منصبا «كالعادة» على إثارة وجنون الدوري الإنكليزي الممتاز، وهذه المرة، ليس فقط لوصول المستوى التنافسي بين أندية البريميرليغ إلى مراحل غير مسبوقة على الأقل في العشرية الأخيرة، بل أيضا، لعودة الحياة إلى اللعبة برمتها، والتي تجلت في استمتاع المشاهدين بمباريات يفوح منها الضجيج والصخب، بحناجر حقيقية ملأت المدرجات، بعيدا عن الضوضاء «الافتراضية المزيفة»، وذلك للمرة الأولى منذ إعلان «كوفيد-19» جائحة عالمية في مارس / آذار 2020، وأمور أخرى جعلت العالم ينبهر بالبداية الهوليوودية للدوري الأشهر والأغلى على هذا الكوكب.
حصريات الدوري الإنكليزي
شهدت الجولة الأولى الكثير من اللحظات العاطفية والتاريخية، التي ستبقى عالقة في الأذهان لسنوات، منها على سبيل المثال، القصة التي هزت مشاعر الملايين مع إطلاق صافرة نهاية المباراة الافتتاحية، وكان بطلها ذاك الرجل المسن، الذي منحته الحياة فرصة لا تتكرر كثيرا في العمر، بأن يكون شاهد عيان على لحظات عودة ناديه المفضل برينتفورد إلى دوري الكبار للمرة الأولى منذ أكثر من 70 عاما. وفي واحدة من «ليالي ألف ليلة وليلة»، اكتملت بنهاية ولا في الأحلام، بإسقاط الكبير اللندني آرسنال بهدفين دون رد، وسط أجواء لخصتها دموع المشجع الطاعن في العمر، والبروباغندا العالمية التي أثيرت حوله سواء في ساحات «السوشيال ميديا» أو وسائل الإعلام البريطانية، التي ضخمت بدورها قصة كفاح برينتفورد العريق، الذي كان على بعد خطوة واحدة من العدم، بعد وصول أزمة الديون إلى نقطة النهاية، بحجز البنوك على أرض الملعب، إلى أن جاء نائب رئيس «بانك أوف أميريكا»، ماثيو بينهام، الذي استغل ذكاءه الحاد في إدارة المشاريع الاستثمارية وفراسته في مجال المراهنات، التي عززت ثروته الهائلة، لينتشل نادي مسقط رأسه من براثن الضياع والفناء، وفعلها بضرب عصفورين بحجر واحد، بإقراض الجماهير ما يقرب من 700 ألف جنيه إسترليني، لتسديد ديون الكيان، مقابل استرداد المبلغ في غضون 3 سنوات، ولأنه كان يعرف أن المبلغ لن يرد، وضع يده على العلامة التجارية، ليحوله إلى مصنع خام لاستكشاف المواهب، معتمدا على مجموعة من الكشافين أصحاب العيون الثاقبة، مثل تلك التي جاءت بالأعجوبة سعيد بن رحمة، الذي أنعش الخزينة بأكثر من 25 مليون جنيه إسترليني شاملة قيمة موسم الإعارة قبل تفعيل بند البيع الدائم لوستهام، وغيرها من الجواهر الثمينة التي أحدثت طفرة غير مسبوقة في تاريخ ممثل المقاطعة اللندنية، وصلت لحد رفع قيمته السوقية من 30 مليون بعملة المملكة إلى 300 مليون بنفس العملة بعد اكتمال الفصل الأخير للقصة بالصعود التاريخي لدوري الكبار، للمرة الأولى منذ ثلاثينات القرن الماضي، في ما كان أفضل «برومو» تشويقي في جمعة افتتاح حملة البريميرليغ 2021-2022، قبل أن تفي باقي مباريات السبت والأحد بكل الوعود، بتسع وجبات من النوع الدسم، أسفرت في النهاية عما وصفته «بي بي سي» بـ«الأشياء التي لن تجدها سوى في الدوري الإنكليزي الممتاز».
شجاعة الريال والبارسا لا تكفي
واحدة من أهم الأشياء التي صنعت هذه الهالة الإعلامية العالمية على البريميرليغ دون غيره من الدوريات، بما فيها الدوري الإسباني، هذا الكم الهائل من الأهداف والنسق الجنوني للمباريات العشر، التي انتهت بفوز طرف على الآخر، منها سبعة انتصارات لمصلحة أصحاب الأرض، في ما يعكس القيمة والفارق الكبير في نتيجة وتنافسية المباريات في وجود اللاعب رقم 1، الجماهير، وبدونه، وبلغت حصيلة المتعة 34 هدفا، وهو أمر لم يحدث في أي دوري أوروبي آخر، ولم يحدث منذ حملة الدوري الإنكليزي الممتاز 2003-2004، التي شهدت 36 هدفا في الجولة الافتتاحية، وهذا أثر بشكل سلبي على حجم المشاهدة والتغطية الإعلامية لليغا، حتى بعد البداية المبشرة للعملاقين، بفوز ريال مدريد على ديبورتيفو ألافيس برباعية مقابل هدف في عقر داره «مينديزوروزا»، وبالمثل تخطى برشلونة مضيفه ريال سوسييداد بنتيجة 4-2، وهذا يرجع إلى الملل الشديد من مشاهدة المباريات الصفرية، بانتهاء 3 مباريات بدون أهداف، ومباراتان بهدف لمثله وأخرى بهدف لهدف، وهذا النوع من المواجهات لا يروق للأغلبية الكاسحة لعشاق متعة المباريات، هذا بخلاف عزوف الملايين عن المشاهدة، تأثرا برحيل ألمع أساطير الليغا في السنوات الأخيرة، أبرزهم قائدا الميرينغي والبلو غرانا السابقان سيرخيو راموس وليونيل ميسي. في المقابل يعيش الدوري الإنكليزي على الترويج الناعم، الذي جعل البريميرليغ في عالم مواز لكل المنافسين، أشبه بالدوري الحلم، الذي تغار منه وتحسده كل فرق الدوريات الأخرى، لتمتعه بكل مقومات الإبداع والتنافسية على أرض الملعب، بقوة اقتصادية مرعبة لمعظم الأندية، بفضل سياسة «التوزيع العادل» لحقوق البث التلفزيوني، التي لولاها لما دون كاتب التاريخ في دفاتره، أن الفرق الثلاثة الصاعدة حديثا من «تشامبيون شيب» (الدرجة الأولى)، تمكن اثنان منها من تحقيق الفوز في الأسبوع الأول، بانتصار واتفورد على أستون فيلا بنتيجة 3-2 في مباراة بدت متكافئة، وبين فريقين متمرسين على النسق منذ سنوات، وليست بين الفيلانز الذي قهر ليفربول بالسبعة الموسم الماضي وبين واتفورد العائد مجددا لدوري الجبابرة، وسبقها برينتفورد بفوزه التاريخي على المدفعجية، فقط نوريتش سيتي انحنى على أرضه أمام محمد صلاح ورفاقه في ليفربول بالثلاثة، لكن هذا لم يقلل من حجم إنجاز الصاعدين، مقارنة بثلاثة فرق صاعدة فقط تذوقت طعم الفوز في افتتاح الموسم في 30 محاولة في آخر 10 مواسم.
مشاهدة مثالية
ربما من الصعب أن نتجادل على إيجابيات تقنية الفيديو (VAR)، أبسطها توفير أعلى مستوى ممكن من العدالة على أرض الملعب، لكن الكثير منا ومن المشاهير، ما زال لديه تحفظات على كيفية استخدام التقنية، أو بالأحرى الاعتراض على ملل قطع التشويق، عند المبالغة في مراجعة الكثير من الحالات، لعل أبرز المعارضين أولئك المعارضين لفكرة قتل الوقت في مراجعة القرارات، هو الأسطورة ومحلل قنوات «بي إن» الرياضية محمد أبو تريكة، لكن في الغالب سيغير الكثير من قناعاته وحكمه المطلق على التقنية برمتها، مثل كل من لاحظ التطور الملحوظ في استخدامها في مباريات البريميرليغ، الذي ارتكز على فكرة «تجاهل الأشياء الفرعية»، والتوقف فقط عند الحالات التي تستدعي تدخل حكم الفيديو. والأكثر إبهارا، عدم التلاعب بمشاعر الملايين، باتخاذ القرار قبل أن تكتمل رد الفعل الهستيرية على الهدف، وهذا يرجع إلى مرونة القانون، بالعودة مرة أخرى إلى قاعدة «الشك في مصلحة المهاجم»، التي ظهرت في لقطة هدف برونو فيرنانديز في مباراة الهاتريك أمام ليدز يونايتد. ذاك الهدف الذي قال عنه الخبير إيان رايت: «في الموسم الماضي كان من الممكن أن يحتسب تسللاً»، لكن بعد التعديل الجديد، يمكن القول أنه بالكاد انتهى وقت انزعاج الجميع، في «التدقيق والتفحيص» لقياس فارق السنتيمترات بين المهاجم وآخر مدافع، لأنه بموجب القانون أصبح «أي تداخل في الخطوط يذهب لمصلحة المهاجم»، وهذا ما طبقه الحكام الإنكليز بشكل شبه مثالي في مباريات الجولة الأولى، وأثار إعجاب المشاهدين، بعودة جزء كبير من الصورة المحفورة في الأذهان عن اللعبة الشعبية الأولى على مستوى العالم، كلعبة جماعية أشبه بالعرض المسرحي، الذي يذهب من أجله الآلاف إلى المدرجات ويتابعه الملايين من وراء الشاشات، للاستمتاع بكل لحظة من الـ90 دقيقة بين أقدام اللاعبين، وليس لاستهلاك الوقت بتوقف دقيقتين أو ثلاثة للتأكد من القرار في الفيديو. لكن يُحسب للاعبين والمدربين، مرونتهم مع الحكام وتقبلهم تجاهل الكثير من الحالات، التي كانت تستدعي تدخل حكم الفيديو حتى وقت قصير، ويبقى التحدي الحقيقي، أن يحافظ الجميع على نفس السلوك، مع بدء فترة الضغط وانفلات الأعصاب حين تتعاظم قيمة الثلاث نقاط، سواء للمتنافسين على اللقب أو المقاتلين من أجل البقاء بين العظماء، لتستمر نفس المشاهدة المختلفة عن باقي الدوريات.
نسخة خارج التوقعات
صحيح أنه من المستحيل التنبؤ بالبطل، على الأقل حتى نهاية فترة ضغط المباريات في فترة أعياد الميلاد آخر السنة، لكن الفرق المرشحة للذهاب بعيدا، بعثت رسائل على مستوى الطموحات والأهداف بعد الاستعداد الجيد للموسم، مثلا مانشستر يونايتد، الذي أنفق ما يزيد على 100 مليون إسترليني لتدعيم صفوفه بصفقات بحجم جادون سانشو والفرنسي رافاييل فاران، عرف كيف يطلق تحذيراً شديد اللهجة، باكتساح ليدز يونايتد بخماسية كانت قابلة للزيادة للضعفين مقابل هدف يتيم، كدليل عملي على أن المدرب النرويجي أولي غونار سولشاير، وصل للمرحلة الأخيرة في مشروعه، الذي تسلمه بعد طرد جوزيه مورينيو في أواخر 2019، بتحكمه في توليفة سحرية لا ينقصها أي شيء لكسر عقدة الشياطين الحمر مع الألقاب، من نوعية أغلى مدافع في العالم هاري ماغواير والمشبع بالخبرات فاران في محور الدفاع، وعلى اليسار المتوهج لوك شو، وفي الوسط فنانون بدرجة برونو فيرنانديز وبول بوغبا، وفي الثلث الأخير مفاتيح لعب وسفاحون بخفة وحيوية سانشو ودهاء وخبرة إدينسون كافاني والبقية إلى أن يعود ماركوس راشفورد. ونفس الأمر ينطبق على الطامع الكبير في اللقب، وهو تشلسي، الذي كشر عن أنيابه وكشف عن شخصيته كبطل لأوروبا كما ينبغي أن يكون، بدهس الجار الجنوبي كريستال بالاس بالثلاثة، في مباراة شهدت لحظة عاطفية للصغير تريفوه تشالوبا، لحظة توقيعه على هدفه الأول أمام الحشد الجماهيري الأزرق في «ستامفورد بريدج»، وقد استهل توماس توخيل وكتيبته الموسم بهذه القوة والشراسة، قبل الاستعانة بخدمات الدبابة البشرية روميلو لوكاكو، لانشغاله بالإجراءات الروتينية لنقله من الإنتر إلى بيته القديم في غرب لندن مقابل ما يزيد على 90 مليون جنيه إسترليني، فما بالك عندما يجتمع مع العدائين تيمو فيرنر وحكيم زياش وكاي هافيرتز، بالتأكيد سيكون للبلوز شأن آخر في نهاية الموسم، بشرط أن تسير الأمور كما يخطط لها العبقري الألماني، أن يواصل الفريق نسقه التصاعدي الحاد، بأقل عدد من الانتكاسات، التي عانى منها الفريق في أغلب أوقات الموسم. ولا يختلف وضع ليفربول كثيرا عن منافسه المحتمل تشلسي، هو الآخر استعاد الكثير من نسخته الحادة، التي كان عليها قبل خسارة فيرجيل فان دايك في بداية الموسم الماضي، ورغم أنه لم يستعرض قوته في الميركاتو كما تتطلع الجماهير، بالاكتفاء بضم إبراهيم كوناتي مقابل 40 مليون جنيه إسترليني، إلا أن هناك مؤشرات لعودة الأمور إلى نصابها الصحيح، بتحسين واضح في الخلل الذي عانى منه الريدز الموسم الماضي، خاصة في الدفاع ومنطقة العمق، التي كانت مستباحة في خضم أزمة الإصابات، فقط يتبقى لكلوب وفريقه، الحفاظ على نفس الشخصية والعقلية، التي أعادت إلى الأذهان صورة ليفربول المخيف، بدفاعه الحصين ووسطه المتماسك، وقبل هذا وذاك هجومه الفتاك، بقيادة هداف الحقبة محمد صلاح، الذي حصل بدوره على أفضل دفعة معنوية للحفاظ على عادته المفضلة، إما بالفوز بجائزة الهداف أو المنافسة عليها حتى الرمق الأخير، بعدما نجح في تحقيق رقم قياسي استثنائي بعدم التوقف عن التسجيل في المباراة الافتتاحية للموسم الخامس تواليا. ولاحظ عزيزي القارئ، أننا لم نتحدث بعد عن حامل اللقب والمرشح فوق العادة للقتال عليه مانشستر سيتي. صحيح بيب غوارديولا انحنى أمام دابته السوداء نونو سانتو وتوتنهام، لكن هذا لا يقلل من فرص السكاي بلوز، ومن شاهد المباراة رأى الكم الهائل من الأهداف التي أهدرها رحيم ستيرلنغ ورفاقه، بطريقة جعلت دانيال ليفي يبتسم ابتسامة ماكرة، كأنه يعرف أنه السبب، بعدما عرقل صفقة هاري كاين، لتأتي مواجهة السيتي ضد توتنهام، لتظهر مدى حاجة غوارديولا الماسة لقناص بجودة وكفاءة أمير الديوك، إذا أراد البناء على ما أنجزه في الموسم الأخير، أو على أقل تقدير لتعويض معدل أهداف الأسطورة سيرخيو أغويرو، وإذا فعلها ونجح في إطلاق سراح كاين من «توتنهام هوتسبر»، أو تعاقد مع بديل بنفس الجودة، فلن يكون خارج دائرة المنافسة على اللقب، في وجود قطعة نادرة مثل جاك غريليش بجانب رياض محرز وباقي المبدعين، الذين ينقصهم جلاد حقيقي داخل مربع العمليات، وهذه مؤشرات لنسخة مختلفة للبريميرليغ، باتساع دائرة المنافسة بين أكثر من فريقين على أقل تقدير، وليس بالطريقة التي الباردة التي انتهت بها النسخ الماضية، باستثناء التنافسية الشديدة حتى الأمتار الأخيرة بين المان سيتي واليونايتد في حملة أغويرو 2011-2012، وقتال الريدز والسيتي حتى إطلاق صافرة نهاية موسم 2018-2019، فهل يكتمل سحر الدوري الإنكليزي بمنافسة ثلاثية على اللقب؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام. مشاهدة ممتعة للجميع بالسوبر ليغ الحقيقي.