«سوق الجمعة»: خلطة السينما التجارية بمُنكهات الطعم المغشوشة!

القيمة الاعتبارية للمُقتنيات القديمة وبقايا التحف ونفائس الأشياء، هي الخلفية التي تأسست عليها الرؤية السينمائية للكاتب محمد الطحاوي في فيلمه «سوق الجمعة» ذلك السوق الموجود بالفعل في أحد الأحياء العتيقة في القاهرة، الذي اتخذ منه الطحاوي مسرحاً للأحداث، في محاولة منه للدخول إلى أغوار العالم الغامض الذي تتجاور فيه السلع الرخيصة جنباً إلى جنب مع المُقتنيات الثمينة والتحف النادرة.
هذا الاستهلال يليق بأجواء الفيلم، الذي اختلطت فيه الأحداث والأشخاص بالقضايا الكبرى، على أرضية السوق الشعبي المليء بنوعيات البشر، من حرافيش وفتوات وبلطجية ووافدين من مختلف المناطق والأحياء، وهو لا شك فيه، المكان المناسب لعرض ما تحويه مدينة القاهرة المُتسعة لملايين السكان، وما تطويه من أسرار وخبايا يصعب اكتشافها على الأغراب من غير أبناء الحي المُحيطين بدواخله ومضامينه، حيث يشير السوق باكتظاظه واكتنازه ورواده ورجاله المُخضرمين في البيع والشراء والمُضاربة، إلى المجتمع كله الذي يحمل من صفات السوق وملامحه ما يؤكد العلاقة بينهما.
في بداية الأحداث تطوف الكاميرا لتعرض لنا صورة شاملة لشكل السوق من الخارج، فنرى الزحام عنواناً رئيسياً يُنبئ بما يحدث في الداخل من مشاجرات ومشاحنات ومعارك صغيرة بين المتنافسين من التجار، وتطالعنا الشخصيات الرئيسية للأحداث، شخصية تلو الأخرى، عمرو عبد الجليل «سيد خرطوش» واحد من أرباب السوابق يفرض سطوته ونفوذه على البائعين، فيأتمرون بأمره ولا يتحركون إلا بإشارة منه – دلال عبد العزيز أم سيد خرطوش «امرأة شعبية بسيطة تتبع خطا ابنها الوحيد، وتخشى عليه من المُخاطرة، ريهام عبد الغفور «نجاة» الفتاة الجميلة المُشاغبة التي ترتزق من بيع الشاي والقهوة للمعلمين والزبائن، وتنهشها أعين الطامعين من الكبار والصغار، صبري فواز الرجل الذي يتاجر في الآثار ويتبين دورة الحقيقي في نهاية الفيلم، وكذلك محمود الجندي، أحد قادة الإرهاب وهو أيضاً من العناصر التي يتحدد تأثيرها الدرامي في الربع الأخير من الأحداث.
الشخصيات كلها يُحركها المخرج سامح عبد العزيز وفق مقتضيات النص المكتوب، الذي تمتد فيه الخيوط إلى نهايات مأساوية تبعاً لأقدار الأبطال ومصائرهم، فاللعبة الذكية تتنوع مفرداتها لتُشكل في مُجملها معنى افتراضيا واحداً، يؤكد أن السوق الذي يحكمه سيد خرطوش بالحديد والنار، ويتحكم في الوارد إليه والصادر منه، هو في واقع الحال السجن الكبير الذي يضم عتاة المجرمين، وتُصفى على أرضه حسابات الدم بين الفئات المُتناحرة، وتضيع جراء الحساب العسير أرواح كثير من الأبرياء بلا حول منهم ولا قوة! فمن يحترفون التجارة ويتفننون في البيع والشراء ويفرضون قانون الغابة على السوق ومن فيه، يمتد نشاطهم إلى خارج الرقعة التجارية وتأخذهم طموحاتهم العريضة إلى أبعد من محيط السوق وأسواره، فمنهم من يتخصص في التقاط القطع الأثرية النادرة، ويسعى لبيعها سراً عبر رجال المافيا كسيد خرطوش ومالك، والأخير هو الشخصية الغامضة التي يجسدها صبري فواز، وهو العنصر الأخطر في أما الفنان الراحل محمود الجندي ومحمد لطفي، فهما عنصران رئيسيان في تحريك الأحداث، وقد اختارهما المخرج سامح عبد العزيز ليكونا بمثابة دعماً قوياً لبقية الشخصيات، في إطار التعزيز لأجواء الإثارة والتشويق وفعل العصابات التي تمثل الإيهام بالخطورة، ليزداد الإحساس الجماهيري بالأهمية، ويظل المشاهد طوال الوقت في حالة ترقب لما سيحدث، فهناك تواتر سريع في الأحداث والمواقف، وكل الأجواء مُفعمة بالغموض وكأن هناك حلقات مفقودة ستكتمل بمفاجأة غير سارة من العيار الثقيل، يصح أن تكون جريمة قتل أو سرقة أو اكتشاف لكنز من كنوز الذهب الفرعوني تحت الأرض.
هكذا يحاول المخرج إشعار المُتلقي بوجود مستوى درامي آخر للحكاية الجارية تفاصيلها داخل دوائر ضيقة، فتصرفات سيد خرطوش وتحركاته المريبة تمثل توقعاً ما، وممارسات صبري فواز المشكوك فيها، تؤكد الظن بأن المقبل أكثر إثارة، وجشع أحمد فتحي واستغلاله يذهب بنا إلى انتظار المصير الذي سيؤول إليه، وحالة الاستكانة التي تتمتع بها دلال عبد العزيز تبتعد كثيراً عن فرضيات المنطق، فهي تعيش بين البلطجية والمشاغبين والمهربين، وحياتها مُهددة وغير مُستقرة، ومع ذلك تبدو هادئة وغير مُكترثة بما حولها، وأيضاً نجاة أو ريهام عبد الغفور البنت الشقية الباحثة عن الحب والزواج، يتراوح أداؤها بين الهدوء النسبي والانفعال المفاجئ بلا مقدمات كأنها تمثل في فيلم آخر.
وما بين اللحظة واللحظة يتغير كل ذلك وتتبدل اللوحة الفنية والإبداعية للأحداث، فتتكشف الحقائق دفعة واحدة، فيتبين أن صبري فواز ومحمود الجندي هما كادران كبيران في جماعة إرهابية، وأن تهريب الآثار ما هو إلا خدعة كبرى كان هدفها التعمية وصرف الأنظار عن المخطط الأكبر وهو تفجير السوق. وبالفعل يتفجر سوق الجمعة ويُقتل المئات من الناس ويذهبون ضحايا للإرهاب المقيت، وهي نهاية تعيسة لفيلم بدأ بداية جيدة وكان من الممكن أن تكون فكرته نواة لرؤية فنية موضوعية جديدة ومختلفة، لولا الانحراف بالفكرة وتسطيحها، واختيار قضية الإرهاب المُستهلكة لتكون ختاماً ميلودرامياً فجاً على نحو مأساوي سوداوي قاتم، لا صلة له بما تقدم من مُعطيات إنسانية لمجتمع يشابه بالفعل سوق الجمعة في التفاصيل والحكايات والأجواء والمعاناة.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية