من أجل أن يكون الماضي مسلّيا

حجم الخط
0

لا تغفل رواية جبور دويهي عن ذكر كل ما حدث في السنوات المئة في لبنان، بل تزيد على ذلك عشرين عاما أخرى، طالما أن زوج فيلومينا اختفى في عام 1904 «وانقطع أثره وابتلعته الدنيا». أما هي فسافرت في ذلك العام إلى مرسيليا، ثم من هناك إلى الولايات المتحدة تاركة وليدها في رعاية اختها كاترينا. وهي، بعد سنوات عديدة قضتها هناك جمّعت أموالا من عملها الاحتيالي، حيث بمعاونة رجل أرشدها إلى عنوانه بحّار جامعها وهي على متن السفينة، راحت تبيع الأمريكيين ترابا من بلادهم مدّعية أنها من أرض أورشليم. كما أنها أضافت إلى ما تبيعه قطع خشب كان شريكها مسيو لاغرانج قد أعدها للمدفأة، مدّعية أيضا أنها من عود الصليب. كانت قد هاجرت لتحصيل المال وهي عادت مزوّدة به.
الرواية اكتفت بالقليل من وصف مجريات حياتها هناك، بخلاف تلك المعلومات الوافرة التي حفلت بها رحلتها. المهم أنها عادت إلى ضيعتها «تل صفرا» لتقيم بيتا يشبه بيوت الأغنياء، وتشتري بستان المحمودية البالغة مساحته مئة دونم، أما ما بقي من مال، بل من ذهب، فحفظت صرّته تحت أحد أعمدة البيت الذي بنته.

كان النازع إلى السخرية هو ما دفع الدويهي إلى أخذ التاريخ من أوّله. ربما كانت الحاجة إلى ذلك ملحة في ما كانت تكتب هذه الرواية، حيث البلد الذي يُستذكر شتات تاريخه كان يتهيأ إلى أن يبدأ ما يمكن أن تكون أيامه الأخيرة.

فيلومينا أسّست عائلة استمرت بالتوالد، أما فضل زوجها في ذلك فمقتصر على إعطاء الاسم فقط (عائلة مبارك). في صفحات قليلة يفصّل جبور الدويهي تفرّع هذه العائلة على مدى أجيال أربعة، أو خمسة، طالما أن الابن الأخير زكريا أنجب ابنة في أمريكا قُتلت على يد قنّأص أغرق أطفال مدرستها بالرصاص، هكذا في واحدة من نوبات الجنون الأمريكي. ومع تأسيسها للعائلة أورثت فيلومينا أخلافها، نزاعات في ما بينهم، ومع مجاوريهم في الضيعة، ما جعلها حاضرة بينهم على مدار حيواتهم. من ذلك مثلا أن حفيدين لها ظلا يتنازعان ملكية البيت، والذهب المدفون تحته. أما أرض المحمودية فأجّج شراؤها لها نزاعا بين الدروز والموارنة، ترجع دوافعه إلى حروب قامت بين الطائفتين في 1960 وما قبلها. كما أنها أورثت أمريكا، أو العودة إلى أمريكا، لأحد أحفادها، زكريا، الذي تدور الرواية حول مقتله بطلقة من مسدّس، في ما كان يستريح هناك، في أرض المحمودية.
خطوط الرواية تتجمع كلها في حادثة القتل تلك، الموصوفة بدايتها على نحو فكه وساخر. الشرطيان اللذان استُدعيا لجمع الأدلة يشبهان ما صوّرته المسلسلات والمسرحيات الهازلة عن شرطة القرى. سرق الرقيب المسدس أداة الجريمة، مُدخلا جانبا هزليا على مشهد الجريمة التي أودت بمن يُفترض اعتباره بطل الرواية، أو أحد بطليها لكون جدّته البعيدة، فيلومينا، تنازعه على تلك البطولة. هكذا هي الوقائع الجارية في رواية «ملك الهند» حيث يميل كاتبها جبور الدويهي إلى تطرية الوقائع والأحداث. من ذلك تركه ملمحا كوميديا حاضرا على الدوام، ليس في ما تواجهه الشخصيات من مواقف، بل في مصائرها أيضا. هكذا مات، أو قُتل، زكريا مبارك، يكاد استلقاؤه ببدلته وبقبّعته يبعث على الضحك. وهكذا جرت حياة فيلومينا كأنها تلعب، في ما هي تغامر، وتتكلم عن موتها الوشيك كأنها ذاهبة في رحلة مع صديقات. ولنضف إلى ذلك أيضا عمّة زكريا القابعة في البيت عاجزة عن الحركة والنطق السليم، لكن مع ذلك يقترب حضورها من أن يكون فكاهيا. وهي شخصيات عديدة في الرواية استطاع الكاتب أن يضفي ملامح مميّزة وخاصّة لكل منها، وذلك ما يلزم لاستخراج شخصيات ممثّلة لمراحل وحقب من التاريخ يحرّكها على هواه. دائما يحيلنا ما نقرأ من رواية «ملك الهند» إلى وقائع وأحداث، بل إلى نزاعات وحروب وعادات وميول وأمزجة، حاضرة في التاريخ الذي نعرفه. كأننا ونحن نقرأ نتعرف على تاريخ مواز للتاريخ الذي جرى في السنوات ما قبل المئة، سواء كان مكتوبا أو شفاهيا. هو تاريخ مواز أقل قسوة ودموية، وإن كان، رغم ذلك أكثر افتضاحاً. مثال على ذلك هو تلك الحنكة النشيطة لفيلومينا، التي فور ما أنزلتها السفينة في تلك البلاد، عرفت كيف «تبلف» أهلها وتقنعهم أن النسخ التي تبيعها من الإنجيل مكتوبة باللغة التي كان يتكلمها يسوع. ومن ذلك أيضا مسببات النزاع بين أهل تلك الضيعة واللغة المتهافتة لهذا النزاع، في الوقت الذي لا نعرف، واقعيا، كيف يمكن الخلاص من ديمومته. كان النازع إلى السخرية هو ما دفع الدويهي إلى أخذ التاريخ من أوّله. ربما كانت الحاجة إلى ذلك ملحة في ما كانت تكتب هذه الرواية، حيث البلد الذي يُستذكر شتات تاريخه كان يتهيأ إلى أن يبدأ ما يمكن أن تكون أيامه الأخيرة.

٭٭ «ملك الهند» لجبّور الدويهي الذي غادرنا من أسابيع قليلة، كانت هذه الرواية قد صدرت قبل «سمّ في الهواء» عمله الأخير الذي سنعود إلى قراءته قريبا. صدرت «ملك الهند» عن دار الساقي في 191 صفحة – 2019.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية