إسطنبول-“القدس العربي”: على الرغم من التطورات المتسارعة التي شهدتها أفغانستان والتي خلطت أوراق تركيا وخططها لإدارة مطار كابول في إطار اتفاق كان يجري التحضير له مع الولايات المتحدة الأمريكية قبيل سقوط العاصمة بيد طالبان، إلا أن أنقرة ما زالت الأقرب لتولي هذه المهمة ولكن هذه المرة باتفاق مباشر مع حركة طالبان وهو ما يظهر مدى الأهمية التي توليها أنقرة لهذه الخطوة التي تسعى من خلالها لتحقيق طموحات سياسية واقتصادية بأبعاد يصفها محللون بأنها “استراتيجية”.
وبحسب تأكيد العديد من المصادر التركية والأفغانية، فإن المباحثات جارية على قدم وساق بين دبلوماسيين أتراك ومسؤولين من حركة طالبان لبحث العرض التركي بإدارة مطار كابول خلال المرحلة المقبلة، ومن المتوقع أن تشهد هذه المباحثات تسارعاً كبيراً خلال الأيام المقبلة لا سيما مع انسحاب كافة القوات الأجنبية من أفغانستان بشكل كامل ودخول طالبان وسيطرة مقاتليها بشكل كامل على المطار.
ورغم سيطرة عناصر طالبان على كامل المطار بشقيه المدني والعسكري، فإن التقديرات تشير إلى أن الحركة لا تمتلك أي مقومات فنية لتشغيل المطار الذي توقف عن العمل بشكل كامل وهو ما يعني دخول أفغانستان في عزلة كبيرة، وهو مشهد لا تريد طالبان أن يطول قبل أن يستأنف المطار عمله لتعزيز رؤية الحركة وتأكيد انفتاحها على تقديم نموذج مختلف للحكم، ومن أبرز التحديات في هذا الإطار تشغيل المطار الذي يعتبر معياراً حاسماً لبقاء العديد من البعثات الدبلوماسية والاتصال بالعالم الخارجي وتجنب الحكم المنعزل.
ورغم تخلي واشنطن والناتو بشكل عام عن مساعي لعب أي دور مستقبلي في أفغانستان، فإن أنقرة أصرت على مواصلة خططها لإدارة المطار، وبادرت بإرسال رسائل مختلفة لحركة طالبان بأنها مستعدة للقيام بهذه المهمة ومساعدة أفغانستان على تجنب العزلة وضمان بقاء البعثات الدبلوماسية ووصول المساعدات الدولية والقيام بمشاريع تنموية مختلفة في البلد الذي دمرته عقود من الحروب التي لا تتوقف.
ويكتسب مطار كابل أهميته بشكل عام من كونه المطار الأساسي لأفغانستان البلد الذي لا يتمتع بأي طرق بحرية أو برية جيدة تصله بالعالم الخارجي ويمتد على مساحة جغرافية واسعة وتضاريس جبلية تمنع تطوير الطرق البرية وضعف إمكانيات وشبه انعدام بالبنية التحتية، وبالتالي فإن المطار يعتبر وسيلة الاتصال الأساسية لأفغانستان مع العالم الخارجي ومحط انتقال البعثات الدبلوماسية ووصول المساعدات الإنسانية وغيرها.
وبالدرجة الأولى، تأتي المساعي التركية لإدارة مطار كابول في إطار التنافس الدولي بين اللاعبين الجدد الراغبين بلعب دور في أفغانستان خلال المرحلة المقبلة، وبينما ترغب روسيا والصين في لعب دور اقتصادي استراتيجي، ترى أنقرة أنها الأحق بلعب دور سياسي واقتصادي أيضاً يعود عليها بمنافع استراتيجية تخدم رؤيتها لتعزيز دورها على الصعيد الإقليمي والدولي ولا سيما فيما يتعلق بخططها لتعزيز نفوذها في وسط آسيا ومحيطها.
وفي هذا الإطار، من شأن إدارة مطار كابول أن تمنح تركيا القدرة على لعب دور كبير في مستقبل أفغانستان وأن تفرض أنقرة نفسها لاعباً لا يمكن تجاهله هناك على الإطلاق، حيث ستكون كافة البعثات الدبلوماسية والدولية والأممية مضطرة للتنسيق مع تركيا لتأمين وفودها وبعثاتها أمنياً وفنياً في تحركاتهم بأفغانستان، كما ستكون أنقرة بمثابة الجهة القادرة على طمأنة العالم وحثه على مساعدة الشعب الأفغاني وتقديم التسهيلات لاستقبال المساعدات وتوزيعها لما تمتلكه منظماتها الإغاثية من خبرة واسعة جداً في هذا المجال.
كما سيشكل المطار ورقة مهمة بيد تركيا للضغط على حركة طالبان لتحسين نهجها في التعامل مع العالم مقابل حث الكثير من الدول على إبقاء بعثاتها ومصالحها وتقديم المساعدات للشعب الأفغاني، وهو ما سيعطي أنقرة مكانة دولية أبرز كلاعب مؤثر في مستقبل أفغانستان.
من جانب آخر، فإن الشركات التركية الرائدة عالمياً في إدارة المطارات لا سيما شركة “تاف” التي تدير عشرات المطارات في تركيا وحول العالم ستكون قادرة على تقديم نموذج جديد بقدراتها في هذا المجال، إلى جانب المكاسب الاقتصادية المباشرة التي ستجنيها الشركة التي ستدير المطار.
واقتصادياً، لا يتعلق الأمر بالمكاسب المحدودة التي يمكن أن تحققها إدارة المطار، وإنما بالآفاق التي ستفتحها إدارة تركيا للمطار للاقتصاديين ورجال الأعمال الأتراك، حيث سيكون المطار بوابة لانفتاح كبير على السوق الأفغاني. وعلى الرغم من أن الحديث يدور عن بلد فقير ومدمر إلا أن ذلك لا يعني على الإطلاق انعدام الفرص التي ستكون متاحة في سوق يحتاج إلى بناء من الصفر لا سيما من التجارة والمواد الغذائية وصولاً إلى إعادة الإعمار والبناء والتطوير والبنية التحتية وهي جميعها مجالات تفوقت تركيا فيها في بلدان مدمرة أقربها النموذج الصومالي. وإدارة تركيا للمطار ستعطيها أفضلية في منافسة الاستثمارات الروسية والصينية المتوقعة.
والمهمة التركية المتوقعة في مطار كابول، لا يبدو أنها تتعارض مع المصالح الأمريكية والغربية بشكل عام، حيث ترى واشنطن وأوروبا غير المتحمسين لهذه المهمة أن الوجود التركي يخدم أهداف المعسكر الغربي الذي لا يرغب في رؤية روسيا والصين تسيطران على كل شيء في أفغانستان وبالتالي فإن المهمة التركية ستكون محل ترحيب في واشنطن وبروكسل وستعطي أنقرة ورقة مهمة في التعاون مع الجانبين.
وبينما سيكون ملف اللاجئين الأفغان الملف الأصعب والأكبر على مدى السنوات المقبلة لتركيا والاتحاد الأوروبي بشكل عام، فإن إدارة أنقرة للمطار سوف تسهل عليها إعادة قوافل اللاجئين الأفغان غير الراغبة في بقائهم على أراضيها وهو محل نقاش داخلي مهم جداً لمستقبل أردوغان في الحكم عقب انتخابات 2023، كما سيتيح لتركيا ورقة بالغة الأهمية أمام أوروبا التي ستكون بحاجة لجهة تساعدها في إدارة ملف اللاجئين الأفغان وإعادة جانب منهم إلى بلادهم.
ويعتبر ملف تأمين المطار هو المعضلة الأكبر في المباحثات المتواصلة بين تركيا وممثلي طالبان، حيث أجبرت الحركة القوات التركية على مغادرة كابل كونها كانت منضوية تحت إطار قوات الناتو التي تعتبرها الحركة “قوات احتلال”، وبينما عرضت طالبان على تركيا تشغيل المطار فنياً يتكفل مقاتلوها بحماية المطار، وتصر أنقرة على حاجتها لحماية طواقمها بقوات تركية، فيما يجري الحديث عن مقترحات وسطية تتعلق بتوفير قوات حماية تركية تحت بند “شركة أمنية خاصة” يمكن أن تساعد الجانبين في التوصل إلى اتفاق قريب.
*بدون شك (تركيا) الأفضل لجميع الأطراف
وفقها الله لصالح السلم والسلام في أفغانستان.