مصر: «تنوير» مبتذل على مقاس النظام

حجم الخط
0

اكتشاف كتاب قديم لرئيس جامعة القاهرة السابق محمد عثمان الخشت يبرر فيه ضرب المرأة، وتوجيه اتهامات له بالفساد وإهدار المال العام، ليسا أمرين عابرين، فالرجل سبق له أن قدّم نفسه واحداً من رموز «التنوير» في مصر، وداعية لـ»الإصلاح الديني» حتى أنه خاض، قبل فترة، سجالاً عنيفاً مع شيخ الأزهر، حول التراث الإسلامي وضرورة تجديده بما يتناسب مع مقتضيات العصر الحديث، ما يعني أن مسألة «التنوير» ابتذلت إلى حدودها القصوى، وباتت تستوعب أي شخصية بصرف النظر عن مستواها المعرفي، انطلاقا من حاجة النظام الساعي إلى استخدم خطاب «التنوير» كسلاح في الدعاية ضد الإسلاميين، وضد الأزهر نفسه، كي يصبح الأخير، أكثر طواعية للسلطة، كالإفتاء والأوقاف وبقية المؤسسات الدينية.
ولعل ما سهّل ذلك، أي ابتذال «التنوير» وتحويله أداة بيد السلطة، عدم وجود تصور واضح للمفهوم في مصر، إذ بقي فضفاضا يتسع للكثير من الأفكار «التقدمية» حول الدين والمرأة والتعليم ونظام الحكم، من دون أن يتحول إلى مسار يغير أنماط التفكير، مع حوامل اجتماعية تنتجها تحولات اقتصادية. وأسباب ذلك كثيرة ومتداخلة، بينها التنازع والصراع بين المتأثرين بالغرب وحداثته، والداعين للاستفادة منه، والمدافعين عن الهوية والذات والخائفين على «قيم الأمة» و»تراثها». وقد ظهرت على ضفاف الطرفين، أصوات انتقائية، تريد الاحتكاك بالغرب تقنياً، من دون التورط بقيمه، وأخرى إصلاحية – تراثية، تنتقد الاستبداد وترفض الدولة الدينية، انطلاقا من التراث نفسه، ومن دون المساس به. هي، خلطة متناقضة غير واضحة معرفياً، أنتجت لغة متفاوتة في «تقدميتها» من قواميس شتى، بعضها ديني، وبعضها علماني، فكان «التنوير» يعني كل شيء، من دون أن يعني شيئاً، أي أنه دعوات وأفكار وسجالات، من دون أن يتحول لمسار تراكمي ينعكس على تغير القناعات حيال الأفراد والعالم والبنى التقليدية.

صار التنوير دعوات وسجالات، دون أن يتحول لمسار تراكمي ينعكس على تغير القناعات حيال الأفراد والعالم والبنى التقليدية

الحقبة الناصرية، لم تقض فقط على شرائح اجتماعية وبقايا كولونيالية، كان يمكن أن تشكل روافع لأفكار «تنويرية» وإنما أعادت صوغ التناقض السابق بين حداثيين وتقليديين، بكل تفاوتاته، بصبغة أيديولوجية، فالحداثة الغربية عندها صارت، تحديثا اشتراكيا معاديا للغرب الليبرالي، فيما الأفكار التقليدية الواجب محاربتها، فهي الملكية وبقايا الاستعمار، وليس البنى التي ترسخت أكثر في ظل إصلاحات متسرعة، أسفرت عن نتائج كارثية، يضاف إلى ذلك، أن التحول الناصري، صاحبته سلطوية استبدادية أمنية، وتأميم للمؤسسات الثقافية. فعلى وقع الخوف واستيعاب المثقفين في وظائف حكومية، وإعادة صوغ التناقض السابق بين الحداثة والتقليدي، جعلت الناصرية «التنوير» مطابقا لها، في مواجهة خصوم الداخل «الرجعيين» وأعداء الخارج «الليبراليين». ورغم أن السادات، انقلب على الناصرية في السياسة والاقتصاد، ومبارك ورثه في ذلك، لكنهما لم يقطعا معها، بما يخص بناء معادلات ضبط «التنوير» ضمن موازين العلاقة بين السلطة والمجتمع، لاسيما مع ظهور الإسلاميين من جديد، فبات «التنويريون» مرة، ضحية قرب السلطة من الإسلاميين، وأخرى، سلاحها ضدهم حال ساءت علاقتها معهم. بمعنى آخر ما زرعته الناصرية من أدلجة لمفهوم «التنوير» على وقع الاستبداد، وتأميم الثقافة، جرى حصده لاحقا من أنظمة أخرى، فباتت مجموعة الأفكار التي كان يراد لها أن تتحول أرضية لتغير ما، جزءا من معادلات السلطة، تجيرها لصالحها.
ولأن ثورة يناير، لم يتح لها بفعل الثورة المضادة وانقلاب العسكر، أن تحرر مفهوم «التنوير» من حمولته الكلاسيكية والأدلجة الناصرية، واستغلال الأنظمة له، فقد أعاد النظام الحالي، التقليد السلطوي السابق، وجعل من «التنوير» جزءا من أدوات العمل الدعائية الخاصة به، مع ملاحظة، أن البعد المعرفي، تدنى إلى حدوده القصوى في استخدام المفهوم لخدمة السلطة، التي لم تعد تعتمد على مثقفين «تنويرين» فقط، وإنما بات الباب مفتوحاً لأي كان، ليصبح «تنويراً» بدليل أن شخصاً معاديا للمرأة ومتهما بالفساد مثل الخشت، صار بطل «الإصلاح الديني»
والمفارقة، أن هذا الابتذال لمفهوم «التنوير» عكس ما يفترض به، هو يصلّب أكثر الخطاب الديني الرافض للإصلاح، ويمنحه شرعية، إذ إن الأخير سيبدو متماسكاً ويحظى بشعبية، طالما أن خصومه، امتداد تاريخي لعدم وجود تكوين واضح لـ»التنوير» وأدلجته ناصرياً مروراً بالاستخدام الساداتي ـ المباركاتي، وصولا إلى الابتذال السيساوي الحالي.
كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية