مات الشاعر والفيلسوف الأمريكي هنري دايفيد ثورو في الرّابعة والأربعين من عمره متأثرا بمرض السلِّ، الذي قضى على جلّ أخوته أيضا. في عام 1862 – عام وفاته – لم يُبتكر اللقاح ضد السلّ، ولم تُطوّر المضادات الحيوية لمعالجته، وقد صادف ذلك خياراته الصعبة في الحياة، التي كانت معاكسة للسائد من أفكار التصنيع، وحشد البشر لبناء مدن لم تناسب قناعاته. أدار ظهره للحضارة واستقرّ بمفرده في الغابة، بعد أن بنى كوخا بنفسه على حافة «والدن بوند» التابعة لماساتشوستس، وهناك كتب أحد أجمل كتبه، وواحدا من روائع الأدب الكلاسيكي الأمريكي «والدن» أو الحياة في الغابة.
ثورو الذي يبدو غريب الأطوار بالنسبة لأغلب أبناء عصره وما بعده، وجد مناصرين له، وقد تأثّر به كثيرون، من بينهم الأمريكية سو هابل، التي ولدت وترعرعت في كالامازو في ميتشغان، وعملت أمينة مكتبة في جامعة براون، حتى سنة 1972 لكنّها وجدت حياة المدينة صعبة على أعماقها التوّاقة للطبيعة، فأقنعت زوجها بأن ينتقلا إلى مزرعة نحل في أوزاركس، ميسوري، وهناك وجدت الصفاء الذي حلمت به دائما.
بعد عام تخلى عنها زوجها وتركها هي والأولاد لتواجه حلمها وحيدة، لم تكن حياة الرّيف تناسبه، أما السعادة التي وجدتها في ذلك المكان الخام فلم ير منها الزوج شيئا.
عاشت هابل لمدة اثني عشر عاما، وبدأت بكتابة روايتها «عام في الرّيف» وقد قدّم للترجمة الفرنسية الكاتب الفرنسي الحائز جائزة نوبل جان ماري غوستاف لوكليزيو وأطلق عليها اسم «سيدة النحل». موت هابل كان قرارا لا رجعة فيه، إذ منذ بدت علامات الخرف عليها، رفضت أن ينتهي بها الأمر في بيت للرعاية الصحية، وهي فاقدة لقدراتها على التحكم بحياتها. ووفق رسالة إلكترونية أرسلها ابنها برايان لـ»نيويورك تايمز» يوم وفاتها قال فيها: «قرّرت سو أنها ترغب بشدّة في عدم الانزلاق إلى الخرف تحت رعاية مؤسسة ما، لذلك في صباح الأحد 9 سبتمبر/أيلول أكلت آخر حبّة «جريب فروت» وأبلغت أصدقاءها وطبيبها أنها تنوي التوقف عن الأكل والشرب. تمسكت بخطتها وتوفيت بعد 34 يوما» توفيت النحلة كما يحب أن يسميها في بيته محاطة برعايته إلى آخر لحظة من حياتها. عشقها للطبيعة لم يأت من فراغ، بل من تأثير والدها عالم الأحياء فيها وفي أخيها الكاتب بيل جيلبرت.
هذا ليس وضع الكاتب الإنكليزي وليام فينيس الذي أصيب بمرض كرون المزمن والخطير في مقتبل عمره، وهو لا يزال طالبا، ما اضطرّه للإقامة في المستشفى عدة مرات لإجراء عمليات جراحية، تخللتها فترات نقاهة طويلة في البيت، ما جعله يصاب باكتئاب ويأس كبيرين، فبحث في المكتبة عن مخرج لمأساته، إلى أن عثر على كتاب علمي للأطفال بعنوان «إوزّ الثلج» كان قد قرأه حين كان طفلا، فأعاد قراءته مدفوعا بحنين قوي لطفولته، لكن قراءته الثانية تلك كانت بمثابة ولادة جديدة بالنسبة له. انبثقت أسئلة كثيرة في رأسه، بحث عن أجوبتها في الكتب عن حياة أوز الثلج، الذي يقضي فصل الصيف في القطب الشمالي حيث يتكاثر، وفي الخريف يهاجر بالملايين إلى جنوب الولايات المتحدة والمكسيك، إلى أن يحلّ الرّبيع التالي فيسافر في الإتجاه الآخر. يقطع الأوزّ حوالي خمسة آلاف كيلومتر بمثابرة عجيبة، يموت خلالها عدد لا بأس به منه، لكنّ غريزته تمضي به إلى دياره الصيفية والشتوية في مواقيت محدّدة، تعجّب فينيس في دقّتها، فقرّر أن يكسر روتين حياته وينطلق إلى بلاد الإوزّ لاكتشاف أسراره.
أثمرت رحلته تلك بكتابه «أوز الثلج» محققا نجاحا كبيرا، وأكسبته لقب كاتب العام، كما نال عددا من الجوائز القيّمة منها جائزة هاوثورندن أعرق جائزة بريطانية أدبية.
قدّم مفكرون وفلاسفة في برامج تلفزيونية عالمية كثيرة، أفكارا لمحاربة الاحتباس الحراري، ومواجهة تغيرات المناخ الحادة بحكمة، ويُحسب لهم الفضل في دق ناقوس خطر الحرائق والفيضانات منذ سنوات قبل حدوثها، في ما اكتفت بلدان عربية بانتظار حلول هذه الكوارث ومنحها أبعادا سياسية، أما المثقفون والأدباء ومن نعتبرهم مفكرين من صلب ثقافتنا، فقد تبادلوا التعازي في ما بينهم وخمدت أصواتهم بعد إخماد النيران.
إن قارنّا بين حياة فينيس قبل رحلة الإوزّ وبعدها، سنجد الفارق كبيرا، فالرجل تغيّرت حياته تماما وأصبح مدافعا عن الطبيعة، مساهما في حملة لغرس الأشجار المحلية في بريطانيا، لكن ماذا اكتشف هؤلاء ليختلفوا في نظرتهم للحياة عن غيرهم من بني البشر؟
قد يكفينا التأمّل في الطبيعة لنفهم، وقد نحتاج لقراءة تجارب هؤلاء الكُتّاب من خلال كتبهم، وقد نكتفي بمتابعة واحد من وثائقيات السّير دافيد فريدريك أتينبارا David Attenborough )) لنفهم جيدا أهمية أن ننسجم مع الطبيعة، ونتوقّف عن تسميم وقتل محيط عيشنا كما لو أننا ننتحر ببطء دون أن نعي ذلك.
«حياة على كوكبنا» هو الوثائقي الذي تابعته مؤخرا على منصّة نتفليكس لدافيد أتينبارا، مقدِّما نفسه على أنّه شاهد على العصر (عمره اليوم 95 سنة) راصدا التغيّرات المدمِّرة التي تسبب فيها الإنسان على كوكبنا، متأمِّلا أن تصل رسالته لأكبر عدد من الناس، لإنقاذ ما يمكن انقاذه، مشيرا إلى أن الذكاء وحده لم يخدم الإنسان لإنقاذ نفسه، لهذا ما يحتاجه ليس الذكاء بل الحكمة. باحترافية كبيرة عرض أتينبارا كيف ترمّم الطبيعة نفسها بعد أن يدمّرها الإنسان، انطلق من المكان الذي شهد كارثة تشرنوبيل، في مدينة بريبيات في شمال أوكرانيا السوفييتية آنذاك، وكيف أصبحت بعد هجرها لأكثر من عشرين عاما. ثم أخذنا في رحلة مبهرة تقطع الأنفاس إلى الجبال والغابات الكثيفة، وإلى أعماق البحار والمحيطات. يجمع الوثائقي بين جمال ما نملكه من طبيعة خلابة على كوكبنا، وبشاعة ما يمكن أن يؤول إليه كل ذلك الجمال بسبب تهوُّرنا، قبل أن يهمس لنا بالطرق السحرية البسيطة الممكنة لإنقاذه.
بالطبع نحن بعيدون جدا عن التفكير في البيئة والمناخ والتنوّع البيولوجي، إذ ثمة هوّة كبيرة بين المثقف وعلماء الأحياء، بل نكاد نقول إن التيّارات السياسية عندنا جرفت بكل شيء جميل في حياتنا إلى أعماق بئر آسنة. حروب المثقف العربي بعيدة تماما عن مسرح الطبيعة الذي نمارس فيه حياتنا، ويمكن وصفها بالحروب الصوتية، التي غير الضّجيج لا تحدث أي تغيير ملموس في واقعنا.
أتمنى أن أكون مخطئة في ما قلت، لكني لا أذكر أني قرأت في مكان ما عن مفكرين عربا على غرار مفكري الطبيعة أمثال جان جاك روسو، الذي يعتبر أب الإيكولوجيا الحديثة، وأحد أهم المدافعين عن العلاقة المتناغمة بين الإنسانية والطبيعة. روسو المتوفى سنة 1778 نُقِش على قبره عبارة: «هنا يرتاح رجل الطبيعة والحقيقة» فقد منح للطبيعة مكانة مركزية في كل أعماله، ودعا لجعلها في قلب مواد التعليم والتربية، والمهام الأساسية للحكام.
إن موضوعا مهما من مواضيع الساعة مثل الاحتباس الحراري يبقى خارج اهتمام المثقف العربي، بل إنّ فئة شاسعة تعتبر الأمر مجرّد مؤامرة أخرى من مؤامرات الغرب، في ما يكتفي البعض باتهام الغرب الصناعي بأنّه سبب كل كوارث العالم، دون تسجيل موقف جاد يترك بصمة في السجال الثقافي. لقد قدّم مفكرون وفلاسفة في برامج تلفزيونية عالمية كثيرة، أفكارا لمحاربة الاحتباس الحراري، ومواجهة تغيرات المناخ الحادة بحكمة، ويُحسب لهم الفضل في دق ناقوس خطر الحرائق والفيضانات منذ سنوات قبل حدوثها، في ما اكتفت بلدان عربية بانتظار حلول هذه الكوارث ومنحها أبعادا سياسية، أما المثقفون والأدباء ومن نعتبرهم مفكرين من صلب ثقافتنا، فقد تبادلوا التعازي في ما بينهم وخمدت أصواتهم بعد إخماد النيران.
دافيد أتينبارا يقول في الفيلم الوثائقي الذي أنجزه عن خطورة الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية، أن إنقاذ الحياة البشرية مرتبط ارتباطا وثيقا بإنقاذ الغابة، وهذا لا يتم إلاّ باحترامها واحترام قوانينها. ثمّة سرٌّ عظيم آخر في الطبيعة، فكل مشكلة نواجهها تكمن حلولها فيها، يلزمنا فقط قليل من التأمّل، وكثير من الحب لها لنعيش بسلام. إنها أحجية معقّدة، حلُّها الوحيد يعتمد على التفكير فقط.
شاعرة وإعلامية من البحرين
نعم الطبيعه جميله وحلوه وشاعريه ورومانسيه وعليه.. وأكبر منتجع للحياه البريه بأنواع مخلوقاتها المتنوعة.. نحن لنا تاريخ كامل مع الأخشاب والأشجار والغزلان والطيور… اذكر الخواجة أنتوني بادن وهو أيضا خبير في الغابات…