كان علي أن اختار شاعرين من شعراء الحداثة لأتناول حياتيهما ودورهما ونتاجهما بشيء من التفصيل ضمن مادة الأدب العربي المقررة لطلاب قسم اللغة العربية بجامعة أبسالا- السويد. وهي مادة تركز على أساسيات تاريخ الأدب العربي، والعلاقة بين الأدب والمجتمع. فآثرت اختيار كل من بدر شاكر السياب وأدونيس.
الأول لدوره الريادي على مستوى الشعر العربي الحديث، وارتباطه الوثيق بقضية شعبه، وتحمّله كل أنواع العذاب وأشكال المعاناة، دفاعاً عن قناعاته ومبادئه. عاش جلّ عمره في العراق، ولم يغادره إلا نادراً، وفي رحلات قصيرة، هربا من التنكيل، أو بحثاً عن العلاج، أو بهدف المشاركة في فعاليات شعرية أدبية، خاصة في بيروت حيث طبع فيها ديوانه الشهير الذي حمل عنوان قصيدته الأشهر «أنشودة المطر» التي يعشقها معظم من قرأ السياب، وأحب شعره.
عانى السياب من الفقر الشديد، وبحث عن أي وظيفة في سبيل أن يتمكن من تأمين لقمة العيش. كان يتعرض للطرد في كل مرة ينتقد فيها السلطات، ولكنه ظل على قناعاته، ودافع عنها، ودفع الثمن.
أما أدونيس، فقد كان الاختيار لريادته في ميدان الحداثة المعاصرة في الشعر العربي بكل أبعادها على مستوى الوزن والشكل والمضمون وطرح الأسئلة الوجودية. هذا إلى جانب إنتاجه الغزير، وشهرته العالمية، فقد تُرجم شعره إلى معظم اللغات، ويُدرّس شعره في غالبية الجامعات الغربية التي تضم أقسام اللغة العربية.
اخترت أدونيس على الرغم من معرفتي بموقفه السلبي من الثورة السورية، بل هو لا يسميها ثورة أصلاً. ورفض أن يفعل ذلك حتى في أيامها السلمية الأولى التي امتدت على مدى ستة أشهر وأكثر في مواجهة قمع النظام وحقده. وكانت حجة أدونيس أنه لا يستطيع أن يعترف بثورة، فضلاً عن تأييدها، إذا ما كانت تخرج من الجوامع، وذلك انسجاماً مع موقفه العام الثابت الذي يدعو بموجبه إلى الفصل بين الدين والدولة، وعدم تأييده الدولة الدينية، هذا مع إصراره في كل أحاديثه على أهمية احترام الدين. بل هو نفسه يستخدم الرموز الدينية، والمفاهيم والإيحاءات الدينية في شعره؛ حتى أن الباحثة السويدية سيغريد كاهل التي ترجمت الكثير من قصائده إلى السويدية، والتقت به، وأجرت معه الحوارات، وكتبت مواد نقدية موضوعية حول شعره، تقول: إنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، فهم شعر أدونيس من دون العودة إلى خلفيته الدينية التي تأثر بها منذ الصغر. فهو وإن كان قد استفاد من الرمزية والسريالية، والتيارات الحداثوية في الشعر الغربي، خاصة الفرنسي منه؛ إلا أن العودة إلى تلك الخلفية ضرورية، لأن أدونيس يمزج بطريقة إبداعية بين الرموز والإيحاءات الدينية النصيرية، والصوفية على وجه التحديد، وبين ما اطلع عليه من التجارب الشعرية الحديثة في الغرب.
لقد أعجبت بشعر السياب منذ بدايات سبعينات القرن الماضي، وكان المدخل إليه رائعته «أنشودة المطر». أما أدونيس، فقد كنا نسمع عنه، وعن دعوته مع يوسف الخال وأنسي الحاج، ومن خلال مجلة «شعر» إلى إحداث ثورة شاملة في الشعر العربي الحديث في تلك الفترة. ولكن ميولي الفلسفية في مراحل مبكرة من العمر كانت تحول دون تعميق توجهاتي الأدبية، وزيادة الاطلاع على الشعر العربي الحديث؛ هذا مع نزوعي المستمر نحو القراءة الأدبية، خاصة في ميدان الرواية، وحتى الشعر، وهي عادة قديمة – جديدة، ما زلت محافظاً عليها ضمن نطاق ما تسمح لي به الظروف.
ازداد اهتمامي بشعر أدونيس في مرحلة الماجستير، وذلك من خلال أستاذي المشرف الراحل صادق جلال العظم الذي كان يقيم في بيروت في شارع بليس حيث زرته أكثر من مرة في أواخر سبعينات القرن المنصرم. وأذكر أنه في زيارة من تلك الزيارات تطرق الحديث إلى الشعر، ومن ثم إلى أدونيس، ويبدو أنه كان على علاقة صداقة معه في ذلك الحين، وهذا ما فهمته من إشادته، وإشادة زوجته الراحلة فوزية طوقان، بشعر أدونيس وحداثته.
وأثناء إعدادي لأطروحة الماجستير التي كان موضوعها فكر زكي نجيب محمود الفلسفي، قرأت جملة الدراسات النقدية التي كان الدكتور محمود قد كتبها حول العديد من الشعراء، استوقفتني دراسته النقدية التي تمحورت حول قصيدة مهيار الدمشقي لأدونيس. وهذا ما دفعني من حين إلى آخر نحو متابعة هذا الشاعر المهم، وقراءة نتاجه الشعري، وذلك كلما تسنى لي الظرف المناسب.
وقد استمرت متابعتي لأدونيس حتى بعد انتقالي إلى السويد في منتصف تسعينات القرن الماضي، إذ كنت حريصاً على قراءة ما يكتبه، ولكنني فوجئت لاحقاً بموقف أدونيس السلبي من الثورة السورية. وللتغطية على حقيقة أسباب موقفه وخلفيته، مارس صيغة من الأستذة الأبوية على السوريين والسوريات الشباب أولئك الذين خرجوا في معظم المدن والبلدات السورية، يطالبون بالإصلاح والتغيير. ومع تصاعد قمع النظام ووحشيته، رُفع الشعار الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام»، بعد أن وصل الشباب السوري، ومن جميع المكونات ومن سائر الجهات والتوجهات، بأن هذا النظام قد بات عقبة كأداء أمام التنمية والتقدم، وقد تسبب في عملية إنسداد الآفاق أمام الطاقات الشبابية الإبداعية السورية.
وكعادتي حينما استعد لكتابة موضوع معرفي، أو تقديم محاضرة علمية، حاولت الاطلاع على ما كتب وقيل حول أدونيس، وما قاله في مقابلاته التلفزيونية، خاصة تلك التي كانت بعد الثورة، بما فيها تلك الأخيرة.
يدعو أدونيس إلى فصل الدين عن الدولة، ويركز على أهمية التقدم العلمي، ويعبر عن تشاؤمه من الواقع العربي. فهو لا يجد اليوم جامعة عربية واحدة تمتلك مواصفات ومعايير الجامعات المعروفة على المستوى العالمي. كما لا توجد، وفق ما يذهب إليه اختراقات إيجابية جادة في مختلف الميادين؛ وغير ذلك من الأحكام العامة التي لا يُختلف حولها في معظم الأحيان. ولكن المشكلة أن المرء حينما ينتقل إلى التفاصيل، تظهر التناقضات، ويغلب التلعثم.
فحينما يُسأل عن الثورة السورية، والموقف من النظام، يوجه الأنظار نحو القضية الفلسطينية، ويدعو إلى ضرورة عدم اعتماد التماهي بين النظام وسوريا، كشعب ووطن، متجاهلاً أن النظام نفسه قد استغل القضية المعنية على مدار نصف قرن للتحكم في الشعب والوطن. وهذا النظام هو نفسه الذي سطح العقول والضمائر، وبنى مؤسسات فاشية قمعية، وأجرى عملية غسل دماغ جماعية عبر منظماته السلطوية، بدءاً من منظمة طلائع البعث، مروراً بشبية الثورة، واتحاد الطلبة ودورات المظليين…إلخ.
يرى أدونيس أن الحل يتمثل في فصل الدين عن الدولة، متجاهلاً توافق السوريين في بدايات الثورة على الدولة المدنية مع احترام الخصوصيات الدينية والمذهبية والقومية جميعها. كما أنه يتجاهل لعبة النظام الذي حاول من خلالها دفع الثورة منذ اليوم الأول نحو العسكرة والتطرف، ليضع العالم أمام بديلين سيئين فاسدين: إما الاستبداد أو الإرهاب.
ولكن الذي لفت نظري أكثر، هو رده على سؤال بخصوص نقد صادق جلال العظم له؛ فقد كان العظم قد ذكر في مقابلة له أنه قد استغرب موقف أدونيس من الثورة، وأشار إلى صيغة من الاستلهام والتماهي الروحيين عند أدونيس حينما كتب عن «الثورة» الإيرانية وآياتها. ما لفت نظري هو أن رد أدونيس على هذا النقد لم يكن هادئاً شاعرياً فلسفياً كما يحرص أن يفعل عادة في سياق إجاباته على مختلف الأسئلة؛ وإنما كان اتهامه للرجل بأنه كان موظفاً عند النظام، وكأن النظام هو من يملك سوريا، وكأن كل إنسان يعمل في بلده هو تابع ومؤيد لهذا النظام؟
ألم يكن السياب نفسه الذي يشيد به أدونيس في مختلف المناسبات هو الآخر موظفا «عند النظام» إذا استخدمنا التوصيف الأدونيسي غير الدقيق الذي استخدمه في سياق دفاعه غير الموفق عن نفسه؟ بل كان السياب مضطراً أن يتواصل مع هذا وذاك، ويتنقّل من هذا المكان إلى ذاك في سبيل تأمين العمل، ولكنه لم يتنازل عن مبادئه أبداً.
وكان من الطبيعي أن يكون العظم، المعروف بعقلانيته وعلمانيته وصراحته، إلى جانب الثورة السورية التي اعتبرها الكاشف الأخلاقي الذي عرّى الجميع. كما كان من الطبيعي أن يستغرب ويستهجن العظمُ موقفَ أدونيس الذي يقدم نفسه بأنه ثائر على القديم، ويمتهن طرح الأسئلة الإشكالية، هذه الأسئلة التي لا تشمل أسئلة كان من المفروض أن يطرحها أدونيس باعتباره يحرص على السوريين ووطنهم.
لماذا أطلق النظام سراح الإسلامويين المتشددين في بداية الثورة؟ بأي شرعية فتح النظام البلاد أمام ميليشيات «حزب الله» والفصائل المذهبية العراقية التي دخلت بإشراف الحرس الثوري الإيراني التابع لنظام ولي الفقيه في إيران لتمارس القتل والتجويع والتهجير والتدمير بحق السوريين وبلدهم؟
هل يحق لمثقف في وزن أدونيس، بل لأي شخص ما زال ضميره ينبض بالحياة، أن يقف صامتاً في مواجهة نظام جمهوري وراثي مافياوي، تسبّب في قتل نحو مليون سوري، فضلاً عن مئات الآلاف من المعتقلين والمغيّبين؛ كما تسبب في تهجير أكثر من نصف السوريين، ودمّر البلاد، وأتى على كل مقدراتها، حتى أوصل السوريين إلى أزمة معيشية خانقة غير مسبوقة؟
ألا يستحق كل هذا تساؤلاً أدونيسياً يبشّر بإمكانية نهوض طائر الفينيق مجدداً؟
*كاتب وأكاديمي سوري
عندما كنت أحضر للدكتوراه تحت إشراف معلِّمي الفذ حي يقظان الذي كان يدرِّس اللسانيات الجرمانية في الدنمارك لسنين عديدة (وقد درَّس اللسانيات السامية في السويد بالمناسبة) ، لاحظت أن عددا لا بأس به من الأكاديميين الأوروبيين لا يضعون اللوم في الأغلب على أدونيس حين يأتي الحديث عن موقفه المعارض من الثورة السورية ، وقد تبين فيما بعد أن هناك الكثير من شبيحة النظام “الأكاديميين” الذين كانوا وما زالوا يستغلون ذلك كل الاستغلال ويروّجون لمواقف مشابهة كثيرا لموقف أدونيس المعارض للثورة بأساليبهم “الدبلوماسية” المخابراتية الخاصة ، كل ذلك من أجل ترويج لامصداقية ولامشروعية الثورة بكل دناءة وبكل حقارة في المقام الأول !!!؟
كم هو مستفز، أن نضطر كطلبة الأدب العربي، أن نقرأ عن أدونيس، ما قيمة الشعر إذا حاد عن المبادئ والأخلاق وعن نضال الشعوب؟