راودتني عدة عناوين بعد ظهور النتائج الأولى لحصيلة الانتخابات التشريعية يوم الأربعاء 8 أيلول (سبتمبر) 2021 في المغرب. وكان كل عنوان سيقودني إلى استخلاص دروس وعبر تختلف باختلاف العنوان المختار. جاءتني جميعا على صيغة أسئلة، مثل: هل هي نهاية الشعبوية في السياسة المغربية؟ وكان هذا السؤال سيجرني إلى الحديث عن الماضي. هل انتهت القدرة على الكلام، وجاءت إرادة الفعل؟ وفي هذا توقع لما يمكن أن يكون عليه الأمر بعد الوعود المتوجة في هذه لانتخابات. لكني اخترت عنوان: من أجل سياسة جديدة. وأردت بذلك تسجيل أن أهم ما استخلصته من هذه الانتخابات، وما يمكن طرحه من أجل المستقبل، هو أن الممارسة السياسية التقليدية لم يبق لها أي مبرر، وأن تجديد العلاقات بين الدولة، والأحزاب والشعب ينبغي أن تبنى على مواجهة التحديات القديمة والجديدة.
أعتبر حدث هذه الانتخابات تسجيلا لتاريخ لا يختلف عن حدث كلمة الشعب في 20 شباط (فبراير)، واستجابة الملك في تاريخ 9 آذار (مارس) 2011، حيث بدا لي أن الغائب الأكبر في تلك الكلمة، والاستجابة هو الأحزاب التي كان من المتوقع لعب دور الوسيط بين الدولة والشعب. حملت حصيلة كلمة الشعب دستورا جديدا بكل ما في الكلمة من معنى. لكن من يمكنه تنزيل هذا الدستور، ويعطيه دلالاته البعيدة؟ وضع الشعب المغربي ثقته في «العدالة والتنمية» باعتباره حزبا مختلفا عن مختلف الأحزاب التقليدية والوطنية التي تداولت السلطة منذ الاستقلال. وكانت الشعارات التي رفعها هذا الحزب تُذكِّر بالشعارات الكبيرة التي ظل يرفعها اليسار، وأهلته للوصول إلى السلطة مع عبد الرحمن اليوسفي. فتشبث الشعب بقشة محاربة الفساد وممارسة سياسية جديدة.
عندما صعد نجم «العدالة والتنمية» كتبت مرارا في الدفاع عن التجربة المغربية، وتحدثت عن الاستثناء المغربي، وأنا أشاهد بمرارة ما وقع في بعض الأقطار العربية بعد أحداث الربيع العربي، والتي ما تزال تداعياتها سائدة إلى الآن، وقد مر عقد من الزمان على ذلك. كنت أرى التعليقات النارية على الحكومة «الملتحية»، كما كانوا يسمونها. واعتبرني بعض الأصدقاء مدافعا عن «العدالة والتنمية»، ولا سيما وأن جريدتهم كانت أحيانا تعيد نشر بعض المقالات التي كنت أنشرها في جريدة الصباح. كنت أطالب بالمقابل أن تكون الحكومة موحدة، والمعارضة منسجمة. كان هذا الرهان الذي كنت أطرحه دفاعا عن مسالك دخلها المغرب، وجنبتنا مهالك عاشتها دول شقيقة. وهو الموقف نفسه الذي عبرت عنه في نقاشات مع زملاء في تونس مع هيمنة الإسلاميين. كنت أقول: اعطوهم الفرصة وستظهر الحقيقة. لا تشعروهم بالمظلومية فهم يبحثون عما يغطون به سوءاتهم. عندما سمعت أول مرة محمد مرسي الرئيس وهو يخطب توقعت فراغ جعبته، وأنه لا يريد إلا أن يقلد جمال عبد الناصر في خطبه. ما أسهل ممارسة السياسة بالكلام، والخطاب كيفما كان نوعه. الشعب يريد الخبز، يريد الكرامة، يريد الإحساس بالأمن والطمأنينة على مستقبل أبنائه.
لم تحقق «العدالة والتنمية» أيا من انتظارات الشعب المغربي وتوقعاته، وكان الفشل ذريعا على المستويات كافة. فمن ارتفاع المديونية إلى اتخاذ قرارات غير صائبة في التعليم والصحة والسكن وغيرها، إلى بروز علامات البحث عن المصلحة الخاصة، وممارسة الخطابات السجالية العقيمة، كل ذلك وغيره أبان للجميع الذين صوتوا عليه خلال دورتين أنه لا يختلف عن بقية الأحزاب التي أجمع عليها في لحظة، ثم نفض يده منها في النهاية.
سقطة «العدالة والتنمية» نتيجة حتمية للغرور السياسي الذي اعترف به «الاتحاد الاشتراكي» في 2007. كيف يمكن لحزب تاريخي في الوطنية والديمقراطية، قدم شهداء، وتضحيات جسيمة، وكان الشارع المغربي برمته يتعاطف معه أن ينتهي تلك النهاية؟ إنها الصورة نفسها التي وقعت مع «العدالة والتنمية». كيف يمكن لحزب رآه الشعب بديلا عن الأحزاب التاريخية أن يفقد كل الرصيد الذي أمده به الشعب دفعة واحدة، ويجعله وكأنه حزب في بداية ظهوره؟
تتعدد التفسيرات والتأويلات حول ما وقع لـ«الاتحاد الاشتراكي»، سابقا، و«العدالة والتنمية» لاحقا. لكني أطمئن إلى تفسير أراه ملائما: إن أي حزب، أو طائفة، أو عصبية، عندما تتوفر لدى أي منهم جماهيرية تتكون في متخيله السياسي، وهو يعمل من أجل الوصول إلى السلطة، صورة الحاكم الذي يريد أن يتقاسمها معه، أو يحل محله. وأختصر صورة ذلك المتخيل في «الرفاهية» التي توفرها السلطة، لا في الصعوبات التي تواجهه في تدبير الشأن العام بالصورة التي تحقق الرفاه للشعب أو للوطن. وأضرب لذلك مثال الموحدين الذي جاؤوا بعد المرابطين. شكلوا جميعا إمبراطورية، ولم يكن الموحدون سوى صورة عن المرابطين، فانهارت الإمبراطورية في مدة وجيزة بسبب الصراع على السلطة داخلها.
إن البحث عن الرفاهية الخاصة لدى كل من يصل إلى السلطة من الأحزاب، ونسيان الوضعية التي كان عليها، وعدم القدرة على التمييز بين الحلم والواقع، والارتياح إلى وهم أن السلطة التي وصل إليه يستحقها دون غيره، وهو خالد فيها، لا يمكن لكل ذلك إلا أن يولد الإحساس بالعظمة والتضخم فتبدأ الصراعات الداخلية والانقسامات والتحالفات، مما يؤدي إلى بداية التفكك التي تؤدي إلى النهاية المحتومة.
قد يقول قائل إن الدولة العميقة مسؤولة عن مصائر مثل هذه الأحزاب، وهي التي تعطيها الفرصة للوصول إلى السلطة ثم تقوم بسحبها منها في زمن آخر. إن هذه الدولة موجودة قبل ظهور هذه الأحزاب، وعليها أن تحافظ على التوازن الاجتماعي، وهي بذلك تمارس الصراع، تماما كما تمارسه الأحزاب. لقد قال عبد الرحيم بو عبيد معارضا قرارات نيروبي التي قبلها الحسن الثاني حول الصحراء المغربية: السجن أحب إلي من ألا أقول رأيي في قضية مصيرية. ودخل السجن سنة نافذة مع ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي لحزبه. لماذا لا يستقيل رئيس الحكومة حين يرى أن صلاحياته محدودة، وأن الدولة العميقة تحول بينه وبين تصريف برنامجه؟ إنه التلذذ بـ«رفاهية» السلطة، وطلب المزيد من الامتيازات المادية والتقاعدات المريحة.
مرض السلطة لدى الأحزاب هو الذي أدى إلى فقدان الثقة فيها. وهو الذي يؤكد العزوف عن الانتماء السياسي. حين نرى أداء «العدالة والتنمية» خلال عقد من الزمن، ونتساءل ماذا حقق للشعب الذي صوت عليه؟ لا نجد جوابا أحسن من العقاب الانتخابي. لكننا في المقابل حين نرى التطورات التي عرفها المغرب على مستوى البنيات التحتية خلال العقد نفسه، وعلى مستوى ما وقع في مواجهة الجائحة، وما حققته الدبلوماسية المغربية من إنجازات ظلت قذى في أعين أعداء الشعب المغربي وقضيته الوطنية التي أدى الكثير من التضحيات في سبيلها، ونتساءل عن التنمية المستدامة، والنموذج التنموي الجديد، وقس على ذلك من كان وراءها؟ وما موقع الأحزاب في كل هذه المنجزات؟
إن الأحزاب التي لا تملك قاعدة شعبية تستند إليها، ولا تصور لديها عن الدولة، وعن ضرورات تطوير المجتمع، وتكتفي بالشعارات الرنانة، لا يمكنها إلا أن تعلن فشل الخطاب السياسي الذي تنتجه، وبذلك تتسع الهوة بين الشعب والحزب، وبين الحزب والدولة.
نتائج الانتخابات الجديدة، بداية تحول نريده أن يكون في مستوى تطلعات الشعب، وهو يواجه، داخليا، مشاكل اجتماعية متراكمة، وخارجيا أعداء حقيقيين.
*كاتب من المغرب
لم تكون طريق سهلة امام امام حزب العدالة و التنمية .. كما لم تكون امام احزاب وطنية اخرى عدى المقربين من السلطة.
و هذا امر جيد .. و قد يراني البعض متناقضا، بل ااكذ ان الامر جيدا، و ما على الاحزاب الا ان تجد حلا لنفسها .. و اتباث شخصيتها،
و ان تكف عن البكاء .. لان هذا هو السبيل الوحيد كي يطمأن المخزن لها .. و يطلق يده رويدا رويدا .. لانه في نهاية المطاف، اذا لم
تنجح الاحزاب في اتباث شخصها تجاه لاعب داخلي، المخزن .. فكيف ستنجح في قيادة البلد داخليا و خارجيا. و ارى ان تحميل الاحزاب
كما هي الآن مصير البلد سيكون ضربة قاضية .. و هي تحتاج الى وقت لتنضج ..
.
من ناحية اخرى ارى انه يتم الترويج للعمل و الكف عن الكلام .. و يربط العمل بذلك المانجار البارع .. التقنقراط .. و هذا مضر بالبلد،
لان جل مشاكل البلد كان سببها التقنقراط .. و لا وجود للتقنقراط في قيادة البلدان الدمقراطية المتطورة .. و لو كان لساسة المانيا
مقاربة مانجر في عملهم لهوت المانيا الى صف العالم التالث في عقود معدودات.
.
تتبع رجاءا 1
المغرب يحتاج الى ساسة .. و المخزن يتوجس من الساسة .. و هذه اللعبة ستدوم الى ان تجد ارضية وفاق، بشكل طبيعي.
في اطار تشبث الشعب بالمؤسسة الملكية، و التي تعرف ان استمراها مرهون بدمقراطية حقيقية .. و هي نريدها حقيقية،
على نار هادئة. و نحن نريد ملكية و دمقراطية.
.
خلاصة القول ارى ان المغرب في طريق جيد .. في ضل الاستقرار .. و كما قال احد الاعزاء ان دمقرطة البلاد تمشي بهدوء و سلاسة.
.
انتهى شكرا 2
موضوع جميل جدا حيث إحدى فقراته الرائعة رفاهية السلطة وملذاتها ومرض السلطة لدى الأحزاب … وهي السر العجيب لسقوطها …
المشهد السياسي في المغرب بخير لكن يحتاج الى تطبيق المحاسبة اكثر وثقافة الاقالة للوزراء ذوي المردودية الضعيفة … فالنتائج حول رفاهية المواطن هي معيار العمل السياسي الناجح … ام الديمقراطية فآلية ..
” عندما سمعت أول مرة محمد مرسي الرئيس وهو يخطب توقعت فراغ جعبته ” تحية لكاتبنا العزيز سعيد يقطين أنت حكمت بالفشل على المرحوم محمد مرسي لمجرد “توقع” وليس على دلائل ملموسة. فالمرحوم لم يكمل سنة من “الحكم” وحتى في هذه السنة لم يحكم ولم يًمنح الفرصة لكي نعرف ما في “جعبته “. أما عن العدالة والتنمية المغربي فكما يقول المثل “عندما تسقط البقرة تكثر السكاكين”. فالكل الآن انفتحت شهيته لنقد الحزب بينما لو فاز لسمعنا كلاماً آخر عن “إنجازاته ونجاحاته”. دائماً الحزب الذي يسقط هو من نحمله الفشل وحده بينما تُحسب الإنجازات على الآخرين رغم أنهم كانوا معه في نفس الحكومة بل ويستحوذون على أهم الحقائب فيها! أتفق مع سيادتك أن الحزب كان عليه ان يستقيل ويخرج للمعارضة خصوصاً بعد مسرحية “البلوكاج” ولكن قياداته استهوتهم المناصب والأضواء ولا أقول غير ذلك لأنه حتى خصومهم الذين كانوا لهم بالمرصاد لم يسجلوا عليهم أي اختلاس أو فساد مالي. أقول هذا وأنا لم أكن يوماً من أنصار أي حزب ولم ترُق لي أبداً شعبوية بنكيران ولا برودة وسلبية العثماني. نتمنى على الله خيراً. مع التحية.
عندما تصل الاحزاب السياسية والنقابات العمالية الى درجة من التطور والوعي بالمسؤولية في حدودها العامة عندها سيحدث التغيير المناسب بالفعل . لكن هل رأينا شيئا من هذا الاجتهاد عند هذه التجمعات؟ لا. كل ما فعلته هو اختيار الطريق السهل” الانتخابوية ” مما مكن القوى الضبابية من التمكن منها وتحجيم دورها في المجتمع. وكذلك فعلت الانتيليجنسيا. اذا ظلت تدور حول القطب الايديولوجي للقوى الضبابية ولم تتمكن من ارساء نظريات تعبر عن مكنونات المجتمع المعيش. لذا بقت في مستنقع الايديولوجية الضبابية الموروثة عن القرون القديمة
شكرًا أخي سعيد يقطين. أعتقد كما ورد في المقال أن الدولة العميقة في المغرب أو باختصار سلطة الملك لها ثقل كبير في مسيرة الحكومات وقدرتها على النجاح في برامجها وسياساتها. من ناحية أخرى ماحققته الدبلوماسية المغربية يبدو لي بعد زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي محل سؤال عميق ولاأعتقد أن المغرب يشكل حال منفردة أو خاصة بل هو يحذو ماقامت به مصر السادات وحتى يومنا هذا ولاجديد تحت الشمس.
شكرا للأستاذ يقطين على هذا المقال الذي يحاول شرح أسباب السلطة المدوية لحزب العدالة والتنمية. ينوه المقال بموقف المرحوم عبد الرحيم بوعبيد المعارض للتوجه نحو الاستفتاء في الصحراء كما اعتمده الملك الحسن الثاني. لكن شتان بين نبل السياسة لدى عبد الرحيم بوعبيد و الآخرين. المشكل في المغرب هو أن الأحزاب حاليا لا تملك مشروعات مجتمعية و ستراتيجيات هادفة…في الماضي كان الحزبان الوطنيان : الاستقلال و الاتحاد الوطني / الاشتراكي للقوات الشعبية يملكان مشروعات و برامج وتصورات متكاملة تواجه مشروع النظام الملكي في عهد الحسن الثاني المبني على السلطوية و الحكم المطلق واللبرالية الاقتصادية. أما اليوم فالمؤسسة الملكية وحدها من تملك وتخطط و تطبق مشروعا سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا منسجما و متكاملا. الباقي أي الأحزاب كلها تؤيد مشروعات المؤسسة الملكية. و الحمد لله أن هذه الأخيرة وفقت إلى ما فيه خير البلاد والعباد على مستوى الأمن والاستقرار و التقدم الحقوقي والاقتصادي والاجتماعي.
التقدم الحقوقي والإقتصادي والإجتماعي؟