مدينة الهوارية التونسية موطن «أمير السماء» الشامخة في قلب حضارات المتوسط

حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: تُعرف الهوارية لدى التونسيين بجمالها الساحر وتنوع المشاهد فيها من خلال وجود الغابات والجبال والأراضي الفلاحية والبحر والجزر. لذلك يقصدها أبناء الخضراء وغيرهم هروبا من ضجيج العاصمة والمدن الكبرى بحثا عن الهدوء والراحة والسكينة في أحضان الطبيعة الآسرة للقلب والروح، وبحثا عن النسيم المتوسطي العليل النقي الصافي والمفيد للصحة.
ولا يقتصر الإقبال على الهوارية على فصل دون سواه، فالبلدة ومحيطها قبلة للزوار في كل الفصول تقريبا وخاصة في الصيف حيث يقصدها عشاقها من أجل السباحة في شواطئها الجميلة والنظيفة التي يجتمع فيها المصطافون القادمون من شتى مدن البلاد وخصوصا أبناء العاصمة الذين ملوا الضجيج. فبين سكان العاصمة ومنطقة الوطن القبلي التي تنتمي إليها الهوارية عشق قديم يعود إلى ما قبل قرطاج وتوارثته الأجيال جيلا بعد جيل.
والوطن القبلي، أو الرأس الطيب هو في الجغرافيا «جون» أو شبه جزيرة ممتدة في أعماق البحر الأبيض المتوسط الذي يحيط بها من ثلاث واجهات، وتقع الهوارية في آخر نقطة في هذا الجون التونسي الخلاب حتى كادت تلامس الأراضي الإيطالية. فلا تبعد صقلية عن الهوارية سوى 80 كيلومترا في حين أن الأخيرة تبعد عن مدينة تونس العاصمة 110 كيلومترات، وبالتالي فهي أقرب إلى الحواضر الإيطالية منها إلى عاصمة بلادها مدينة تونس.
وتشرف الهوارية على مضيق صقلية أو مضيق الوطن القبلي الرابط بين حوضي البحر الأبيض المتوسط الشرقي والغربي وهو معبر السفن التجارية والحربية والعسكرية التي تعبر قناة السويس باتجاه مضيق جبل طارق أو العكس. كما يمر قرب الهوارية وباتجاه البحر الأنبوب الذي ينقل الغاز الجزائري إلى إيطاليا عبر الأراضي التونسية، وهو ما يجعل الهوارية رغم عذريتها منطقة حيوية في الحركة الاقتصادية للبحر الأبيض المتوسط.
وتتبع الهوارية إداريا ولاية نابل الممتدة على كامل شبه جزيرة الوطن القبلي، وهي مدينة صغيرة من حيث عدد السكان وفيها بيئة طبيعية خلابة وعذراء وغير مستغلة كما يجب في النشاط السياحي. وتقع قبالتها جزيرة زمبرة الساحرة التي استغلت في وقت ما في رياضة الغوض وبني فيها فندق سياحي لكن استغلالها لم يتواصل وبقي التواجد مقتصرا فيها على الجيش التونسي شأنها شأن جزيرة زمبرتا المجاورة لها.

تسميات متعددة

يؤكد البعض على أن أول من أسس الهوارية هم الإغريق في رغبة منهم للسيطرة على مضيق صقلية وأطلقوا عليها تسمية هرميا، لكن لا شيء يثبت هذه النظرية خاصة وأن الإغريق لم يتجاوز نفوذهم في العصور الغابرة جزيرة صقلية الإيطالية التي سرعان ما افتكها منهم القرطاجيون وقبلهم الفينيقيون. كما يؤكد البعض على أن الهوارية سميت لاتومي من قبل حاكم سرقسطة الذي غزاها أوائل القرن الرابع قبل الميلاد، وتعني لاتومي السجون وذلك بالنظر إلى تشابه كهوف الهوارية مع سجون سرقسطة. لكن هذه الرواية بدورها غير مؤكدة باعتبار أن قرطاج في أوائل القرن الرابع قبل الميلاد كانت في ذروة مجدها ولا يتصور أن سرقسطة كانت قادرة على احتلال جزء من أراضيها في ذلك الزمن.
كما سميت الهوارية في الماضي بـ«أكيلاريا» أي أرض النسر وذلك بالنظر إلى بيئتها الملائمة لحياة الطيور الكاسرة ومنها النسور التي تمرح فوق جبالها وبحرها الأزرق الجميل، حتى أن نادي الكرة الطائرة للمدينة سمي «نسر الهوارية». كما أطلق الرومان على المدينة اسم ماركوريان لأنهم شيدوا بها معبدا للإله مركور أو عطارد وذلك بعد سقوط قرطاج إثر قرون من الهيمنة على البحر الأبيض المتوسط. ويرجع البعض التسمية الحالية، إلى اللغة القرطاجية ذات الجذور الفينيقية الكنعانية الشبيهة بالعامية التونسية المستعملة اليوم، وهي مركبة من كلمتين وهما «هوا» و «رية» أي المنطقة التي بها الهواء النقي المفيد للرئة والتنفس، ولعل التشابه بين لغة قرطاج واللغة العربية يعود إلى الجذور الكنعانية لكلا اللغتين.

أم القرى

تتميز الهوارية بكهوفها الجبلية التي تقع على بعد ثلاثة كيلومترات عن المدينة والتي هي في الأصل مقاطع للحجارة بنيت بها مدن فينيقية كثيرة مثل قرت حدشت أو القرية الحديثة أو قرطاج باعتبار أن القرية في اللغة القرطاجية القديمة هي المدينة باللغة العربية. وتتميز هذه الحجارة بأنها رخامية وصلبة وصامدة أمام متغيرات الزمن ويحبذها البناؤون في عملية التشييد وتكون على شكل أعمدة مستطيلة تصبح مربّعة الجوانب بعد أن يتم صقلها. كما بنيت من هذه الحجارة مدينة كركوان القريبة، وكذلك مدينة أتيكا أو عتيقة الفينيقية في شمال البلاد التونسية، وغيرها من المدن التي نقلت إليها هذه الحجارة بحرا بالسفن عبر خليج تونس.
ويرجح أنه بدأ استغلال هذه المغاور خلال القرن الثاني عشر قبل ميلاد المسيح، وهي غرف تشبه الأهرام المنحوتة في الصخر، وتتصل ببعضها من خلال ممرات، ويتم الوصول إلى هذه المغاور من الأعلى عبر فتحات صغيرة. وما زالت هذه المغاور إلى اليوم يزورها السياح رغم أنه تم إغلاق بعضها خوفا من الإنهيارات وهو ما أضر كثيرا بالقطاع السياحي في هذه المنطقة العذراء الجميلة.
وللإشارة فقد بنيت بحجارة الهوارية المصقولة المدن الرومانية في شمال أفريقيا أيضا وذلك بعد سقوط قرطاج، كما بنيت بها أسوار مدينة تونس بعد الفتح الإسلامي وأيضا جامع الزيتونة وهو الجامع الأعظم لهذه المدينة. كما اقتلعت حجارة قرطاج من مبانيها وقصورها ومسارحها وساحاتها ومعابدها وحصونها وغيرها، وبيعت بعد الغزو الهلالي من قبل بني هلال إلى التجار الأندلسيين حيث بنيت بها تحف معمارية في مدن قرطبة وإشبيلية وبلنسية وغرناطة وغيرها.
وتوجد في أهم مغارات الهوارية صخرة كبيرة على شكل جمل جاثم على الأرض تثير فضول الزوار وحيرتهم. ولم يوجد تفسير دقيق بشأنها سوى أن الصدفة وحدها هي التي ساهمت في بروز هذا الشكل بعد قطع الحجارة وصقلها لبناء قرطاج وأخواتها من القرى والمدن.

موطن الصقور

يعتبر الرأس الطيب قرب مدينة الهوارية مقصدا لأنواع كثيرة من الطيور المهاجرة قدرها البعض بـ24 نوعا تستقر منذ قرون هناك لفترة ثم تواصل طريقها عابرة البحر الأبيض المتوسط باتجاه أوروبا في موسم الصيف. وتصل هذه الطيور إلى الهوارية في فصل الربيع قادمة من الجنوب حيث كانت تقضي فصل الشتاء في الأماكن الدافئة التي تقيها ثلوج وبرد القارة العجوز وصقيعها الذي لا يتحمله بشر ولا حجر من دون أجهزة التدفئة.
وقد اعتاد سكان الهوارية على هذه الطيور واعتادت عليهم فطوروا طرقا لصيدها في الربيع وخاصة الصقور، وذلك لاستغلالها في مهرجان سنوي للصيد، ثم يتم إطلاق سراحها لتواصل طريق هجرتها إلى حيث يلائم الطقس عيشها فتتكاثر وتنمو وتحافظ على البقاء وعلى التوازن البيئي. وقد خلدت عملية صيد الصقور هذه، لوحات فسيفسائية قديمة، وهو ما يعني أن هذا النشاط قديم قدم الإنسان على هذه الأرض وتوارثته الأجيال عبر العصور.
ويقوم أهالي الهوارية بصيد الساف أو الباشق منذ اذار/مارس بطريقتين تسمى الأولى النصابة، ويتم من خلالها وضع شباك متحركة في أعالي الجبال، فيما تسمى الثانية الغزول، ويتم من خلالها نصب شباك ثابتة في الغابة أين يبحث الساف عن فريسته فيتم الإطباق عليه. ويتم تدريب الساف طيلة ثلاثة أشهر على صيد الفرائس وجلبها إلى صاحبه ليتم في شهر حزيران/يونيو تنظيم المهرجان الذي يرتاده السياح التونسيون والأجانب.
ويسمى صيادو الساف «البيازرة» المطالبين بحسن الهندام في المهرجان، وكان استغلالهم للساف من أجل مساعدتهم في صيد الطيور والحيوانات التي تستغل للأكل مثل الحمام والسمان وغيره، ثم أصبح نشاطهم استعراضيا ترفيهيا سياحيا بالأساس يجلب الزوار من مختلف المناطق. وفي أيام المهرجان تقفر البلدة من أهلها الذين يطلقون على الساف لقب «أمير السماء» ويتحول الكل إلى حيث ينتظم المهرجان في مكان مرتفع يمكن من رؤية العروض بشكل جيد.
فيتم إطلاق طائر السمان ليلتحق به الساف ويقبض عليه في الجو وسط صيحات وهتافات الحاضرين شيبا وشبابا من سكان الهوارية وغيرها من المناطق القريبة والبعيدة. ويحصل ذلك بالتوازي مع استعراضات للفرق الموسيقية ومع قيام شعراء بإلقاء قصائد تتعلق بالساف وأهميته وخصاله.
ومن أبرز ما نظم من الشعر الشعبي في مدينة الهوارية قصيدة للشاعر عزوز بالحاج استلهمت من قصة صيد الساف وتدريبه لصيد السمان. وفي القصيدة يهرب الطائر ولا يعود متجاهلا وجود الفريسة فيرثيه الشاعر ويشتكي من «هجره». وفيما يلي أبيات من هذه القصيدة نقلت بتصرف في محاولة لتقريبها إلى الفصحى:
جفا منّي (ضاع منّي) في دورة ريح
هجرني تركني، وتركني مُضام (منكسر حزين)
أحببته ربّيته عاتي (قوي) وصحيح
ولا نمت ولا عرفت منام
وتركني في الجبل جريح
أنا جرحي كُلّو آلام

أنشطة متنوعة

تحيط بالهوارية أراض فلاحية خصبة وكما الوطن القبلي وولاية نابل يتعاطى أصحابها النشاط الفلاحي. كما يتعاطى أهالها الصيد البحري وتعتبر أسماك الهوارية من أجود أنواع الأسماك وهو ما جعل البلدة تعرف بأكلة كسكسي الدرع أو الكسكسي بسمك الشلبة. ويتعاطى الهواريون أيضا أنشطة أخرى إدارية وخدماتية وتجارية وغيرها.
وفي المدينة نشاط سياحي هام تؤمنه بعض النزل والإقامات، وأيضا الجولات الترفيهية البحرية بمختلف أنواع الزوارق للإستمتاع بمناظر خلابة لا يمكن الوصول إليها إلا بحرا. وهناك أيضا الغوص باعتبار أن السواحل الصخرية عادة ما تكون بيئة ملائمة لنمو الشعب المرجانية ومكانا محبذا لتفريخ الأسماك وهو ما يوفر للغواص مناظر بديعة خاصة وأن هناك من يتحدث عن أن جزيرة صقلية الإيطالية مرتبطة تحت البحر مع الهوارية والوطن القبلي عموما بسلسلة صخرية من الجبال يغطيها البحر. أما جزيرة زمبرة والجزر المحيطة بها فلا يمكن الذهاب إليها إلا بترخيص من الجيش الوطني فهي غير مفتوحة للعموم رغم جمالها الآسر وسحرها الذي لا يوصف وقدرتها على جلب فئة أخرى من السياح.
وقد أضر غلق كهوف المقاطع القرطاجية كثيرا بالنشاط السياحي حيث عرفت الهوارية على الدوام بكهوفها التي كانت قبلة الزوار للتعرف على المكان الذي جلبت منه الحجارة التي بنيت بها قرطاج. لكن كهف الخفافيش الذي ما زال قبلة لزوار الهوارية بعد أن تمت تهيئته ما زال يجلب الزوار ويثير اهتمام هواة سياحة المغامرات والباحثين عن الجمال الخلاب.
كما بات مهرجان الصيد بالساف نشاطا سياحيا هاما في الهوارية وبات للساف ولطيور الهوارية عموما أحباء كثر وتأسست جمعيات هدفها رفع مستوى الوعي بأهمية الطيور وبضرورة حمايتها. وتم القيام بحملة لإدراج الصيد بالساف ضمن التراث اللامادي العالمي.
ومن أهم ما يلفت نظر القادم إلى الهوارية إلى جانب جزيرة زمبرة هو تلك النواعير أو المراوح الهوائية الجميلة التي تولد الكهرباء بطاقة الرياح. ويتعلق الأمر بالمحطّة الهوائية بسيدي داود الهوارية التي أقيمت بهدف استخدام الطاقات المتجدّدة.
ولعل من أجمل ما قيل في الهوارية ومهرجانها قصيدة من الشعر الشعبي العامي التونسي للحاج العربي صمود الملقب بالشاعر الغنائي للبيزرة، وهو من عشاق الهوارية وطائر الساف وتحمل القصيدة عنوان «الهوارية بلاد كيوف» أي بلد المتعة والراحة وجاء فيها:
الهوارية بلاد كيوف تجول فيها ساعة وطوف
عندك يا أخي ما تشوف (ما ترى).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية