سد النهضة ونهاية المراهنة على التدويل

باعتماد مجلس الأمن الدولي يوم الأربعاء الخامس عشر من أيلول/سبتمبر الحالي لبيان رئاسي حول أزمة سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا، تنتهي المراهنات المصرية السودانية على تدويل الأزمة، ورفع مستواها لتصنف على أنها مصدر تهديد للأمن والسلم الدوليين. لقد أغلق مجلس الأمن الباب أمام محاولات الدولتين العودة إلى المجلس، عندما أكد أن هذا البيان لا يعتبر سابقة لحل أي منازعات تتعلق بالمياه العابرة للحدود، فدور مجلس الأمن الرئيسي هو في صيانة السلم والأمن الدوليين حسب ميثاق الأمم المتحدة، أي أن مجلس الأمن الدولي لم يعتبر أزمة سد النهضة من اختصاص المجلس لأنها، كما وصفها البيان «فنية وإدارية». مصر خاصة التي أصرت على إشراك مجلس الأمن في الأزمة، وأثارت ضجة كبرى حول التدويل عادت الآن إلى المربع الأول، وكأن لجوءها إلى مجلس الأمن «كالمستجير من الرمضاء بالنار».
تبني السردية الإثيوبية
كأنّ رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد هو الذي كتب البيان، فقد خلا البيان من أي إشارة جادة لمطالب الطرفين المصري والسوداني. ودعنا نفصل.
كانت بعثة تونس الدائمة لدى الأمم المتحدة، ونيابة عن المجموعة العربية، قد صاغت مشروع قرار وزعته على الدول الأعضاء الخمس عشرة في مجلس الأمن في أوائل شهر تموز/يوليو، يتضمن المطالب المصرية والسودانية التي طرحها وزير الخارجية المصري سامح شكري، ووزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي في جلسة يوم 8 يوليو. لقد راح الإعلاميون المصريون يدبجون المدائح في خطاب وزير الخارجية، الذي وصفوه بـ»المُحْكم» وأنه وضع النقاط على الحروف، وأنه أبدع في طرح المحاججة القانونية والسياسية للموقف المصري، وكأن الأمور تحل بالخطابات البليغة. كانت المجموعة العربية تأمل أن يتم التصويت خلال تلك الجلسة أو بعدها بأيام.. وكانت تعتقد أنها ستحصل على تسعة أصوات على الأقل لصالح مشروع القرار، من دون استخدام لحق النقض (الفيتو) فينجح القرار، لكن اختلاف وجهات النظر داخل المجلس كانت واسعة بحيث استبعد تماما موضوع التصويت على مشروع القرار. بعد ذلك انتقلت الجهود العربية للتوصل إلى موقف جماعي للمجلس حول الأزمة يتجسد في مشروع بيان رئاسي، يعتبر وثيقة رسمية لكنه غير ملزم كالقرار. إنه تعبير عن نقطة تلاقي المواقف المختلفة للدول الأعضاء. ولأن البيان الرئاسي لا يصدر إلا بالإجماع، فقد استغرقت المفاوضات التي قادتها تونس مع الوفود الأربعة عشر أكثر من شهرين، إلى أن تم التوافق والاعتماد الرسمي بالإجماع. ويا ليت ذلك التوافق لم يتم، لأن عناصر البيان تبنت الموقف الإثيوبي تقريبا بتفاصيله:
– يخلو البيان من أي دور للأمم المتحدة أو الأمين العام، فمشروع القرار العربي تضمن النص التالي: «يُطلب من مصر وإثيوبيا والسودان استئناف المفاوضات بدعوة مشتركة من رئيس الاتحاد الافريقي والأمين العام للأمم المتحدة». ثم يقوم الأمين العام بتقديم تقرير عن سير المفاوضات. في نص البيان الرئاسي أعيدت الأمور إلى الاتحاد الافريقي فقط ولا دور للأمم المتحدة.

مصر التي أثارت ضجة كبرى حول التدويل عادت إلى المربع الأول، وكأن لجوءها إلى مجلس الأمن «كالمستجير من الرمضاء بالنار»

– طالب مشروع القرار الأصلي الأطراف المتنازعة التوصل إلى «اتفاق ملزم خلال ستة أشهر بشأن ملء وتشغيل سد النهضة، الذي يضمن قدرة إثيوبيا على توليد الطاقة الكهرومائية من سد النهضة، مع منع إلحاق ضرر كبير بالأمن المائي لدول المصب». لكن البيان الرئاسي خلا من أي إشارة لموضوع تحديد أي فترة زمنية واكتفى بالقول: «في غضون فترة زمنية معقولة».
– كان مشروع القرار العربي يدعو المراقبين المشاركين في المفاوضات تحت مظلة الاتحاد الافريقي والمراقبين الجدد الذين يدعون للمشاركة بتوافق من الدول الثلاث «لمواصلة المشاركة بنشاط في المفاوضات بهدف معالجة القضايا العالقة الفنية والقانونية». هذه المشاركة النشيطة اختفت من البيان الرئاسي الحالي ودور المراقبين محصور في دعم المفاوضات، لتسهيل التوصل إلى حلول للقضايا الإدارية والفنية.
– أضيف إلى البيان الرئاسي من بين العديد من الاتفاقيات الموقعة بين الأطراف بشكل جماعي أو ثنائي اتفاقية واحدة وهي، اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة من الرئيس عبد الفتاح السيسي عن مصر، والرئيس عمر البشير عن السودان، ورئيس الوزراء الإثيوبي هيلاماريام ديسالين بتاريخ 23 آذار/ مارس 2015. تلك الاتفاقية الكارثية التي تعتبرها مصر اتفاقية إطارية وإعلان مبادئ غير ملزمة، ولم تتطرق إلى ذكرها في مداولاتها كافة. لكن إثيوبيا لم تذكر في كل مداولاتها إلا هذه الاتفاقية، التي انحازت نصا وروحا إلى الموقف الإثيوبي. أما اتفاقيات عام 1902 أيام الحكم البريطاني، واتفاقية تقاسم مياه النيل لعام 1929 واتفاقية السد العالي عام 1959 واتفاقية إطار التعاون بين مصر وإثيوبيا عام 1993 واتفاقية مبادرة حوض النيل عام 1999 كلها لا تعني شيئا للحكومة الإثيوبية، ولا تعتد إلا باتفاقية 2015. الغريب أن البيان الرئاسي تبنى وجهة النظر الإثيوبية، ولم يذكر إلا هذه الاتفاقية بل ثمنّها. ودعْني أذكـّر بإحدى فقرات تلك الاتفاقية الغريبة والمكونة من عشر فقرات فقط. فقد نصت إحدى الفقرات على: «كما تتعهد الدول الثلاث باتخاذ كافة الإجراءات بتجنب التسبب في الضرر خلال استخدام النيل الأزرق. وإن وقع الضرر (أي أنه كان هناك توقع بحدوث ضرر) فالدولة المتسببة في الضرر، في غياب اتفاق حول هذا الفعل، تتفق بالتنسيق مع الدولة المتضررة لتخفيف أو منع الضرر ومناقشة مسألة التعويض كلما كان ذلك مناسبا». فالضرر إذن كان متوقعا وحله بالتخفيف أو التعويض إذا كان ذلك مناسبا. فكيف سيتم تحديد الضرر وكيف يتم التعويض، إذا ضرب الجفاف مصر وجفت الأراضي الزراعية، وانخفض منسوب المياه ودمرت المحاصيل وأصيب الملايين بالعطش.
– والأهم من هذا وذاك أن مجلس الأمن أكد للأطراف المعنية أن هذا البيان لا يعتبر سابقة أو مبدأ يبنى عليه لحل أي منازعات تتعلق بالمياه العابرة للحدود في المستقبل. وهذا إعلان واضح لا لبس فيه بإغلاق ملف تدويل الأزمة واعتبار الطريق المؤدية إلى مجلس الأمن مغلقة. فالتهديد بالعودة للمجلس انتهى وعلى الطرفين المصري والسوداني أن يبحثا عن البدائل. وقد أكد السفير الهندي في المجلس على هذه النقطة بعد اعتماد البيان.
ما العمل بعد هذا البيان؟
لنعترف أولا أن هذا البيان هزيمة للمجموعة العربية في الأمم المتحدة، ولجنتها الرباعية المكونة من السعودية والعراق والمغرب والأردن، وللمؤتمر الوزاري الذي عقدته الجامعة العربية في الدوحة لمناقشة أزمة السد بتاريخ 15 حزيران/ يونيو. وعلى مصر والسودان أن يفكرا خارج الصندوق، ويتفقا على برنامج عمل حقيقي وفاعل يشمل العديد من الخطوات من بينها:
– أن يذهب الطرفان إلى محكمة العدل الدولية للبت في الموضوع، فالمحكمة عادة تأخذ القضايا الخلافية حول الحدود وملكية الجزر والمياه والشواطئ. كما يمكن الرجوع إلى اتفاقية دولية مهمة تدعى «اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية في الأغراض غير الملاحية» التي أقرتها الجمعية العامة في 8 يوليو 1997 ودخلت حيز الإلزام عام 2014. وللعلم فلا مصر ولا السودان ولا إثيوبيا أعضاء في هذه الاتفاقية.
– يمكن اللجوء إلى أو استشارة «الشبكة الدولية لمنظمات الأحواض النهرية» التي أنشئت عام 1994 ومقرها باريس ويبلغ عدد أعضائها نحو 134 دولة متخصصة في فض النزاعات بين الدول المتشاركة في أحواض الأنهار.
– يمكن دعوة المؤتمر الوزاري للجامعة العربية مرة أخرى للنظر في مجموعة إجراءات عقابية فاعلة، والطلب من بعض الدول العربية المستثمرة في إثيوبيا بشكل عام أو في السد بشكل خاص بسحب أو تجميد استثماراتها.
– ضرورة توجه وفود عربية مشتركة إلى الدول الداعمة للموقف الإثيوبي مثل الصين وروسيا. كما يجب شرح الموقف المصري السوداني لبعض الدول الافريقية ذات المواقف المعتدلة.
– وأخيرا أتمنى أن أرى مظاهرات وتحركات شعبية عارمة في البلدين، لإرسال رسالة لا لبس فيها حول التفاف الشعوب حول الموقف الرافض لبناء السد وملئه بالطريقة التي تسعى إليها إثيوبيا. لقد استخدم هذا الأسلوب أبي أحمد وأعتقد أنه يجب أن يسمع الرسالة نفسها من الشعبين السوداني والمصري.
أما الخطوات الأخرى الأكثر جدية وأهمية وتأثيرا فنتركها للبلدين، ليقررا كيف يمكن تغيير المسار بحيث يسمح لإثيوبيا استغلال النيل الأزرق لكن ليس على حساب الأمن القومي للشعبين المصري والسوداني.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    أليس السيسي مسؤول عن إتفاقية 2105 ؟
    لماذا لا يتم حسابه على تنازله عن حق مصر التأريخي؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول جمال:

    نسي ابو الغيط ان يلقي معلقة عنترة او عمرو بن كلثوم في التهديد والوعيد وهذا من فيض وخيرات كامب ديفيد التي لا تزال تبهرنا “مدااااااد…» يا سيدي ديفيد مدد!

  3. يقول سمير:

    أعتقد أن الوساطة الجزائرية لوجود حل يرضي الجميع هو الأمل الوحيد المتبقي. تبون أكد علنا أنه واثق من نجاح وساطته.

  4. يقول الشاعر السعيد:

    مصر فقدت دورها وتأثيرها. مصر التي نعرف لم تعد هي نفسها منذ زمن. من يرضى ان ينقاد ويسلم زمام امره لغيره، فقد ارتضى الهوان لنفسه. لن يستطيع احد ان يعتلي ظهرك الاّ اذا انحنيت.

  5. يقول عصفور:

    باعوها
    لقد فقدت مصر هيبتها بعد وفاة الرئيس السابق المرحوم جمال عبد الناصر، وحل مكانه من لا يهمه سوى كم يدخل في جيبه من الدولارات ، إلى أن يتغير ذلك سوف يكون لكل حادث حديث .

  6. يقول هيثم:

    الاتفاقيات حول نهر النيل خلال الاستعمار البريطاني لمصر والسودان كانت تؤكد على استفادة البلدين وخاصة مصر من مياه النيل و لم تكن تهتم بالوضع في بلدان المنبع و خاصة في إثيوبيا التي كانت دولة مستقلة / باستثناء فترة الغزو الإيطالي في عهد موسوليني / و عضوا في عصبة الأمم بعد الحرب العظمى / الحرب العالمية الأولى. الحل في اتفاق ينبني على التفاهم بين البلدان الثلاثة لأنه لا يمكن منع إثيوبيا من تشييد السدود على أنهار تمر في أراضيها .

إشترك في قائمتنا البريدية