ترقص الغابة، تثير الفرح والخوف حين تتحافف أوراق شجرها، تُحدث همسا موسيقيا رقيقاً يجذب طالبي الهدوء، وقد تُغافل وتعلن رقصها العنيف حين يتطاير خشاشها القابل للاشتعال، متجهزة لمواسم الحر، أو لتقبيل يد عابث بالجمال، لا تَعتبِر حينها الحارِق ماسا بجمالها، بل مساهما في محفل الرقص، ومن ذلك يعتبر صوت اللهب نوعاً من الإيقاع.
الغابة وعي الحياة البدائية:
يتدلى الحر من موسم الصيف، فنستشعر دلالة النار، ما يجعل التفكير منصبا حول مفهوم «التبريد» بكل ما تحمله الكلمة من معاني «الاصطياف» و«النزهة» «الماء» و«الشجرة» فموسم الصيف بما يحمله من المفاهيم المتضادة، هو شهر ننتظر فيه الحرائق لاعتبارات الحرارة المرتفعة، وإلا لماذا نجهز المكيف، كرمز قوي لــ«الإطفاء» حيث الإيواء، إما إلى «الغابة» دلالة «الشجرة» أو إلى «البحر» دلالة «الماء» وعند عتبتي المعنيين المتضادين في الليونة (ماء) والصلابة (شجر) يتشكل المعنى في «الاحتراق» و«الإطفاء» فالغابة باعتبارها فضاء النزهة تعتبر الحيز الذي يختزن الفرح الإنساني، حينما تُطلَق الذات على سجيتها متحررة من ثقل المراسيم المجتمعية المقيدة للفعل الأناسي المحدد بالجمال، لكن تلك الحرية في ممارسة الجمال، كفيلة بأن تحقق مأساة يُشعل فتيلها «عود الثقاب» المهمل في سلوك الاصطياف التحرري، حيث لا يعبر في النهاية سوى عن مشاعية الحياة البدائية حين اجتمع في وعيها الأول الخوف من الشرارة الأولى للنار من جهة، والفرح بما وفرته من متع الضوء، الدفء والطهي.
الغابة باعتبارها احتفالاً ومأساة:
تحضر في موسم الحر الرغبة العميقة في الخروج، لعل أولها الخروج من الجلد، كتعبير عن الضيق بالوسط الجاف الذي يجرّه الحر على عناصر المحيط ومنها الإنسان، ثم الخروج من المكان المشمول بالحرارة إلى غيره الملطف بالانتعاش، ويدل هذا على أن الإحساس بالحر يهيئ الإنسان لاستقبال تبعاته، وبالتالي حينما تشتعل الغابة ويُستغرب اشتعالها يبدو هذا نوعاً من الاستهزاء بالمتوقع، لأن المنتظر من درجات الحرارة المرتفعة هو الاحتراق، والصدمة من الاشتعال إنما تعبر عن وهم، لأن الناس في حقيقة الأمر، بوعي أو دونه، ينتظرون الاشتعال إذا توفرت شروطه، الغابة والحرارة، والمعقول أن الصدمة تكون من عدم الجاهزية لمواجهة مأساة الحرائق، التي تأتي على الأخضر واليابس، الحياة والروح، كرموز دالة على مركب الجمال. نمارس نوعا من الإيهام بخوفنا من النار حين نستقبل موسم الحر، ثم نبدي تفاجئنا بالحرائق، بينما نحن مولعون بها حد الهوس، لأنها على الأقل تصنع احتفالاتنا على حد تعبير غاستون باشلار، كما أن ترتيب سردية المفاجأة تخلي المسؤولية عن الجمهور، باعتبارهم متفرجين كغيرهم على مشهد الحريق في ذهول، إما انتظارا لما سيسفر عنه اشتعال الغابة، أو إقداما على الفرار إذا اشتد لهيبها وامتد إلى ما يجاورها، بينما كل هذا الاعتراف بالخوف من النار والتفاجؤ بالاشتعال يكشف عن عدم الجاهزية لمواجهة ما هو منتظر، فوجود الغابة وموسم الحرارة يعنيان احتمالية الحرائق.
تغري الغابة بعض النقاد، فيتساوقون مع شدة الإغراء ليُلبسوا جسد النقد عباءتها، ويغدو السرد شيئا من التشابك والظلال، التي تحدثها الغابة في تكاثر أشجارها وتداخل طرقاتها.
الصغيرة ذات القبعة الحمراء:
نكتشف الغابة في طفولة «الصغيرة ذات القبعة الحمراء» التي تقبل عليها في براءة مفعمة بالفرح والوهم، منتشية بكثافة أشجارها وسكونها الموحش، الذي لا يثير في نفس الصغيرة أي نوع من أنواع الخوف، فتتوغل عابرة إلى بيت «الجدة» وما الجدة سوى الأعماق الموغلة في التجربة والسكون، فيلتقي سكون الغابة بسكون الصغيرة الذي يجد جذره في «الجدة» ليتوافقا ويتواءما ويستسلم بعضهما للآخر، لكن الغابة دوما ليست بريئة، تختزن التناقض الرهيب بين الاستجمام والقابلية للالتهاب، السكون الموحش داخل الغابة يعبر عن هذا الجانب الذي نخفيه في أعماقنا، ونريد أن نراه باديا في حرائق الغابة حين نصطف متفرجين على الحدث المرعب خلف رجال الإطفاء وهو يؤدون عملهم.
إن «الصغيرة ذات القبعة الحمراء» تصادف (في ما يبدو) في طريقها الذئب، وهو الخطر الدائم المتربص في الغابة، يتحاوران، فيعرف أسرارها ليسبقها حيث تريد التوجه ملتهما «جدتها» أي تجربتها وسكونها. تقف التجربة الإنسانية عاجزة أمام حرائق الغابة، هل ينتظم ذلك ضمن مخطط الطبيعة لقهر الإنسان وتطويعه لصالحها، وهو عكس نظرية مركزية الإنسان القاهر للطبيعة ومسخرها لصالحه؟ إن الملمح الطفولي لدى الصغيرة يكشف عن براءة الإنسان في استسلامه للغابة الموحشة، وطلبه الراحة والاستجمام في مناطق الخطر، الغابة والبحر، لكنه يفعل ذلك بوعي، لا يغيب عنه الخطر، لكنه يتناساه فقط لأنه يرغب في إشباع غريزة الهدوء لديه، فالبحر قصيدة توزع نشيدها وغنائيتها عبر التلاشي الرقيق للموج على رمل الشاطئ الذهبي، والغابة ترسل حفيفها الموسيقي لذة في نفوس تشتهي التلاشي المقدس عند عتبات السكون الموحش. لحظة اكتشاف غياب الجدة فريسة بين أنياب الذئب، هي اللحظة التي يستفيق فيها الوعي البريء بمخاطر الوجود على طبيعة الإنسان الهادئة بالفطرة، وهي أيضا اكتشاف ذئبية الكينونة العالقة في قابلية الإنسان لكي يكون ذئبا، فالانتقام لدى الصغيرة تحصيل حاصل لفقدان الأمان أمام الخوف من تغول الذئبية، وذلك هو الإحساس الذي توقظه الغابة وهي تشتعل، والمشهد تتوزعه حالات الخوف والرعب والهرب والفرجة أيضا، التي تحصل راهنا من المتابعة الملاييرية للمشاهدات عبر الشاشات المتنوعة من التلفزيون إلى الهاتف النقال والكومبيوتر.
الغابة كحكاية للأثر:
تغري الغابة بعض النقاد، فيتساوقون مع شدة الإغراء ليُلبسوا جسد النقد عباءتها، ويغدو السرد شيئا من التشابك والظلال، التي تحدثها الغابة في تكاثر أشجارها وتداخل طرقاتها. يستبق توماس ستيرنز أليوت الزمن الشعري ليؤكد غابوية الشعر في «الغابة المقدسة» ومفهوم المقدسة ينزع بالفهم إلى شكلانية الطقوس وهي تتردد داخل متاهة الأشجار، دون تحديد اتجاه مضبوط، وهو ما يمكن أن يكون بلا تحديد ظاهر على إنه المصدر المجهول للشعر، ويمكن أن تفسر الغابة شيئا من طقوسية الشعر القديمة في وجودها وفي انتثالها من غرابة منبثة في أحد أصقاع الكون البعيدة والغامضة، وهذا بعيدا طبعا عما أراده اليوت في كتابه «الغابة المقدسة» الصادر عام 1920. وفي ممرات الغابة النقدية يصادف أن يقف أمبيرتو إيكو محملا بأعباء السرد، والقادر على تفسيره عند مدخل الغابة، حيث يستطيع أن يشير إلى طريقتين للتجوال: «إما أن نسلك طريقا أو طرقا متعددة (للخروج بسرعة من الغابة أو اكتشاف منزل جدة ذات القبعة الحمراء).. وإما أن نتسكع داخلها لمعرفة كيف تتكون الغابة» أفاد إيكو النقد بكتابه «ست نزهات في غابة السرد» الصادر عام 1994، فالغابة لا تخفي توحشها عندما لا تكون في الوعي سوى العلامة القائدة إلى جدة الصغيرة ذات القبعة الحمراء، أي الطريق إلى الذئب، لأننا كقراء عرفنا الجدة كأثر بعد عين، شهدها الذئب لآخر مرة ولم يتعرف القارئ عليها كفاعل سردي، فالغابة تمتلك هذه الخاصية لإخفاء الكائن والاحتفاظ ببعض أثره، كالحكاية، ولهذا أيضا يمكننا التسكع داخلها، لنكتشفها وبذلك نكتشف الخطر الكامن في سكونها، والحفيف المغري كالنغم الذي تمثله موسيقى بيتوفن للأذن الألمانية، إذ يتشكل الوجدان عبر هذا الخطر في الانتشاء والغيبوبة في حضور خارج مداخل المؤسسة الحيوية للسيرورة، الإنسان يعيش في المنزل ويتواصل مع الشارع وصولا إلى العمل والجامعة والسوق، لكن عبر الغابة يصل إلى ذاته في لحظة فارقة قد يشهد فيها اختفاءه إلى الأبد.
كاتب جزائري