ليس يسيرا ان نتحدث عن اشكالات التاريخ العربي الاسلامي خارج مقاربات التأويل، وطبيعة المهيمنات الحاكمة، مهيمنة السلطة، ومهيمنة المقدس، ومهمينة الجماعة.. اذ باتت هذه المهيمنات هي القوى الصيانية الأكثر رعبا، والأكثر حيازة لشروط التعاطي مع مفهوم الحديث والمراجعة والنقد، لاسيما ان صورة التاريخ تجوهرت في صورة الرمز والايقونة، وفي الحافظة وفي ذاكرة الرواة.. وحتى تاريخ الصراع الذي رافق نشوء الخطاب العربي الاسلامي بصفته خطابا لرسالة او لفكر او لسلطة او لايديولوجيا، فانه كان صراعا يتجوهر في اغلب مظاهرة على السلطة وعلى هوية الخطاب وعلاقته بفقه الحاكمية.
ولكن مرحلة انهيار السلطة المركزية، اسهم إلى حد كبير في تشظي المركز الحاكم/ السلطة إلى مركزيات صغيرة، اصطنعت لها خطابات عصابية، وعناوين لها سلطات رمزية أكثر عنفا في النظر إلى هوية الخطاب، وإلى استعمالاته في التعاطي مع اصل النص، ومع مفهوم الحاكمية الشرعية الدينية، والحاكمية السياسية والايديولوجية، التي ولّدت خلال قرون طويلة نوعا من الصراعات المرعبة التي كان ضحاياها تفوق ضحايا حروب الدولة الاسلامية جميعها..
هذه الحروب وجدت نفسها ازاء تاريخ أكثر استلابا، الذي مثلته حالات الاستعمار التي عاشتها مهيمناتها البيئة الاسلامية، التي اسكنتها برعب هوياتي اخر، لكن ذلك لم يلغ غريزة الرعب التأويلي الذي سبق ان حملته المركزيات الجماعاتية المتشظية، اذ لم تضع الحرب الصليبية بوصفها حروبا استعمارية الخطاب الاسلامي امام هوية جامعة، بل اسهم إلى حد ما في تضخيم ظاهرة العنف الرمزي، بما فيه العنف الطائفي، بدءا من الصراع الذي تفجر مع مجيء الدولة الايوبية إلى مصر، وانتهاء بالصراع المرعب بين السلاجقة والبويهيين، وصولا إلى الاستعمار الحديث الذي وجد في تلك المركزيات المتشظية والمرعبة، مجالا للاستحواذ والهيمنة، ولاستعادة نوع من الصيانية الأكثر رعبا، خاصة بعد تعاون الاستعمار الانكليزي مع بعض القوى الجديدة في الجزيرة العربية، من اجل مواجهة الدولة العثمانية، والحد من تضخم دولة محمد علي باشا الجديدة..
وحديث الرواية العربية وعلاقتها بسرديات هذا التاريخ ينطلق من فكرة البحث عن صيانات مضادة لهذا التاريخ المرعب، وعن تخيلات تعيد وضع الهويات الصراعية داخل هويات سردية متخيلة، حدّ ان البعض وضع السرد وتخيلاته مقابل التاريخ هذا ذاته، وامام مهيمنات مركزياته المتشظية، وهوياته القاتلة والمقتولة بقياس امين معلوف.. هذا المعطى تلبس بالكثير من الاشكالات المفهومية والتاريخية، خاصة في ما يرتبط بعلاقة الرواية بالمتخيل الاستعماري، وبالتعالقات التي جاءت مع الحروب الصليبية ومابعدها كآثار وتناصات وتلاقحات ثقافية ودينية واسطورية…
كتاب الناقد والباحث عبد الله ابراهيم «السردية العربية الحديثة.. تفكيك الخطاب الاستعماري وإعادة تفسير النشأة – الجزء الأول» الصادر في مجلد عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، يثير الكثير من الاسئلة حول الاشكالية المرجعية للرواية العربية، وحول طبيعة هذه المرجعية فنيا وتاريخيا، وحول التعرّف على مهيمناتها وعلى تعالقاتها النصية بالآخر الاستعماري، وضرورة الحاجة إلى تفسير نشاة الرواية، منطلقا من عتبة افتراضية تقوم على فكرة تقويض المرجعيات الاستعمارية والغربية بشكل خاص، واعادة النظر بالارخنة الاجناسية للرواية من خلال الاجتهاد في اعادة قراءة التراكم السردي الحكائي، والمقامي والسيري والشاهي للرواية في المورثات العربية، الذي قد يكون جزءا من المتخيل السردي للجماعات المتشظية، بوصف هذا التدوين المتخيل نوعا من الصيانة..
طروحات عبد الله ابراهيم وكشوفاتها تصطدم بالعديد من الاسئلة، والمعطيات التي تكرست في المجال التاريخي والبحثي، لاسيما الاسئلة التي تلامس الـ(كيف) التي اعتمدها الباحث في التعاطي مع فكرة هذا التقويض وقدرته في مواجهة ما هو مخصوص ومتعين؟ وكذلك في الـ(اين) بوصفها دالة على اثبات المكان الذي ارتبط بموجهات الرواية، واقصد هنا المدينة البرجوازية والتجارية، التي يمكن الرجوع اليها نصوصيا- في التاريخ- لاثبات مرجعيات هذا الحكم، وفي التقعيد النظري والمناهجي للمعطيات التي حاول ان يفندها الباحث في اجراءاته التأسيسية؟
هذه الاسئلة وغيرها تضع مسألة السردية العربية ومرجعياتها امام حزمة من الشكوك، وفضاء من القراءات، ليس للاثارة الضدية، او حتى محاولة التأكيد على مرجعيات افتراضية او تاريخية لهذه السردية، بل لايجاد اطر عملياتية وقصدية وحتى نقدية يمكن الركون اليها، واثباتها، وايجاد مقايسات واطر تؤكد هذا المعطى.
لاسيما ان التعالق ما بين فن الرواية والمنتج الغربي لها يملك الكثير من التراكم المؤسسي والبحثي، مثلما يرتبط ايضا بمجموعة من المعطيات المؤسسة في البحث التاريخي والاكاديمي، والقارّة في مناطق واسعة من موجهات القراءات السردية، والمرجعيات الثقافية، التي حددت لها ترسيمات معينة، منها ما يربط الرواية بمهيمنة المدينة الصاعدة وصورتها في العقل الغربي، ومنها من يربطها بطبيعة التحولات الاقتصادية/ الصناعية والثقافية التي حدثت بعد الثورات الكبرى في الغرب وتاثراتها، ومنها ما يرتبط بحركات التبشير والاستشراق والاستعمار القديم العبودي والتجاري، الذي اسهم في اعادة انتاج الكثير من المرويات والحكايات ونقلها إلى شعوب اقل تطورا، فضلا عمن يربطها بالتاثيرات التي جاءت مع الصحافة والترجمة والثورات السياسية التي صنعت لها اشكالا تعبيرية معينة، كانت الرواية خطابها الأكثر وضوحا، بدءا من التعبير عن مرويات قواها الجديدة، التي برزت بشكل واضح في نهايات القرن الثامن عشر مع الثورة الامريكية والثورة الفرنسية وغيرها..
هذه المعطيات والتأثيرات انعكست على توسيم ملامح محددة للشكل الكتابي للرواية، بوصفها القصدي التعبيري، وكذلك بوصفها المدخل لتحديد اجناسية الرواية في التجنيس الادبي والثقافي..
يمكن ان ننحاز لطروحات الباحث عبد الله ابراهيم، ويمكن كذلك التعاطي مع طريقته في اعادة قراءة هذا التاريخ الاشكالي للسرد الروائي، بوصفها قراءة استعادية، وقراءة مضادة للارث الاستعماري الذي غيّب بقصدية معروفة الكثير من الوقائع التاريخية والمظاهر الثقافية، بما فيها الموروث الحكائي والسيري، الذي ارتبط بالمقدس او بالشفاهيات، لكن هذا الحكم- الاجتهادي- الذي حاول الباحث ان يعززه بعدّة قرائية فاعلة، يتطلب ايضا فحصا نقديا وعلميا، وحتى تاريخيا لغرض تقعيد هذا التلازم ما بين الموروث السردي والجنس الروائي بعيدا عن كل التعالقات التي افترضتها الدراسات التي اشارت إلى علاقة الرواية بالمدينة والطبقة البرجوازية والصالونات، وكذلك بالطبقة الوسطى ونشوء الحركات والجماعات الثقافية والسياسية في الغرب.
فإذا كان الباحث ابراهيم يرى ان مقاربته النقدية قد (استدرجت قضية أصول الرواية ومصادرها ونشأتها وريادتها باعتبارها لب السردية العربية الحديثة، آراء كثيرة منها ما ينكر على الموروث السردي القديم إمكانية أن يكون أصلا من أصولها، وآخر يراه حضنا ترعرعت بذورها في أوساطه، وغيره يؤكد انه الأب الشرعي لها. وثمة آراء تراها مزيجا من مناهل عربية وغربية) فان هذه المقاربة قد وضعته ايضا امام مناطق غامضة، وتصورات تحتاج الكثير من التوضيح، لكي نربط ما بين التاريخ الافتراضي للرواية بوصفها منتجا غربيا، ومرجعياتها العربية التي يختلط فيها البناء القصصي القرآني، مع القصصي الحكواتي مع السيري والمقامي والشفاهي، فضلا عن حاجتها المنهجية لشرعنة مفهوم التجنيس، بوصفها جنسا فنيا له شروطه واشتغالته وله مكوناته البنائية، كالزمن الروائي والمكان الروائي والشخصيات الروائية، مثلما هو حيازته على مجموعة من العلائق الداخلية والاشكال الخارجية، وكذلك التوظيف السردي- التخيلي او التاريخي- لبنيات الصراع ووحداتها ومستوياتها ولطبيعة العلائق بين هذه الوحدات والمكونات.
اختصار السرد بالرواية قد يثير جدلا اخر، بوصف السرد أكثر عمومية، ورغم ان الرواية تمثل الجوهر في هذا السرد، فانها تفترض في هذا السياق اشتراطات تاريخية وفنية، تقوم اساسا على الفصل الفني بين الشكل الغربي الذي عرفناه، والشكل الموروث للظاهرة السردية/ الروائية لجنس الرواية العربية وتوصيفها، وتركيب وحداتها الداخلية، وتوظيفها للزمن والمكان والشخصية والعلائق ما بينها.. ضم الكتاب خمسة فصول زاوجت بين تفكيك الخطاب الاستعماري بوصفه قوة مهيمنة، وبين التعريب والمحاكاة واعادة تركيب الريادة الروائية، فضلا عن تقديمه للمدونة السردية في القرن التاسع عشر. هذه المزاوجة اجتهد الباحث في ان يقدمها بوصفها عتبات اشتغال وتفكيك لتاريخ نصوصي، مقابل ايجاد عتبات قرائية نقيضة تقوم على تفكيك المرجع الايهامي والمهين باتجاه مرجع اخر يفترض ما يحوزه من آليات تقوم على فاعليتي الفصل والتأسيس، اذ تمثل هذه الثنائية المجرى الذي يحاول الباحث تأصيل تمظهراته الاجرائية، وعمقه المفهومي، وبما يمنح الخطاب الجديد زاوية نظر جديدة لموضوع عميق خطير وفادح لاشتغالات العقل الثقافي العربي، اذ (التبست حوله الآراء وتضاربت مثلما حصل لموضوع السردية العربية الحديثة، وفي مقدمتها الرواية. ويعود ذلك إلى تغلب مرجعية مؤثرة على اخرى أو اختزال ظروف النشأة إلى سبب دون آخر، فضلا عن الميل الواضح إلى اعتماد مبدأ المقايسة بينها وبين السرديات العربية الحديثة، فلم يُول اهتمام موضوعي للبحث في المهاد الثقافي الذي أدت تفاعلاته إلى مخاض صعب وطويل تبلورت ملامحه خلال عشرات السنين فأفضى إلى ظهور الشكل السردي الجديد: الرواية العربية)
كاتب عراقي
علي حسن الفواز