سيواصل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وبخاصة الطريقة التي تم بها، إثارة مزيد من التساؤلات والتأملات بشأن تداعياته المحلية والعالمية، وقبل ذلك بشأن معناه.
قبل كل شيء ينبغي التذكير بأن قرار الانسحاب من هذا البلد المنكوب لا يتعلق بإدارة بايدن، بل هو قرار استراتيجي متوافق عليه بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، سبق اتخاذه منذ سنوات، وحدد تاريخه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بنتيجة تفاوض مع حركة طالبان المصنفة منظمة إرهابية.
منذ شهر أيار الماضي، الموعد المحدد مسبقاً للانسحاب، كان واضحاً أن حركة طالبان تسعى إلى السيطرة على السلطة، وعلى العاصمة كابول ضمناً. فلا مكان لتبريرات من نوع سوء التقدير، أو لأوهام بشأن قدرة السلطة السابقة على الصمود أمام زحف مقاتلي حركة طالبان، على رغم حجم الجيش الرسمي وتسليحه الأمريكي الحديث، بالمقارنة مع مقاتلي طالبان.
بناء على هذه المقدمات يمكن الاستنتاج بأن الأمريكيين الذين تراجعوا عن مشروعاتهم الطموحة بشأن «بناء دولة – أمة أفغانية حديثة» متسقة مع المعايير الغربية، كما أعلن بايدن بصراحة يشوبها الكذب، لم يعودوا معنيين بمن يحكم أفغانستان بعد انسحابهم، حتى لو كانت منظمة إرهابية كحركة طالبان، بشرط واحد هو بقاء الإرهاب الأفغاني داخل حدود أفغانستان، أو وفقاً للرطانة الأمريكية «عدم تهديد الأمن القومي الأمريكي». حتى لو امتد إرهاب الحركة خارج الحدود باتجاه الدول المجاورة، فالأمن القومي الأمريكي غير معني به. المهم ألا يمتد إلى الأراضي الأمريكية أو أي وجود أمريكي خارج الحدود. تنطوي هذه الاستراتيجية على مراجعة سياسية كبيرة لكل تاريخ التدخلات العسكرية الأمريكية خارج الحدود، وبخاصة للحرب الأمريكية على الإرهاب في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، وتؤسس لمفهوم جديد للأمن القومي منغلق على حدود الدولة أو يكاد. بكلمات أخرى: ما دام الإرهاب لا يقترب من الأراضي الأمريكية والمصالح الأمريكية، فهو مشكلة تعني الدول الأخرى، ويمكن التعايش معه.
بل من المحتمل أنه حتى حدوث اعتداءات على «المصالح الأمريكية» خارج الحدود لن يتطلب، وفقاً للاستراتيجية الجديدة، أكثر من الرد واحدة بواحدة كما تكرر ذلك في الأشهر الأخيرة في مواجهة اعتداءات الأذرع العراقية لإيران على مواقع أمريكية في سوريا والعراق. فالرد لا يتجاوز ضربات موضعية على الطريقة الإسرائيلية مع حزب الله، إلى رد شامل يستهدف القضاء على العدو كما فعلت إدارة أوباما مع دولة داعش الإسلامية. حتى في تلك الحالة لم تكن إدارة أوباما معنية بالإرهاب الذي تمارسه داعش داخل دولتها على السكان في العراق وسوريا، بقدر ما كان الهدف وقف هجمات داعش على المدن الأوروبية. صحيح أن تلك الحرب قد بدأت قبل الهجمات المشار إليها، لكن إعدام تنظيم «الدولة» لمواطنين أمريكيين، لم يترك مجالاً أمام أوباما للتهرب من مسؤولية المواجهة، إضافة إلى استقطاب تنظيم الدولة لمئات الأوروبيين والأمريكيين. بالمجمل كانت الحرب على داعش مزيجاً من الاستراتيجية القديمة لما بعد 11 أيلول، والاستراتيجية الجديدة الآخذة في التبلور، أي التعايش مع الإرهاب ما دام لا يشكل خطراً على الأمن القومي الأمريكي.
إرهاب الأنظمة المتوحشة سيواصل تغذية موجات اللاجئين باتجاه الدول المرفهة بالدرجة الأولى، مهما ارتفعت الجدران بين الدول. ففي النهاية مشكلاتنا لا تخصنا وحدنا، بل هي مشكلات عالمية بقدر ما هي محلية
من المحتمل ألا يكون التعبير عن هذا التغيير في سياسة «الحرب على الإرهاب» مقتصراً على رسائل غير مباشرة بواسطة التطبيق العملي، فليس من المستبعد أن تكون المفاوضات مع حركة طالبان تضمنت هذا الموضوع «وجهاً لوجه»: ابقوا بعيدين عنا وافعلوا ما تشاءون في بلدكم!
أليست هذه السياسة مطبقة فعلاً على حالات تمارس فيها الدولة إرهاباً متواصلاً على السكان من غير أن تفقد شرعيتها الدولية والأممية وتوصف بالإرهاب؟ هذا ينطبق اليوم على نظام بشار الأسد الذي وثقت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية انتهاكاتها الموصوفة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كالقصف المتعمد للمدنيين وللمستشفيات والمخابز وأسواق الخضار، إضافة إلى استخدام السلاح الكيماوي؟ مع ذلك ما زال هذا النظام يعامل معاملة الدولة الشرعية. ويشير تيسير واشنطن لمشروع نقل الغاز والكهرباء من مصر إلى لبنان، عبر الأراضي السورية، إلى بداية تطبيع أمريكي مع النظام.
سواء تعلق الأمر بأنظمة متوحشة كنظام بشار، أو دكتاتورية دموية كنظام السيسي، أو منظمات إرهابية استولت على الحكم كحركة طالبان، فمعيار التعاطي مع الجميع هو اقتراب أو عدم اقتراب إرهابهم من الحدود الأمريكية أو الغربية بصورة أوسع. فإذا التزمت الحكومات أو المنظمات الإرهابية بهذا الخط الأحمر، أمكنها أن تحكم وتفعل بمحكوميها ما تشاء.
قد يبدو للبعض هذا الانكفاء الأمريكي أمراً عادلاً ومحموداً، فهو يتسق مع مفهوم السيادة، سيادة الدول على ما داخل حدودها، وعدم التدخل من قبل دول أخرى في شؤونها «الوطنية». لندع جانباً أن هذه وصفة مرضية للأنظمة الدكتاتورية المتوحشة، وحكماً بالموت على من يعيشون تحت سيطرتها، يبقى أن فيض القوة الأمريكي لن يكف عن التدخل في شؤون العالم بمجرد التوقف عن شن الحروب لإسقاط أنظمة، بل تسمح أنظمة التسلح الحديثة التي تملكها بفرض إرادتها على الدول الأخرى بدون شن حروب تقليدية. ولا يقتصر فيض القوة الأمريكي على قوة السلاح، بل هو أساساً اقتصادي وتكنولوجي، بما يجعل الولايات المتحدة قوة هيمنة بلا حاجة إلى إرسال الجيوش خارج الحدود.
هذا لا يعني، طبعاً، أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين يستطيعون أن يفعلوا ما يشاؤون، وأن هذا «البرنامج» بلا ثغرات. فهناك منافسون أقوياء كالصين وروسيا مثلاً، يستفيدون من الانكفاء الأمريكي وفقاً لسياسة التمدد الاستعماري التقليدية، فيملؤون الفراغات، جنباً إلى جنب مشاركتهم في السباق التكنولوجي. ويبقى أن إرهاب الأنظمة المتوحشة سيواصل تغذية موجات اللاجئين باتجاه الدول المرفهة بالدرجة الأولى، مهما ارتفعت الجدران بين الدول. ففي النهاية مشكلاتنا لا تخصنا وحدنا، بل هي مشكلات عالمية بقدر ما هي محلية.
كاتب سوري
الإرهاب ما هو الا صناعة امريكيا و حلافاءها لاحتلال الشعوب الضعيفة و الاستلاء على خيراتها
هذه هي حقيقة بات يعرفها الكل القانون دوليي و لا قانون حقوق الإنسان هناك قانون العصابة الدولية الخارجية تتحالف مع عصابة داخلية لتدمير البلاد
كصناعة حفتر..غي ليببا و غيرها