بين كامو وماكرون: أين «أمّة الجزائر»؟

حجم الخط
16

المنطق البسيط يقول إنّ اعتبارات عديدة كمنت خلف قرار الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون استقبال 18 من الشابات والشبان الفرنسيين من أصول جزائرية، أحفاد مقاتلين في «جبهة التحرير الوطني» أو «حركيين» انحازوا إلى الاستعمار الفرنسي للجزائر، أو مجموعات «الأقدام السوداء» من الفرنسيين الأوروبيين الذين غادروا الجزائر بعد استقلال البلد. غداء استمرّ ساعتين، ولم يخلُ من رسائل ساخنة بعث بها ماكرون إلى مواطنيه الفرنسيين بصفة خاصة محددة.
اعتبار أوّل، لعله الأبرز، هو استباق حملات الانتخابات الرئاسية المنتظرة في أيار (مايو) المقبل، والتي تشهد لتوّها تسخيناً عالياً حول مسائل الهجرة والمواطنة والتاريخ الفرنسي والهوية والذاكرة، بما في ذلك إعادة قراءة ملفات الاستعمار الفرنسي للجزائر؛ التي يحدث أنّ صحافياً عنصرياً مثيراً للجدل، ابن مهاجر جزائري يهودي، إريك زيمور، هو الذي يشعل نيرانها، فتنشغل بها وسائل الإعلام وأقنية التلفزيون ومواقع التواصل. المرشحون لرئاسيات 2022 هم أوّل المكتوين بنيران زيمور لأنه يلوّح باحتمال ترشيح نفسه، ولديه أنصار بمئات الآلاف، وجمعيات وروابط مؤيدة تتكاثر كالفطر، وفي أحدث استطلاع للرأي حول نوايا التصويت في الدور الأوّل، حلّ زيمور ثالثاً بعد ماكرون ومارين لوبين زعيمة «التجمع الوطني» اليميني المتطرف، بمعدّل 15% ولا تفصله عن الأخيرة سوى نقطة واحدة.
اعتبار آخر هو أنّ ماكرون يقلّب الرأي في طبيعة مساهمته، رئيساً ومرشحاً، لإحياء الذكرى الـ60 لمجزرة باريس، التي ارتكبتها الشرطة الفرنسية في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961 ضدّ مظاهرة سلمية مساندة للثورة الجزائرية، وأسفرت عن مقتل 40 متظاهراً حسب الرواية الرسمية، والمئات حسب العديد من المؤرخين. ليس في وسع الرئيس تمرير المناسبة من دون مساهمة، هو الذي رفع راية الحرص على التئام «جرح الذاكرة» في مناسبات سابقة، وهو الذي طلب من المؤرّخ بنجامن ستورا كتابة/ إعادة تدقيق تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر، وهو الذي أقرّ بأنّ الأجهزة الحكومية الفرنسية اغتالت المحامي والمناضل الجزائري علي بومنجل قبل 64 سنة.
لكنه، في المقابل، لا يملك رفاه إثارة غضب ملايين الفرنسيين المتعصبين للاستعمار الفرنسي عموماً، والشطر الجزائري منه خصوصاً، ممّن يأخذون على ماكرون هذا المقدار أو ذاك من خيانة تاريخ فرنسا. ولم تكن مصادفة أنّ المؤرّخ ستورا نفسه كان حاضراً في اللقاء، وضمن وفد الصبايا والشبان تجاور حفيد الشهيد بومنجل مع حفيد الجنرال راؤول سالان رابع الضباط الأربعة الكبار الذين قادوا «انقلاب الجنرالات» أواخر نيسان (أبريل) 1961 ضد الرئيس الفرنسي شارل دوغول على خلفية رفض الانسحاب من الجزائر. وليس عبثاً أنّ ماكرون سأل ضيوفه: ماذا تقترحون عليّ أن أقوم به، وذكرى 17 أكتوبر على الأبواب؟ يجيبه أمين (18 سنة) أنّ عمّ أبيه قُتل خلال المجزرة، وهو يواصل رسالته اليوم، وليس أقلّ من خطاب يعلن الأرقام الحقيقية للضحايا، فضلاً عن إدانة النظام السياسي الاستعماري، يمكن أن يليق بكرامة الضحايا.

ماكرون يردد، وإنْ على نحو ببغائي، أفكار ألبير كامو حول «أمّة افتراضية» في الجزائر، لكنه لا يتجاسر على نفي وجودها بل يلجأ إلى صياغة النفي عن طريق التساؤل، الممتزج بمسعى مبطّن لتجميل الاستعمار الفرنسي

ثمة، إلى هذا، اعتبار ثالث يستهوي ماكرون كلما لاحت فرصة لاستعراض عضلاته الفكرية والفلسفية والأدبية والفنية (كما في مثال تأبين الكاتب والصحافي جان دورميسون، والممثل جان – بول بلموندو)؛ دفعه إلى الفقرة الأخطر، وقد تكون الأخبث نيّة، في حواره مع وفد الصبايا والشبان، أي التساؤل عن وجودّ «أمّة جزائرية» أصلاً. والحال أنّ غيره كان أشطر بكثير، وأعلى كعباً ومكانة، إذا سبق أن ساجل حولها ألبير كامو، من مواقع ثلاثة: الروائي والقاصّ، الذي كتب من قلب الجزائر حيث ولد؛ والصحافي السياسي، الذي قادته كتاباته إلى فرنسا ومقاومة الاحتلال النازي ونظام فيشي؛ والمفكّر/ الفيلسوف، الذي لن يختلف مع جان ــ بول سارتر حول الوجود والعدم والعبث فحسب، بل كذلك حول الشيوعية والاستعمار.
هنا فقرة من «وقائع جزائرية»، صادمة بقدر ما هي دالّة: «في ما يتعلق بالجزائر، فكرة الاستقلال الوطني ليست سوى صيغة تحرّكها العاطفة وحدها. لم تكن هناك أمّة جزائرية حتى الآن. واليهود والأتراك واليونانيون والإيطاليون والبربر سوف يحقّ لهم أيضاً أن يزعموا قيادة هذه الأمّة الافتراضية. وفي الوضع الراهن، ليس العرب هم وحدهم الذين يشكّلون الجزائر. فرنسيو الجزائر أبناء بلد أصلاء بدورهم، وبالمعنى الأقوى للكلمة. فضلاً عن هذا، فإنّ جزائر عربية خالصة لا يمكن لها أن تنجز الاستقلال الاقتصادي، الذي من دونه يكون الاستقلال السياسي محض وهم».
ماكرون يردد، وإنْ على نحو ببغائي، أفكار كامو حول «أمّة افتراضية» في الجزائر، لكنه لا يتجاسر على نفي وجودها بل يلجأ إلى صياغة النفي عن طريق التساؤل، الممتزج بمسعى مبطّن لتجميل الاستعمار الفرنسي: «إنشاء الجزائر كأمّة هو ظاهرة جديرة بالتأمل. فهل توفرت أمّة جزائرية قبل الاستيطان [وليس الاستعمار!] الفرنسي؟ هذا هو السؤال». وهو في المحصلة سؤال رئاسي وشخصي يُبطل القسط الأعظم من امتداح ماكرون لضيوفه المنتمين إلى «الجيل الثالث» والذين يعتبرهم «حَمَلة جزء من التاريخ» و»حَمَلة عبء» في آن معاً، لأنّ فرنسا لم تحلّ المشكلة بعد في يقين الرئيس.
وفي انتظار مساهمة ماكرون حول الذكرى الستين لمجزرة باريس، يواصل زيمور القفز من رقم إلى آخر أعلى في نوايا التصويت، ولكلّ نصيبه من حال الهستيريا الجماعية بصدد سياسة الذاكرة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول طاها:

    أقول لماكرون ألعب غيرها كلشي مكشوف وأقول له لا فرنسا ولا غيرها يستطيع الوقوف في وجه الجزائر الجديدة القافلة تسير والكلاب تنبح

  2. يقول قواسمي ساسي:

    شعب الجزاءر مسلم والى العروبه ينتسب. يا سي مكرون‘ مع من كان يتحاور سفيركم ابان حادثه المروحه؟

  3. يقول غزاوي:

    مجرد تساؤل.
    فهل توفرت أمّة جزائرية قبل الاستيطان [وليس الاستعمار!] الفرنسي؟
    لمن يبحث عن الجواب عن السؤال السالف يبحث عن الجواب عن الأسئلة التالية:
    هل الجزائر كانت أرض خلاء قبل مجيء العثمانيين !!!؟؟؟
    من قاوم الفرنسيين منذ 05/07/1830 إلى أن طردهم في 05/07/1962 !!!؟؟؟
    لو لم يريد السيد ماكرون، لفت الانتباه إليه ونظف الغبار عليه بعدما أقبره الاتفاق الثلاثي (لندن-واشنطن- كانبرا) ومن تفوق عليه من هو أبشع منه تطرفا ( لوبان وزمور) لوجد الجواب عند المؤرّخ بنجامن ستورا الذي كان بجابه.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية