طبيعي جدا أن تمر بالإنسان أعوام يلوذ فيها بمتابعة الحظ في الصحف مع الأبراج. هذا طبعا إذا كان متعلما ويجيد القراءة والكتابة ، بينما إذا لم يكن يعرف القراءة وجاءت الصدفة بجلوسه مع من يقرأ في صحيفة، فيعرف منه ماذا يقرأ ويطلب منه أن يخبره بحظه.. وحين يعرف يسكت ويبتسم وقد يهز رأسه فهو يعرف أن حظه قليل.
ما يقال عن الأبراج بشكل عام وصفاتها يُقنع الكثيرين وأنا منهم، وهناك تقريبا في كل صحيفة مساحة للحظ والأبراج.. كنا أيام الشباب نقرأها كل يوم، سواء كنا طلبة في المدرسة أو في الجامعة جالسين في الكافتيريا، وبيننا أيضا خفيف الظل الذي يبحث عن خبر في الجريدة عن حضوره إلى كافتيريا الكلية اليوم ولا يجده! نضحك حوله ولا يكف عن ذلك في كل لقاء في الكافتيريا.
كانت الأبراج تريحنا وننطلق بعدها إلى ممارسة شؤون حياتنا بشكل عادي ناسين ما قرأناه، هي دقائق مع الأمل والسراب، أجد ذلك يستمر مع كل الأجيال، فكثيرا جدا ما أقرأ للشباب تعليقات على الميديا عن صفات الأبراج وحظوظها مع الحياة، أو حظها مع الآخرين. أتذكر وأنا بعد في الإسكندرية كيف كنت حريصا كل يوم على قراءة صحيفة «الجمهورية» أنظر في الحظ وأنا برج القوس، كنت دائما أجد في العشرين يوما الأولى من الشهر جملة أو عبارة «أزمة مالية وسوف تمرّ» كانت تكتب تقريبا كل يوم لكن بصيغة أخرى. كنت وقتها أعمل في شركة الترسانة البحرية. وبعد يوم عشرين في الشهر أجد الحظ قد تغير إلى «مال يأتيك». كنت أضحك ويعلق أحد الأصدقاء «ما احنا خلاص قربنا نقبض المرتب». تدور الأيام وآتي للحياة في القاهرة في السبعينيات، وألتقي بالكاتب القاص والمترجم الفلسطيني أحمد عمر شاهين، رحمه الله، الذي كان يعيش في القاهرة وتأتي سيرة الأبراج، فيقول لي ضاحكا إنه هو الذي كان يعمل في الجريدة ذلك الوقت ومهمته كتابة الحظ.
الشائع في الأبراج هو الآتي على سبيل المثال:
«من صفات برج الحمل (مواليد 21 مارس/آذار – 19 إبريل/نيسان) هو العفوية وعدم العناد وتقبل آراء الغير والإسراف في المال والخيال أكثر من الواقع. أما برج الثور (20 إبريل ـ 20 مايو/أيار) فهو هادئ يحب الطمأنينة والراحة وانطوائي وطماع ويحب استغلال الآخرين مثلا. أما برج السرطان (21 يونيو/حزيران ـ 22 يوليو/تموز) فهو عاطفي رومانسي ذكي سريع البديهة عنيف في آرائه ينتقد الآخرين بغضب. انتقل إلى برج العذراء (23 أغسطس/آب ـ 22 سبتمبر/أيلول ) فهو ذكي يُعتمد عليه في الحياة، لكنه متوتر ينتقد الآخرين دائما. انتقل إلى برج القوس ( 22 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 21 ديسمبر/كانون الأول) فهو فيلسوف يحب الحرية روحه مرحة يحب السفر متفائل بصورة زائدة لدرجة الإهمال. هكذا تجد صفات لكل برج وأنا لست ضدها فهي مريحة، كما أنها ملجأ لطيف للنفس. لا أنسى فرحي يوما ما حين عرفت أن نجيب محفوظ من مواليد برج القوس مثلي تماما، أو قل حين عرفت إني مثله من البرج نفسه. لكني طبعا كنت أندهش من كونه منظما إلى درجة مذهلة، بينما أنا فوضوي تماما. كنت أقول لا بد أنه كان فوضويا أيام الشباب، فرواياته خبرات حياة، وأن الدقة والنظام صارت معه على كبر بعد أن أخذ من الحياة خبرات وأفكارا عظيمة، وربما، وهذا جائز جدا، بعد أن رأى الحياة تذهب إلى مكان آخر لم يكن يتمناه للوطن، فصار يعيش غريبا رغم اللقاءات الأسبوعية حوله. هذا يحدث كثيرا مع الأدباء والفنانين، وقد يفقدون عقولهم وبعضهم ينفتح له الطريق إلى الانتحار لأهون سبب. يكون أهون سبب هنا هروبا من الطريق المسدود لأسباب أخرى. لقد فلت محفوظ من هذا الطريق الصعب بالاستغناء.
كانت الأبراج تريحنا وننطلق بعدها إلى ممارسة شؤون حياتنا بشكل عادي ناسين ما قرأناه، هي دقائق مع الأمل والسراب، أجد ذلك يستمر مع كل الأجيال، فكثيرا جدا ما أقرأ للشباب تعليقات على الميديا عن صفات الأبراج وحظوظها مع الحياة، أو حظها مع الآخرين.
عندما تنظر إلى المواليد في كل شهر في بدايته أو نهايته، أي بين برجين، تجد فيهما الأخيار والأشرار معا، كأنهما وجهان لبرج واحد، لكن ليس في شخص واحد. بعضهم أخذ العيوب وبعضهم أخذ المميزات. تندهش من صفحات الميديا التي تذكر لك الأسماء مقرونة بصفة عظماء مواليد شهر كذا. تجد مثلا من مواليد شهر يناير/كانون الثاني الرئيس السوداني عمر البشير، وما أدراك ما فعله من انقلاب، وما فعله بالسودان، في الوقت الذي تجد فيه إسحق نيوتن ومحمد علي كلاي ومارتن لوثر كينغ ويوسف شاهين وجبران خليل جبران ونيكولاس كيج والفيس بريسلي وسيمون دي بوفوار، إلخ من مواليد الشهر نفسه. واذا انتقلت إلى شهر آخر مثل أكتوبر/تشرين الأول ستجد من مواليده أنور السادات – جيمي كارتر ـ بوتين – غاندي ـ هنريك هيملر- إدجار آلان بو ـ محمد منير ـ إسحق شامير ـ شيخ الأزهر عبد الحليم محمود ـ ابو مصعب الزرقاوي زعيم منظمة أنصار الإسلام ومناصر بن لادن ـ الفريد نوبل ـ بيكاسو – بيل غيتس ـ غوبلز ـ زها حديد المعمارية البريطانية العراقية الأصل، إلخ.
هكذا بين كل شهور وأبراج العام لا يتحقق لك القول الفصل، فمن بين من ذكرت تجد من ارتكبوا الآثام في حق غيرهم، ومن رفعوا من شأن أوطانهم والفنون والآداب، ولم يلتفوا إلى الصفات الكونية التي تريح الكثيرين، ومازالت تريحني رغم ما رأيت. أحببت فقط أن أشير إلى أن كل منا يولد صفحة بيضاء تنقش عليها الحياة آثارها، فهناك من يجد الهوان صغيرا ثم يغفر أو ينسى ويحب البشر، وهناك على العكس من يفتح طريق الانتقام. لقد رأيت ذلك في حياتي من شخصيات كثيرة في الحياة الثقافية.. هناك من هو أصله من الريف فقيرا كافح ليكون في موقع مرموق ودفع أهله الغالي والرخيص من أجله، فصار يكره كل من يذكره بماضيه من أصحابه، الذين مثله صاروا مرموقين في الحياة الأدبية وإن لم يتبوأوا مناصب وتفرغوا للكتابة. لا يذكرهم إلا مضطرا وإذا وجد الفرصة أغلق عليهم الطريق لأنهم يذكرونه بيوم كان يمشي فيه شبه عار في القرية. ورأيت غيره مرّ بالظروف نفسها، لكنه يفتح قلبه ومكتبه وبيته للجميع. الأبراج والصفات تنهار كلها في عالم السياسة الذي تسيطر فيه كثيرا روح الانتقام تحت شعارات مثل العدل والمستقبل، ولو قارنت أي قائد أو زعيم بالبرج الخاص به، ستجده بعيدا جدا عن كل الصفات الإيجابية في البرج، وأنه يختلق لنفسه القول عن الإيجابيات، ليستمر في العسف والظلم راضيا متصورا أن الأبراج معه ومن ثم الكون، بينما يأخذ البلاد والعباد الذين خلقهم الله إلى الجحيم. ويستمر الأمر ولا يرى الديكتاتور أبداً لافتة دانتي على باب الجحيم «ايها الداخل إلى هذا المكان، تخلّى عن كل أمل» هكذا انتهت إمبراطويرات كثيرة في التاريخ لست بحاجة لتكرار القول فيها. لم تكن تصرفات الأباطرة من خلق الأبراج، لكنها كانت من خلق الظروف حولهم وما وصلت إليه نفوسهم عبر السنين. الأمر نفسه فيمن ترك أشياء عظيمة خلفه، ولا تندهش من أن الأبراج لم تترك فيه صفاتها غير الحميدة. هو الذي أراد أن تكون له في الحياة صلة حقيقية، فأبدع وفكّر واخترع. طيب، ما الذي يجعلني أتذكر هذا اليوم؟ هي الحيرة تمشي معي طول العمر، وإن كنت وجدت لها إجابة مصرية قديمة خالدة هي «على الأصل دوّر» والأصل هنا ليس الفقر أو الغنى، لكنه البيت الذي ينشأ فيه الإنسان على الرضا والاستغناء والأمل وحب البشر، والبيت الذي يفتح النوافذ على الآخرين بين نقمة عليهم وحسد. وأعرف أن حديثي لن يشكك أحدا في الأبراج ولا حتى أنا، فهي لحظات جميلة حين تقرأها، وليست سببا أبداً في ما حولنا، حتى لو وصلت البلاد إلى برج بيزا المائل.
روائي مصري
شكرًا أخي ابراهيم عبد المجيد. وأنا كنت أقرأ الأبراج في الصحف واليوم إذا كانت متوفرة، لكن لا أخذها على محمل بالطبع. برجي هو السرطان ويعجبني أولًا أني ولدت في منتصف فصل الصيف وأحب حيوان السوطان لأنه يستطبع المشي في جميع الإتجاهات. مفارقة تم كتابها على لافته في أمريكا في إحدى التطاهرات هذا العام وهي أن يوم ميلاد بشار الأسز هو ١١ سبتمبر/أيلول طبعًا هي مصادفة. لكني وجدتها مناسبة لهذا الجزار حيث أن بن لادن والأسد من طينة واحدة. هكذا هي الدنيا، لكن في النهاية الإنسان يصنع خياته وهو المسؤول الأول عن سيرها. أخيرًا لابد من القول المثقف هو الإنسان الذي يرتبط بمجتمعه، وفي المثل الشعبي بقال، اللي بينسى أصله لاأصل له، طبعًا للتأكيد على أهمية ذلك للإنسان.