أجندات ماكرون المتداخلة تخلق الأزمات مجدّدا

المعرفة التاريخية وإدراك الحقيقية، وسائل مهمة لخلق وعي موضوعي بالماضي، وتجاوز المكامن السوداء في الذاكرة المشتركة للحقبة الاستعمارية. والمرحلة غير المشرفة من تاريخ المستعمِر الفرنسي، الذي يحاول رسم صورة بلد حضاري قائم على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، مطروحة بين الجزائر وفرنسا، كما هي مطروحة أيضا في عديد المستعمرات السابقة.
ولعل الجانب الأصعب في هذا الأمر هو مطلب الاعتذار عن جرائم الاستعمار، لما له من أثر وتداعيات، وبالتالي، ملف الذاكرة هو ملف قانوني بالدرجة الأولى قبل أن يكون ذا بعد تاريخي وإنساني.
استخدمت فرنسا دولا افريقية، مثل السنغال وساحل العاج وبنين، كمراكز لتجارة العبيد، إضافة إلى استغلال ونهب موارد هذه الدول وغيرها. وهذا ثابت تاريخيا ووثائقيا ضمن مرحلة توسعية كولونيالية، استمرت فيها الفترة الاستعمارية الفرنسية في مختلف المناطق الافريقية حوالي خمسة قرون. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ردّت باريس على تطلعات الشعوب إلى الحرية، باستخدام القوة العسكرية، فقتلت أكثر من مليوني مواطن افريقي. وواجهت بالنار والإبادة الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في المستعمرات الفرنسية، رفضا لوجود المستعمِر، وطلبا للاستقلال والتحرّر. وما زالت إلى الآن تستنزف ثروات بعض الدول في القارة السمراء، في مالي وتشاد والنيجر، وحتى في بوركينافاسو وساحل العاج، إذ تركّز قواعدها العسكرية تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وفرض الأمن وتتبّع الجماعات المتطرفة. وأبرز مثال هو قتل الجيش الفرنسي آلاف الجزائريين ممن تظاهروا ضد باريس، التي وعدتهم بالاستقلال، قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، شريطة محاربتهم في صفوف جيوشها، في حروب خاضتها بمناطق عديدة ضدّ الألمان تحديدا. وبلغ عدد قتلى المجازر الفرنسية بحق المتظاهرين، التي وقعت في مايو 1945 بمناطق سطيف وقالمة وخراطة شرقي البلاد، لوحدها 45 ألف شخص، وفق تقديرات رسمية. وعملت باريس على القضاء على الهوية الجزائرية في نوع من الإبادة الثقافية أيضا، وبدلا من السعي إلى الحيلولة دون وقوع مجازر جماعية في رواندا، بحق إثنية التوتسي عام 1994، التي سقط فيها قرابة 800 ألف قتيل، قدّمت فرنسا السلاح والدعم اللوجيستي لحكومة الهوتو. ولم تكتفِ بتلك الممارسات الاستعمارية، ودعم مرتكبي المجازر الجماعية، بل فرضت حظرا على الأرشيف الذي يوثّق لتلك الجرائم. وهي المعضلة ذاتها القائمة بينها وبين الجزائر إلى الآن، التي تتأثّر بين الحين والآخر بالعقيدة الوطنية المتعلقة بملف الذاكرة بالنسبة للطرف الجزائري. والثابت أنّ العلاقات الرسمية الجزائرية الفرنسية في حالة تأرجح حاليا، نتيجة الأزمة التي أثارتها تصريحات الرئيس ماكرون، واعتبرتها السلطات الجزائرية مسيئة، وتمثل مساساً غير مقبول بذاكرة 5 ملايين و630 ألف شهيد، ضحوا بأنفسهم عبر مقاومة شجاعة ضد الاستعمار الفرنسي.

ملف الذاكرة هو ملف قانوني بالدرجة الأولى قبل أن يكون ذا بعد تاريخي وإنساني

تطوّرات تؤكد مرة أخرى أنّ الخلافات الدبلوماسية بين البلدين مازالت تحت ضغط قضايا التاريخ والذاكرة المعلقة. ذاكرتان وطنيتان متعارضتان تستمدان من التاريخ المشترك نفسه سرديات متعارضة، رغم الخطوات التي اقترحها المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا، لتقريب وجهات النظر في قضايا تحتل مكانة بارزة في الذاكرتين، بعد ستة عقود من التباعد والنفور المتبادل. ومن شأن فتح الأرشيف الكامل، الكشف عن تفاصيل جديدة حول عمليات قتل جماعية وقعت في الجزائر، وتفاصيل أخرى عن حقيقة الفترة الاستعمارية، وملف الذاكرة الذي يستعمله ماكرون للترويج لنفسه انتخابيا، يقوم على الحركيين الذين تعتبرهم الجزائر خونة. وهو يحاول تجميل الماضي، في حين ذاكرة التاريخ لا تزال شاهدة على ممارسات فرنسا الاستعمارية، وجرائمها التي لا تسقط بالتقادم، تستجيب لتعريفات الإبادة الجماعية ضد الإنسانية، ولا يمكن أن تكون محلّ تلاعب بالوقائع، أو تأويل يخفّف من بشاعة الذاكرة السوداء للاستعمار، الذي رغب في الاستيطان إلى ما لا نهاية. الجزائر تقاوم التغلغل الصهيوني في القارة الافريقية، وما يقوم به ماكرون من إثارة لمشاعر العداء ضد دولة كبيرة مثل الجزائر، لها تأثير في محيطها الحيوي، يتقاطع مع محيط فرنسا، يحبّذه الصهاينة بدون شكّ. فبمجرّد التطبيع مع المغرب، أصبحت إسرائيل حاضرة في الجوار الجزائري.. وهي تضمر العداء للجزائر المتضامنة مع فلسطين، والرافضة بشكل قطعي لأشكال الهرولة نحو تلّ أبيب، والتطبيع مع الكيان الغاصب للأراضي العربية، ناهيك من دعم فرنسا لخطة الحكم الذاتي المغربية لتسوية نزاع الصحراء، الأمر الذي يعتبره صنّاع القرار في الجزائر خطّاً أحمر.
تصريحات ماكرون المستفزّة، كشفت مدى هشاشة العلاقات الثنائية الموبوءة بالعديد من الملفات المسمومة، وقد وظّف هذا الرئيس، الذي لا ينصفه الارتجال في عديد المرّات، عبارات غير مسؤولة، أعادت تحريك صراع الذاكرة الاستعمارية بين البلدين، من خلال التفريق بين المكوّنين المدني والعسكري، والتشكيك في وجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي في عام 1830، سابقة قد تكون لها تبعات خطيرة على العلاقات الثنائية مستقبلا، وفرضية قطيعة دبلوماسية مرتقبة تبقى واردة، لكنّ الواضح أن العلاقات بين البلدين ستشهد فتوراً كبيراً بسبب التصريحات غير المقبولة للرئيس الفرنسي، التي تمسّ بتاريخ الجزائر، وإن عكست توجهاً سياسياً داخل الإليزيه، وبحثا عن نقاط انتخابية يطمح ماكرون من خلالها إلى كسب ولاية رئاسية ثانية. هوس انتخابي ومحاولة لإرضاء اليمين المتطرف، واستمالة جزء منه في انتخابات الرئاسة المقبلة، وإن كان على حساب قيم الجمهورية الفرنسية، ومبادئ الاحترام المتبادل بين الدول. وفي حين تدفع الجزائر نحو اعتراف فرنسي كامل بالجرائم الاستعمارية، التي ارتكبت على أرضها، وتطلب استعادة الأرشيف، تقابلها باريس بالتجاهل والبرودة، وكأنّها لا ترغب في أن تُفضح جرائمها الشنيعة.. وانتهى الأمر إلى تصعيد كلامي فرنسي غير مدروس، ساهم في انتقال المواجهة إلى التأثير في مناطق النفوذ الفرنسي القديم، والمصالح الحيوية بشمال افريقيا ودول الساحل والصحراء، من خلال قرار منع الطائرات الحربية الفرنسية من استخدام المجال الجوي الجزائري.
العلاقات مع فرنسا مرتبطة بمعالجة ملف الذاكرة، الذي يجب تنقيته من الرواسب الاستعمارية، وتبدو أوراق الضغوط الجزائرية أكبر بكثير من غلق ممر جوي، خاصة أن التنافس الفرنسي التركي، ربما يلقي ظلاله على الخلاف الفرنسي الجزائري. ومحاولات الرئيس الفرنسي إقناع الجزائريين بوضع الوجود العثماني في الجزائر والاحتلال الفرنسي لها، في كفة واحدة، قد باءت بالفشل. وتصريحاته هي من باب التأثير في التقارب الاقتصادي القائم بين الجزائر وتركيا على حساب الإرث الفرنسي المتهالك. هو فعلا سيتحسّر لأنّه ارتكب خطأ لن يقبله الجزائريون، وأعاد ذكريات الحقبة الاستعمارية الفرنسية، ومعها العلاقات الثنائية إلى نقطة الصفر.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عباس:

    الحقيقة هي أن الجزائر مازالت تعتبر نفسها مرتبطة عضويا بفرنسا، وما يجعل جرح الذاكرة لايلتئم عندها هو أن فرنسا تساند الطرح المغربي في قضية الصحراء المغربية، أما التذرع بمسألة جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر و بالتطبيع المغربي مع إسرائيل فهي محاولة فقط لاخفاء السبب الحقيقي

    1. يقول اسماعيل:

      الى عباس:المغرب لم يجرب الاستعمار المباشر و بالتالي لا يمكنك يا عباس، و اظنك مغربيا، ان تشعر بما يشعر به الجزائريون من الم و غضب بسبب محاولة ماكرون، الفتى السفيه، اهانة الجزائر في تاريخها و هويتها و شهدائها.

  2. يقول عبد الحميد الأول وارث الخاتم النبوي العظيم Abdülhamid I, Torun: Büyük peygamberlik mührünün varisi:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السيد ماكرون فجأة في حرب كلامية مع الجميع :امريكا وبريطانيا واستراليا والجزائر والصين ومالي وتركيا وعلى الجبهة الداخلية الجاليات المسلمة واذا كان رئيس الدولة يقود حربا كلامية عالمية وداخلية فهل من شأنه أن يؤهله لولاية ثانية ام يسهل خروجه منها

  3. يقول عبد الوهاب عليوات:

    شكرا للكاتب الذي استعرض بموضوعية جواني التوتر الدائم في علاقة الجزلئر وفرنسا.. خلافا لادعاءات ممنهجة يسوقها أذناب فرنسا وخدامها منذ عقود عن خضوع جزائري مزعوم بشكل كلي لفرنسا..
    والملاحظ أن التهجم الفرنسي موجه اساسا ضد الجزائر دونا عن باقي البلدان الإفرقية التي كانت من مستعمراتها والتي بقيت خاضعة لها بشكل أو بأخر.. وهذا يشرفنا لأنه دليل حقيقي أن استقلال الجزائر كان ولا يزال استقلالا حقيقيا وليس مجرد استقلال صوري حولها الى كيان وظيفي خادم لمصالحها كحال غيرها.

  4. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي لطفي العبيدي. أعتقد أن ماكرون مستاء من نفوذ تركيا في البحر المتوسط فهو يريد البحر المتوسط بحيرة تحت سيطرة أوربا وبما أن العرب ضعفاء ويلحقون بماكرون وغيره لم يبقى إلى تركيا يقف عائقًا في برنامج ماكرون ذو المضمون الإستعماري! أخطأ ماكرون وحسننا فعلت الجزائر.

إشترك في قائمتنا البريدية