بغداد-»القدس العربي»: تجري اليوم في العراق معركة الانتخابات النيابية المبكرة التي تعتبرها أحزاب السلطة مصيرية لبقاء هيمنتها على الدولة، وسط مشاعر وآمال متناقضة للشعب، بأن تكون سبيلا لتغيير الواقع المتدهور وإنقاذ البلاد من الانهيار الشامل، مع مخاوف من تدهور أمني قد يعقب الانتخابات نتيجة صراع الفصائل والأحزاب والأجندات الخارجية.
وتعتبر أحزاب السلطة، انتخابات اليوم، معركة وجود مصيرية لها ولمستقبل العملية السياسية الحالية، تحاول فيها الخروج بنتائج تحافظ على امتيازاتها وهيمنتها على السلطة، مقابل إرادة شعبية لإحداث التغيير المطلوب وايقاف انهيار البلد. ولا شك ان هذه الانتخابات تختلف عن الانتخابات السابقة التي كانت تخضع كليا لإرادة الأحزاب، لكونها تأتي بعد انتفاضة شعبية عارمة ضد العملية السياسية الفاشلة، وفي ظل أزمة صحية واقتصادية طاحنة، إضافة إلى وجود رقابة دولية للحد من تزوير وتلاعب الأحزاب المعتاد.
إجراءات لتطمين الناخبين
ومن أجل حث العراقيين على المشاركة الواسعة في الانتخابات، وعدم تكرار المقاطعة التي صاحبت الانتخابات الأخيرة، تحاول حكومة بغداد تقديم تعهدات وضمانات بسلامة العملية الانتخابية وإبعاد نفوذ الأحزاب والفصائل عنها. حيث أعلن الرئيس العراقي برهم صالح، أن المفوضية العليا للانتخابات وأجهزة الأمن في بلاده، اتخذت إجراءات استثنائية لمنع التزوير في الانتخابات، مشددا ان انتخابات اليوم تمثل «نقطة تحوّل في تاريخ العراق» وانها جاءت تلبية لمطالب شعبية واسعة بالإصلاح، ولذا فإن «هذه الانتخابات ستخلف وراءها تغييرات كبيرة وسيكون هناك إجراء تعديلات للدستور وهذه كلها أمور مهمة للعراق وإقليم كردستان». وفيما شدد رئيس مجلس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، على التعامل بحزم مع أي محاولة للتزوير في الانتخابات، متعهدا بسدّ كل الثغرات لحماية أصوات الناخبين، فإنه أكد استنفار ربع مليون عسكري لحماية عمليات التصويت ومراكز الاقتراع في محافظات البلاد المختلفة.
وبدورها دعت بعثة الأمم المتحدة في العراق، أنصار احتجاجات «تشرين» إلى تثبيت موقفهم في الانتخابات المبكرة المقبلة، مذكرة بـ «تضحيات الشباب الذين طالبوا بإجراء انتخابات مبكرة وبالإصلاح». ومن أجل تشجيع المتظاهرين والجمهور على المشاركة في الانتخابات لإحداث التغيير، قامت ممثلة الأمم المتحدة جينين بلاسخارت بلقاءات مع السياسيين وجولات في الناصرية والبصرة، لتؤكد أن «هذه الانتخابات مهمة للعراق» معربة عن أملها في «مشاركة كل من يمكنه التصويت في الانتخابات». وأشارت بلاسخارت، إلى «وجود عدد كبير من المراقبين الدوليين من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، فضلاً عن مراقبين تابعين لمنظمات محلية، وسيتولى الجميع الإشراف على الانتخابات».
خريطة القوى السياسية
ورغم ان القوى الشيعية (أحزاب وفصائل) المهيمنة على السلطة في العراق، لها نفس الأهداف والأجندات، إلا ان هذه الانتخابات تعد مهمة جدا للتنافس لكسب الشارع الشيعي المحبط من أحزاب السلطة التي لم تكتف بنهب موارد الدولة، بل وقمعت بوحشية انتفاضة تشرين التي طالبت بالإصلاحات، كما جعلت البلد منغمسا في الأجندات الخارجية، ولذا تسعى الأحزاب والفصائل الآن للاستحواذ على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان الذي سيحدد حصتها من كنز السلطة، فيما يدعي كل حزب بأنه سيحصد العدد الأكبر من المقاعد لتشكيل الحكومة المقبلة ونيل المناصب. زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أكثر المتمسكين بأن كتلته ستحصل على ما يزيد عن 100 مقعد في البرلمان المقبل، مكررا أن رئيس الوزراء المقبل سيكون حتما من الكتلة الصدرية! وهو ما اعتبرته بقية القوى السياسية بانه مبالغ به وبعيد عن الواقع، وذلك لأن التيار الصدري اصيبت شعبيته بين الشيعة بانتكاسة كبيرة بعد الاتهامات له بقمع انتفاضة تشرين والاعتداءات المتكررة على التظاهرات والناشطين وتورط بعض قياداته بملفات الفساد.
أما تحالف الفتح الذي يضم الفصائل الشيعية المسلحة، فإن رئيسه، قائد منظمة بدر، والمقرب من إيران، هادي العامري، دعا جمهوره إلى المشاركة الواسعة في الانتخابات، مستخدما شعارات مثل الحفاظ على الحشد الشعبي، وطرد القوات الأمريكية وإفشال محاولات التطبيع مع اسرائيل، ومرجحا أن تحقق كتلته فوزا ساحقا في الانتخابات.
وبموجب نظام المحاصصة السياسية والطائفية السائد في العراق بعد 2003 فإن منصب رئيس الوزراء، وهو المنصب صاحب النفوذ الأكبر في الحكومة، من حصة القوى الشيعية، فيما حصة الكرد منصب رئيس الجمهورية، أما منصب رئيس البرلمان فهو لشخصية سنية.
ومن المتوقع ان تقوم القوى الشيعية بعد الانتخابات بجمع مقاعدها لإعلان الكتلة الأكبر في البرلمان وتشكيل الحكومة، بعد جولات طويلة من المفاوضات والمساومات والضغوط لتقاسم المناصب، مع حضور التأثير الإيراني كما في كل الانتخابات السابقة، إذ لا يمكن اختيار رئيس وزراء إلا بموافقة إيرانية.
ورغم ادعاء القوى السياسية المتنفذة بأن تحالفاتها الانتخابية، أساسها التوافقات وليس المحاصصة الطائفية والقومية، إلا ان الواقع ومن خلال التحالفات والحملات الإعلامية، أثبت مرة أخرى، لجوء تلك الأحزاب إلى تأجيج المشاعر الطائفية والعنصرية لكسب أصوات الجمهور، وادعاء حماية المكون من الآخرين إضافة إلى إطلاقها الوعود بتقديم الخدمات، فيما تتبادل الأحزاب الكردية والعربية والتركمانية في «المناطق المتنازع عليها» وخاصة في كركوك، الاتهامات بالهيمنة على مفوضية الانتخابات فيها، والتحضير للتزوير.
القوى المقاطعة للانتخابات
وليس سرا ان انتخابات اليوم تجري وسط مواقف متناقضة بشدة، بين اتجاهين يدعو الأول إلى المشاركة الواسعة لمنع التزوير وإنقاذ العراق، وبين دعوات قوية لمقاطعة الانتخابات لاستحالة حصول تغيير حقيقي.
ولعل أبرز القوى السياسية التي قاطعت الانتخابات، هي الحزب الشيوعي العراقي، وكتلة المنبر الوطني التي يقودها رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي، وكتلة الحوار الوطني التي يتزعمها صالح المطلك نائب رئيس الوزراء العراقي الأسبق، كما أعلنت أحزاب أخرى المقاطعة منها حزب أبناء النهرين، وحزب التجمع الجمهوري العراقي، وحزب الشعب التركماني، والحركة الإسلامية في كردستان، والنائب في البرلمان، فائق الشيخ علي، إضافة إلى دعوة بعض المراجع الشيعية مثل الشيخ جواد الخالصي للمقاطعة أيضا.
وحتى الحركات والشخصيات الفاعلة في انتفاضة تشرين، اختلفت على المشاركة، فبينما أعلنت حركتا «امتداد» و»نازل آخذ حقي» مشاركتهما في السباق الانتخابي كما انضم بعض قادة الحراك إلى الأحزاب المتنفذة، رفضت حركتا «البيت الوطني» و»اتحاد العمل والحقوق» المشاركة.
ويتفق المقاطعون على ان هذه الانتخابات، في كل الأحوال لن تختلف عن الانتخابات الأربعة التي جرت بعد 2003 والتي رسخت هيمنة أحزاب السلطة وترسيخ المحاصصة وتقاسم إدارة الدولة التي سببت خراب البلد ونهب موارده، فيما يعزز المقاطعون مبرراتهم بوجود العديد من المخالفات منها استبعاد أصوات ملايين العراقيين في الخارج من المشاركة، وتأثير الأحزاب على المفوضية.
توقعات ما بعد الانتخابات
وتتباين التوقعات حول نتائج الانتخابات، حيث يتوقع المراقبون عدم تمكن أي قوة سياسية لوحدها من تحقيق أغلبية المقاعد لتشكيل الحكومة، لذا ستلجأ الأحزاب إلى التحالف مع قوى أخرى لتشكيل حكومة توافقية، مع توقع ان يأخذ تشكيل الحكومة وقتا ليس بالقصير كما حصل مع كل الحكومات السابقة.
ويتوقع المحللون ان تتجدد انتفاضة تشرين ونزول الشعب إلى الشوارع في حال كانت نتائج الانتخابات غير مرضية وتعيد نفس القوى السياسية الفاسدة التي تتحكم بالسلطة الآن، كما يتوقع البعض ان تكون هناك مقاطعة واسعة للانتخابات بسبب رفض هيمنة المال السياسي والسلاح المنفلت والتزوير على نتائج الانتخابات. فيما لا يستبعد البعض احتمال تدهور الأوضاع الأمنية نتيجة لجوء بعض الفصائل المسلحة إلى فرض ضغوطها بحجة التزوير، إذا لم تحصل على مقاعد مناسبة تمكنها من نيل مناصب مهمة تدر عليها الأموال والامتيازات.
وعموما يأمل الكثير من العراقيين بأن نتائج الانتخابات قد يسفر عنها تقلص عدد مقاعد الأحزاب والفصائل الشيعية، وذلك جراء عزوف الشارع الشيعي عنها واختيار مستقلين، وتقليل فرص التزوير بعد الإجراءات الحكومية والرقابة الدولية، وبالتالي تقلص نفوذ حلفاء إيران في مجلس النواب العراقي المقبل. إلا انه وبالرغم من تحذيرات رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي بعدم استغلال المسؤولين المرشحين للانتخابات مناصبهم الرسمية في التأثير على الناخبين، فإن تحقيق ذلك يبدو غير واقعي، نظرا لهيمنة الأحزاب على مؤسسات الدولة كافة. ويذكر ان مفوضية الانتخابات، أعلنت إن «عدد البطاقات الانتخابية بلغت أكثر من 21 مليون بطاقة موجودة حاليا لدى الناخبين» فيما يبلغ عدد الناخبين الكلي 25 مليونا، أي أن أكثر من أربعة ملايين لن يتمكنوا من التصويت لرفضهم استلام بطاقاتهم أو كونهم خارج العراق. علما بان عدد المرشحين للانتخابات 3249 لاختيار 329 نائبا، فيما بلغ عدد الأحزاب المشاركة 109 أحزاب. كما أعلنت البعثة الأممية ان 890 مراقبا دوليا سيشاركون في مراقبة الانتخابات للتأكد من نزاهتها.
وأخيرا فالمؤكد ان الانتخابات إذا لم تحقق إرادة الشعب فلا قيمة لها ولن تغير الواقع المزري وستثير الشارع مجددا، مع القناعة بأن إجراءات الحكومة والرقابة الدولية، لن تمنع كليا محاولات التزوير والتلاعب في انتخابات اليوم، في ظل الصراع الشرس بين القوى السياسية الذي سيتضاعف عقب انتهاء التصويت في الانتخابات، وذلك من أجل حصد نتائجها وتحديد حصتها والمواقع التي ستحصل عليها في الحكومة المقبلة، فيما تراود العراقيين، آمال محدودة ان تكون هناك مفاجأة ما في الانتخابات، من خلال بروز قوى سياسية جديدة تحد على الأقل من هيمنة أحزاب السلطة وتساهم في وقف التدهور الشامل في العراق.