الصين هي الشريك التجاري الأول لمصر، وتلعب دورا مهما في تنفيذ المشروعات القومية الجديدة، مثل العاصمة الإدارية والقطار الكهربائي السريع والمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، ومشروعات البنية الأساسية الحيوية مثل محطات الصرف وشبكات الاتصالات. لكن التجارة المتبادلة بين البلدين تعاني من خلل شديد لصالح الصين، وهو ما يستلزم ضرورة الإسراع بوضع برنامج لإصلاحه. هذا الخلل يتسع بوتيرة متسارعة حتى أسفر عن عجز نسبته 79.7 في المئة من قيمة التجارة الثنائية خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، طبقا لأرقام وزارة التجارة الصينية.
وينطوي هذا الخلل على ثلاثة تهديدات كبرى، الأول هو الضغط على سعر الصرف وإضعاف قيمة الجنيه المصري، مما يضع السياسة النقدية في وضع صعب، ويكون أمام الحكومة إما تخفيض الجنيه أو رفع سعر الفائدة لحمايته، وكل من العلاجين مر. والثاني هو الوقوع في مصيدة الديون مع تراكم العجز والاضطرار إلى سداده بالمزيد من الديون، ومن ثم زيادة زيادة نزيف رأس المال. أما التهديد الثالث فهو تشويه نمط التنمية في مصر، بسبب تدفقات سلعية من الخارج لا تؤدي عمليا إلى زيادة الإنتاج المحلي، وإنما تؤدي إلى زيادة حدة الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد، واستنزاف القدرة على النمو. وحيث أن مصر تمثل حلقة رئيسية من حلقات «مبادرة الحزام والطريق» الصينية، فإنه من مصلحة البلدين أن يتعاونا معا من أجل وضع حد لهذا الخلل، الذي أصبح ظاهرة مخيفة تهدد الاقتصاد المصري ككل.
تشريح العجز التجاري
من المعروف أن مصر تعاني من عجز تجاري مزمن منذ ستينات القرن الماضي، وتعاني من نزيف العجز سنويا منذ العام 2004 حتى الآن. وعلى الرغم من أن روسيا ساعدت على تخفيف حدته بالمشاركة في إقامة عدد من الصناعات في سياق استراتيجية «إحلال الواردات» التي كان البنك الدولي يتبناها في الستينات، إلا أن ظاهرة العجز التجاري استمرت في استنزاف موارد الاقتصاد، الذي ظل يرزح تحت ضغوط تمويل الحرب خلال الفترة من 1962 حتى 1973. ومع أن حكومات مختلفة بعد حرب أكتوبر رفعت شعار «التصدير أو الموت» فإن النتائج كانت محدودة وجزئية. وقد استفاد الاقتصاد المصري كثيرا منذ عام 2005 من مشروعات برنامج الصناعات المؤهلة للتصدير إلى الولايات المتحدة بدون جمارك، المعروف باسم «كويز» على الرغم من المعارضة الشعبية لهذا البرنامج، الذي يشترط أن تكون السلع المؤهلة للإعفاء ذات محتوى إسرائيلي لا يقل عن 11 في المئة، ومحتوى مصري لا يقل عن 12 في المئة. وقد بلغت صادرات كويز في عام 2019 أكثر من مليار دولار، شارك فيها أكثر من ألف مصنع يعمل 80 في المئة منها في إنتاج الملابس والمنسوجات، وتتوزع النسبة الباقية على صناعات أخرى مثل المنتجات الجلدية والبلاستيكية والزجاج ومواد البناء ومنتجات المصنعات الغذائية. وبسبب جائحة كورونا فإن قيمة صادرات «كويز» انخفضت في العام الماضي إلى 819 مليون دولار. ومع ذلك فلا تزال أمام الصناعات المصرية المستفيدة من برنامج «كويز» فرصة كبيرة للنمو، حيث تستطيع منتجاتها النفاذ بسهولة إلى السوق الأمريكية الضخمة، خصوصا إذا توفرت لها أيضا مزايا الجودة في المواصفات، والدقة في مواعيد تنفيذ التعاقدات التجارية، ومراعاة أذواق المستهلكين هناك.
الاكتساح الصيني
وعلى الرغم من أن الصين بدأت سياسة «الانفتاح الاقتصادي» بعد مصر بنحو 4 سنوات، فانها تمكنت من تحقيق معدلات نمو أسرع، واستطاعت فتح أسواق لتصدير بضائعها حول العالم، ومن ضمنها مصر. وكانت صادرات الصين إلى مصر في العام 2001 قد بلغت حوالي 873 مليون دولار، في حين كانت قيمة صادرات مصر إليها حوالي 80 مليون دولار فقط. أي أن صادرات الصين إلى مصر كانت أكثر من 10 أضعاف وارداتها. وقد استمر هذا العجز في الاتساع خلال السنوات التالية، حيث صعدت الصين من مركز الشريك التجاري الخامس لمصر عام 2001 إلى شريكها التجاري الأول اعتبارا من العام 2012 حتى الآن. وبلغت قيمة التجارة الثنائية العام الماضي حوالي 14.5 مليار دولار، منها صادرات صينية بقيمة 13.6 مليار دولار، وصادرات مصرية للصين بقيمة تقل عن مليار دولار (905.8 مليون دولار فقط). هذا يعني أن قيمة العجز التجاري بلغت 12.7 مليار دولار بنسبة 87.3 في المئة من إجمالي قيمة التجارة. وتبين إحصاءات الأمم المتحدة أن صادرات الصين من بنود الحديد والصلب ومنتجاتها إلى مصر في العام الماضي بلغت 737 مليون دولار، في الوقت الذي تم فيه تصفية المصانع المملوكة للدولة في هذا القطاع. كما صدرت الصين لمصر أيضا أقمشة وألياف صناعية وخيوط بقيمة 538 مليون دولار. وفي المقابل فإن بنود الوقود والزيوت المعدنية تمثل أهم صادرات مصر إلى الصين، حيث بلغت في العام الماضي 372 مليون دولار مقابل 1400 مليون دولار في العام 2013.
وليس من مصلحة الشريكين التجاريين استمرار ظاهرة الخلل التجاري، التي تزداد حدة من عام إلى آخر وتهدد مصالحهما المشتركة. ولا تقتصر مصالح الصين الاقتصادية في مصر على التجارة فقط؛ فهي تتمتع أيضا بمزايا ضخمة في السوق المصرية، حيث حصلت الشركات الصينية على عقود بمليارات الدولارات سنويا منذ عام 2008 حتى الآن. وقد بلغت قيمة العقود التي حصلت عليها في ذلك العام حوالي 1.5 مليار دولار ثم واصلت الارتفاع لتبلغ أقصاها في عام 2016 بقيمة تتجاوز 8 مليارات دولار، لكنها تراجعت بعد ذلك لتبلغ 7.9 مليار دولار في العام 2018 ثم هبطت بشدة في العام التالي لتسجل حوالي 2.6 مليار دولار بنسبة انخفاض تتجاوز 67 في المئة. هذا الانخفاض الحاد في قيمة العقود الجديدة يطرح علامات استفهام حول المشاريع الجديدة ومسارها التنفيذي وكيفية تمويلها. ومع ذلك فإن بعض الشركات الصينية لم تتمكن من إبرام عقود مع شركات أخرى لتنفيذ بعض عمليات المشروعات الجديدة، مثل مشروع القطار الكهربائي السريع الذي فازت به شركة «سيمنز» الألمانية وستقوم شركة صينية بتنفيذ معظم أعماله.
الطاقة والتكنولوجيا والسيارات
هناك حوار يجري ببطء حول مشاركة الصين في مشروعات صناعية مع مصر في مجالات إنتاج مكونات الطاقة المتجددة مثل ألواح الطاقة الشمسية، وتكنولوجيا صناعة المعلومات والاتصالات، إضافة إلى مشروع صناعة السيارات الكهربائية. ويعاني هذا الحوار من أربع مشكلات رئيسية، الأولى هي البطء في التنفيذ، بسبب تعقيدات البيروقراطية الرسمية، والثانية هي تداخل وتضارب الاختصاصات بين الوزارات والأجهزة المختلفة، والثالثة هي سيطرة أفكار مشوهة عن التطوير الصناعي، حيث ما يزال البعض يفكر بعقلية «إنتاج سلعة تامة» وهي عقلية عصر «إحلال الواردات» الذي مضى وتحلل، وليس بمنطق بناء القدرات للتخصص في حلقة من حلقات سلاسل الإنتاج والامدادات العالمية، وهو منطق عصر الثورة الصناعية الرابعة وأساس نظام تقسيم العمل الدولي في عصر العولمة. أما المشكلة الرابعة فانها تتمثل في استبعاد القطاع الخاص تقريبا، والاعتماد بشكل مفرط على القطاع المملوك ملكية خاصة لأجهزة الدولة، مع ترضية أباطرة القطاع الخاص الصناعي بمنحهم مزايا في تملك الأراضي تساعدهم على التحول من رواد صناعة إلى مجرد «مطورين عقاريين»ّ.
هذه المشكلات ليست مجرد خلافات في وجهات النظر، لأنها ما لم تحل على الوجه الصحيح، فإنها يمكن أن تتسبب في خسائر فادحة. على سبيل المثال فإن مشروع إنتاج سيارة كهربائية بالمنطق الجاري حاليا سوف يؤدي إلى زيادة العجز التجاري، في حال تم إنتاج السيارة بطريقة تجميع مكونات الإنتاج المستوردة من الصين. ومن المثير للدهشة أن يذكر مسؤول ضالع في مفاوضات الإنتاج عن أنه نسبة المكون المحلي ستكون في حدود 35 – 40 في المئة في البداية، ومن المستهدف أن تصبح محلية بالكامل، بينما لا يتم تصنيع بطاريات الكهرباء الحديثة اللازمة في مصر، كما لا يتم تصنيع محركات السيارة في مصر، وهي عملية إنتاجية شديدة التعقيد، حيث أنها تختلف اختلافا جذريا عن المحركات العاملة بنظام الاحتراق الداخلي التقليدية.
وإذا كان المقصود هو مجرد تصنيع الهيكل المعدني للسيارة، رغم ما في ذلك من تعقيدات بالنسبة لمستوى الصناعة المصرية حاليا بالمقارنة مع الأساليب التكنولوجية الحديثة لصناعة هياكل السيارات، فإن قيمة الهيكل المعدني، حتى بافتراض إمكان صناعته في مصر، لا تعادل بأي حال نسبة المكون المحلي التي يتم ترويجها. النتيجة هي أننا سنستورد كل مكونات السيارة ونقوم بتجميعها في مصر، ثم تقدم الحكومة دعما للمستهلكين لشرائها، بينما لا تتوفر في مصر محطات الخدمة وشبكات الشحن الكهربائي، وورش الصيانة والمهارات البشرية اللازمة. وبذلك فإننا سنكرر كارثة شركة النصر للسيارات، لأننا عجزنا عن إدراك طبيعة الصناعة الحديثة التي تعتمد على فلسفة المنافسة داخل سلاسل صنع المنتجات.
الدخول في سلاسل الإنتاج
وعلينا أن نختار التخصص في حلقة من حلقات سلسلة إنتاج السيارة الكهربائية، وأن نتعاون مع الصين في أن نصدر لمصانعها إنتاجنا من مكونات الحلقة التي نتخصص فيها، حتى لو كانت مجرد زجاج السيارة أو زجاج الفوانيس أو ضفائر كابلات الكهرباء، أو الشرائح الالكترونية للاشارات، أو مجرد إطار لوحة التابلوه. لقد انتهت استراتيجية إنتاج كل شيء «من الإبرة إلى الصاروخ» إلى كارثة، وانهارت الصناعة حتى أصبحنا نستورد كل شيء من القمح إلى السلاح. وتخلصت الحكومات المتعاقبة من المصانع تدريجيا، بدءا من صناعات إنتاج إطارات السيارات، إلى صناعات الأصباغ والكيميائيات اللازمة لصناعة الأقمشة. حتى خيوط الحياكة، وأسفلت رصف الطرق أصبحنا أكبر دولة مستوردة لهما في العالم إلى جانب القمح! إن من مصلحة مصر والصين أن تعملا معا، بسرعة وبجدية، من أجل وضع برنامج عاجل لإصلاح الخلل الشديد في التجارة، لأن استمرار هذا الخلل سينعكس سلبا على العلاقات بينهما. ومن أجل ذلك يتوجب على اللجنة الحكومية المشتركة أن تضع هذه القضية على رأس جدول أعمالها، وأن يشارك اتحاد الصناعات في تحديد الأولويات؛ فالمسؤولية الأكبر تقع على مصر لأنها هي الطرف المتضرر.