هادي زكاك: كانت صورة المدينة العربية النموذجية التي دخلت الحداثة والسينما مكان يحضنها

زهرة مرعي
حجم الخط
0

في بحث موثق سابق النسيان والرحيل ولد كتاب «العرض الأخير سيرة سيلما طرابلس»

بيروت ـ «القدس العربي»: «العرض الأخير سيرة سيلما طرابلس» مؤلف يتخطى عنوانه، ليدخل إلى عرض وتحليل سياسي واجتماعي وأمني مؤثر في حركة السينما وصالاتها في عاصمة الشمال اللبناني. أما «سيلما» فهو تعبير عامة الناس في المدينة وهم نبضها وروحها. ما أن يقع المؤلف بين اليدين حتى تتسارع الأسئلة. ففي زمن الضحل والتقهقر ثمة كتاب يوثق لـ«معابد السينما» في طرابلس الفيحاء، وفي حلّة أنيقة تليق بها، وبالذاكرة الخصبة والجذّابة محققاً انتصاراً على النسيان والموت. أما لماذا طرابلس وكل هذا البحث والتنقيب في زوايا «سيلماتها» التي قاربت ربما 40؟ الجواب عند صاحب الكتاب المخرج السينمائي والكاتب والأستاذ الجامعي هادي زكاك. ولشدة الحميمية في مقاربته لتفاصيل إنسانية بحث عنها بمثابرة كما يفعل قفير النمل في جمع قوته، تعتقده وكأنه ولد وترعرع وكبُر في ربوع تلك المدينة العربية الساحلية الجميلة المهملة لبنانياً.
يتألف الكتاب الصادر عن دار الفرات في بيروت من 618 صفحة من الحجم الكبير، ويضم أكثر من 750 صورة. أن تقلب صفحة منه بعد أخرى تجدك منجذباً للمزيد، للنص السلس والغني بالمعلومات والأحداث. نجح الكاتب في تدوين شهادات لمميزين تخرجوا من المدارس الإرسالية الكبيرة التي كانت في المدينة. وذكر أن بعض الأساتذة في بعض المدارس والمنتمية لمختلف الطوائف، كانوا يعتبرون السينما مفسدة للأخلاق ويدعون لعدم ارتيادها. لكن التلامذة أنفسهم سجلوا سنة 1959 اضراباً بعدم دخول الصفوف إلا بتجاوب وزير التربية مع مطلبهم برفض رفع سعر البطاقة، ونجحوا وكانت لهم بطاقة طلابية.
ثابر هادي زكاك في توثيق شبه متكامل لسيلما طرابلس «قبل أن تُسلّم الروح» وأنجز عملاً مؤثراً، معه هذا الحوار:
○ «العرض الأخير» يقرأ في تردي حال السينما وصولاً إلى اندثارها في عاصمة الشمال طرابلس. كيف خطرت لك مقاربته؟
• السينما شغفي، بعد الحرب الأهلية قصدت وسط بيروت لأكتشف صالاتها، وسريعاً محى مشروع إعادة الإعمار وجودها. تلقيت دعوة من صحفية ألمانية فرنسية لمرافقتها في جولة على صالات السينما في طرابلس سنة 2014. كان مذهلاً مدى انتشار الصالات من ساحة التل، إلى باب التبانة، إلى المينا والأحياء الداخلية وكأنها جزء لصيق بحياة المدينة. وبالتدريج بدأت بحثاً طويلاً ومضنياً تبلور سنة 2017 بمعنى إعادة تكوين صورة المدينة وتاريخها من خلال علاقتها بمجموعة من هذه الصالات والبحث عنها ورصدها.
○ بحدود 40 صالة سيلما في طرابلس بدأت منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ألم تكن فائضة عن الحاجة؟
• إنها نقطة مهمة في كيفية تطور صالات السينما، والمرحلة الذهبية كانت في سنوات الخمسينيات من القرن 20 التي شهدت ازدياد صالات السينما. يمكن الحديث عن معدل 30 صالة، بعضها يفتح وآخر يقفل. المهم أن الصالات منتشرة في أنحاء المدينة كافة، ولكل منها طابعها، وتختلف بين العرض الأول، وأنواع الأفلام التي تعرضُها. شكلت السينما سلوى لأهالي المدينة بامتياز، إنها مكان اللقاء وربط العلاقات الاجتماعية، والمكان المؤثر في تطور تلك العلاقات. كانت للسينما دورها في العلاقات الاجتماعية، ولم يكن لطرابلس أماكن أخرى للهو أو التسلية. أصبحت السينما المعبد الجامع للنشاط الثقافي وحتى السياسي، وعروض المسرح والسينما بالطبع.
○ كم تأثرت طرابلس المدينة المحافظة بالسينما سواء بالانفتاح الاجتماعي والسياسي والحداثي؟
• شكلت جزءاً من دخول المدينة بالحداثة. نحن حيال مجتمع محافظ صحيح، ومن خلال السينما نقرأ العلاقة بين الجنسين، وارتيادهما الصالات معاً. أين سيجلسون، وما الفرق بين مقاعد الصالون والبلكون؟ وما هو أثر السينما على المجتمع، وعلى المرأة تحديداً ومن خلال السينما المصرية خاصة؟ حضور السينما وبلغة عربية سيترك أثراً مضاعفاً. صالات عدّة اختصت بعروض السينما المصرية التي كانت منتشرة جداً ولها شعبيتها. أثرها الثقافي كان كبيراً، وكذلك على العلاقات بين الجنسين. وفي تلك المرحلة تراجع ظهور الحجاب، وازداد حضور المرأة وفعاليتها. وانتشرت المقاهي والعديد من مظاهر الحداثة والتي تبلورت منذ أواخر الأربعينيات وصولاً إلى أواخر الستينيات من القرن الماضي، رغم تسجيل حركات احتجاح أحياناً على بعض المظاهر من مجموعات محافظة جداً. لكن بدت شعبية السينما أقوى وفرضت نفسها في أوساط واسعة وهذا مهم للغاية كونها أصبحت المكان الجامع لكافة الطبقات الاجتماعية.
○ وهذا ينعكس على طرابلس ومحيطها كونها مؤثرة فيه؟
• طبعاً فهي المركز، والمحيط بكامله كان يقصدها لحضور السينما. لطرابلس علاقة وطيدة مع الشمال برمته، وكان يأتيها مشاهدون للعرض الأول للأفلام من زغرتا واهدن. وفي تلك المرحلة كانت المدارس في طرابلس، وكان الأهالي يسكنوها للعيش ومن كل الشمال. وكانت لهم صلة وثيقة بمدرسة السينما كما بمدرسة الحياة. خلال بحثي التقيت بأناس من الشمال ومن خارجه كانوا يعيشون في طرابلس. كان للمدينة كافة عناصر الحياة المدينية من حيث العمل، وهذا ما تبلور إثر إنتقال شركة نفط العراق إلى طرابلس بعد نكبة فلسطين. احتضنت طرابلس حركة ثقافات مختلطة تفاعلت داخلها، وبشكل تلقائي كانت السينما مكاناً للجميع في لقاء يومي أو أقله مرّة أسبوعياً.
○ يشعر المتصفح للكتاب وكأنك أحصيت أنفاس الزمن ولم تترك شاردة أو واردة بهدف الكمال. هل كنت حيال خطة عمل؟ وهل فتح الواقع مزيداً من الآفاق؟
• بداية استصعبت العملية لأنني من خارج المدينة، ولم أكن حيال جردة لصالات السينما وماهية عروضها. شكلت السينما نافذة للدخول إلى المدينة بحد ذاتها، وتطورها والمراحل التي مرّت فيها. شعرت بثقل كبير واستغرقت وقتاً للتفاعل مع كافة العناصر. كنت أجهل مدى قدرة الوصول إلى كافة تلك السينمات وقراءة تاريخها وتخيله. فأنا لا أملك ذكريات خاصة مع هذه الأماكن. في 2014 صورت بعض المشاهد وحصلت على معلومات أولية، بعدها اكتشفت أني في صراع مع الزمن. فالصالات التي شاهدتها بدأت تختفي، أو تمّ تحويلها. الصراع مع الوقت هو صراع تلقائي مع الموت والمدينة بحد ذاتها وكأنها في حالة «كوما». وفيما كانت طرابلس استثناء في حالها قبل 2019 بات لبنان كله يشبهها بعد الانتفاضة. إنه الاحتضار.
○ بدا في الكتاب أن المؤثرين في سيرة طرابلس قديماً وحديثاً أبدوا تعاوناً؟
• صحيح. وكنت أحتاج قدر المستطاع الإطلاع على آراء مختلفة ومن أجيال مختلفة. فأنا حيال تغطية مرحلة طويلة وأحتاج لشهادات من ناس تبدأ أعمارهم في العشرينيات وصولاً إلى نهاية التسعينيات. التقيت مسنين كثر وقبل صدور الكتاب للأسف فقدتهم. استلحقت ذاكرتهم التي بدأت تخونهم أحياناً. كما بحثت في أرشيفهم الشخصي، وفي الصحف التي كانت تصدر في المدينة. واكتشفت المدينة من خلال كتّابها والباحثين. وشكل الناس العاديون شواهد عن تلك المراحل كباعة الخضار، بهدف تكوين نظرة عامة ومن مختلف فئات الناس. سلوك هذا الطريق خوّلني أنا الآتي من الخارج تكوين نظرة عن الداخل.
○ وكأننا نشتبه أو نتيقن بأن التشدد الإسلامي هو من أطبق على سيلما طرابلس ونزع منها أنفاسها الأخيرة؟
• وفي الذاكرة الجماعية كذلك رأي يقول أن السينما انتهت مع إندلاع الحرب الأهلية، والتحولات التي طرأت على المدينة بدءاً من سنة 1975. قد تبسِّط الذاكرة الشفهية الأمور، أو تُجمّل الماضي. دوري هو التفكيك، وللقيام بهذه المهمة أحتاج لعناصر من المرحلة ذاتها. فقد اكتشفت في أعداد من جريدة «الإنشاء» عودة السينما بشكل شبه طبيعي بعد حرب السنتين. بالوصول إلى مرحلة حزب حركة التوحيد سنة 1983 ليست السينما وحدها التي تأثرت، بل المدينة برمتها كانت تحت ضربة قاسية. ولم يعد بإمكانها الخروج كلياً من هذه الضربة، رغم محاولة العودة للسينما إثر دخول الجيش السوري في سنة 1985. وكانت محاولات لإعادة إحياء هذه السينمات في منتصف التسعينيات، مع دخول فكرة السينما الجديدة المتواجدة ضمن مجمع سينمائي.
○ كذلك أخبرك عاشق السينما والناقد اميل شاهين أن بعض الإرساليات كانت تتجسس على تلامذتها إن كانوا يخالفون التحذيرات ويقصدون السينما المضرّة بالأخلاق؟
• ذكرت التشدد الديني والحذر من السينما في مراحل متعددة من الكتاب. الخوف والحذر من السينما من بعض المراجع والأساتذة موجود، وفي الوقت نفسه نرى السينما وقد صارت ضمن مدرستي الطليان والفرير. ومدرسة الطليان فتحت صالتها للجمهور من خارجها. وعن نوع الأفلام التي كانت المدارس تختارها لتلامذتها، فمنها فيلم «شفيقة القبطية» المصري حيث ترتد فيه عن خطاياها، وتدخل الدير. وكذلك الفيلم الذي يعرض سنوياً في أسبوع الآلام وهو «حياة وآلام المسيح» المكسيكي المدبلج للعربية. هذا مسيحياً، إسلامياً كانت ظاهرة فيلم العيد، وكأن السينما كانت هدية العيد بامتياز.
○ خلال بحثك عن السينما لتوثيقها في كتاب هل كان فيلم «العرض الأخير» يفوز بلقطات خاصة؟
• انطلق العمل ولم أكن قد حسمت بعد إن كنت حيال فيلم أو كتاب. عندما توالت اكتشافاتي وجدت أن معلومات كثيرة من الجهل عدم ضمها في كتاب، وأخرى من الحرام ان لا تكون في فيلم. وهكذا بت بمواجهة مصاعب تخطيط وأيضاً تمويل. وهكذا تقدم مشروع الكتابة واستغرق وقتاً، وكنت أوثق المعلومات بالصوت والصورة، وهي ستشكل المواد الأولية للفيلم المقبل «العرض الأخير».
○ ورد في الكتاب أن تلامذة طرابلس أعلنوا الإضراب بعدم دخول الصفوف اعتراضاً على رفع سعر بطاقة السينما. فماذا سيقول التلامذة عن سعر البطاقة الحالي؟
• صحيح. طرابلس مدينة نموذجية بأحداثها قياساً ببقية المدن. الشهر الماضي قدمت كتابي في عمّان، وسمعت من الأردنيين قصصاً مشابهة في سينمات عمّان وتلقائياً ستكون نفسها في سينمات حلب أو بغداد أو غيرها. طرابلس تشكل رسماً لمرحلة متكاملة شهدها العالم العربي، وكأن طرابلس تشبه المدن الأخرى دخلت في مرحلة الحداثة، ومن ثم داهمتها كافة أنواع الأنظمة الإستبدادية والمتشددة وصولاً إلى الحروب الأهلية، والتدمير والتفتيت الذي ينطبق اليوم على أي مدينة سورية أو عراقية. لهذا طرابلس نموذجية جداً في هذا الصدد. نجحت مظاهرات طرابلس وحقق الطلاب دفترهم الخاص وسُمِح لهم بدخول الصالون لأنه الأرخص. وهذا يُثبت مدى تعلق الشباب بالسينما، ولأجلها ناضلوا. وهنا تكثر القصص حول التلامذة الهاربين من قدّاس الأحد أو من صف المدرسة لحضور فيلم. نفهم أهمية المظاهرة لأجل السينما لأن ارتفاع بدل البطاقة كان بالنسبة للطلاب تقييد حرية.
○ كتبت «تواكب سيلما حياة طرابلس قبل أن تُسلّم روحها». تسليم روح أم اغفاءة طويلة؟
• في المرحلة الأخيرة من تدوين الكتاب كانت الانتفاضة ومن ثمّ كورونا، والإقفال. وتوالت الأسئلة الكبيرة عن السينما ليس عن طرابلس ولبنان بل عالمياً. كنت بصدد صالات مقفلة في طرابلس فصارت كافة صالات العالم مقفلة وفجأة. ومع تدفق مواقع الستريمنغ مثل نتفلكس تهدّد وجود صالة السينما. العودة صعبة عالمياً فكيف بصالات طرابلس؟ عنوان العرض الأخير ينعكس معاً على السينما والبلد، وكأننا نشهد موت واحتضار مرحلة عشناها، بانتظار تبلور المرحلة الجديدة. «سيلما» ننتظر العيش مع كائن جديد.
○ ومتى فيلم «العرض الأخير»؟
• ليس لي تحديد التاريخ. أبحث عن إنتاج، والمطلوب نفس طويل فنحن في زمن التدهور الكامل. والتحدي الأكبر كيف استمر يومياً على قيد الحياة لأتمكن من الإنتاج؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية