بيروت – «القدس العربي» : جديد أضيف إلى منصة «أفلامنا» التي خصصت فضاءها مؤخراً لما أسمته «مساحة الكارثة والتعبير» وهما وثائقي «طرس، رحلة الصعود إلى المرئي» لغسّان حلواني، ووثائقي «معلول تحتفل بدمارها» للمخرج ميشيل خليفي يعود لسنة 1984. وهو الثاني في قائمة أفلامه التي بدأت في سنة 1980 مع وثائقي «الذاكرة الخصبة».
يُطلق على ميشيل خليفي لقب «أب السينما الفلسطينية المستقلّة» وهو الذي نال العديد من الجوائز والكثير من الترحيب عن فيلمه الروائي الأول «عرس الجليل».
حضور المرأة
تميز المخرج ميشيل خليفي منذ بداياته الأولى بنسق خاص به يتسم بالجرأة. وكان سخياً في إعطاء مساحة واضحة لحضور المرأة في أفلامه. قدّم ولا يزال أفلاماً تترك المتلقي في حالة استمتاع وتقدير وإعجاب حتى لو أخذته الفرجة مجدداً إلى قديمه كما «معلول تحتفل بدمارها».
بخصوص معلول، يُعرف أنها قرية في الجليل الفلسطيني تبعد 10 كلم عن الناصرة، وفي سنة 1948 هجّر الصهاينة أهلها، بعضهم رحل صوب لبنان، والبعض الآخر توجه إلى الناصر. قرية تمّ تدميرها منهجياً بهدف تدعيم إدعاءات الإحتلال بأنها ارض دون شعب. نفذ من التدمير قليل من المباني، إلى جانب دور العبادة المسيحية والإسلامية التي حوّلها الصهاينة إلى زرائب للحيوانات.
يُسجّل لرائد السينما الفلسطينية قدرته الفائقة على إلتقاط المشاعر وتركها تتسلل إلى المتلقي بروية، بخاصة المعني منها بجرح النكبة الرهيب.
في شريط «معلول تحتفل بدمارها» يطغى نوع من الصور الحسية، منها القدمان اللتان تخبطان بثبات وعزم وإيمان جيئة وذهاباً على عشب البلدة المهجورة. مشهد يتكرر وفي مفاصل متعددة من مسار الفيلم التصاعدي.
من المعروف أن كافة سكّان قرى الجليل هُجِّروا، وتمّ تدمير منازلهم. لكنّ الإحتلال عاد وسمح لسكانها بزيارتها بناء لتصارح عسكرية، فقط في اليوم الذي يسميه «الإستقلال». وكأنهم اختاروا هذا التوقيت إمعاناً في تأكيد سيطرتهم على الأرض وعلى الشعب.
وهؤلاء الذين يعرفون أرضهم وأماكن منازلهم يسارعون للزيارة وكأنهم في رحلة إلى الطبيعة في يوم ربيعي مشرق. يمضون يومهم في التذكُر والتفكُر والتفقُد. ويدلون أطفالهم على الأماكن والممتلكات. بعضهم لم ولن يشارك في هذه الزيارات كونها حفلة تعذيب نفسي بالنسبة له.
في هذا الشريط الوثائقي الذي يشكل نوعاً من النوستالجيا للبعض، ودرساً في الجغرافيا والتاريخ والانتماء للأجيال الجديدة، يعتمد تقطيعاً مشوقاً وتداخلاً حميماً بين المشاهد المختلفة، وهو يختزن الكثير من اللقطات المميزة. وكان لمعلول حظ في تجسيدها فناً تشكيلياً.
صارت قرية مرسومة بالألوان ونصف جدارية تنتصب باعتزاز وفخر في منزل أحد أبناء البلدة. فعندما قصد الفنان إسحاق داوود أحدهم طالباً تصوراً لمعلول كي يرسمها، جاءه الجواب: إذهب إلى القرية وعاينها بروية وهدوء، ونحن نكمل لك التفاصيل. هكذا تحولت لوحة معلول إلى ما يشبه الأيقونة، والجميع يتفقدها في الذي انتصبت على جداره. ومن مشاهد تلك الزيارات، عجوز يقف ليشير إلى بيته. ومسنّة تقف لتشير بعصاها «هاي الكنيسة.. وهاي دارنا.. والبيت لأحمر هاد.. كان لإبن عمي». وهكذا تحولت القرية المدمرة من متخيلة إلى حقيقة مرئية ومعلقة على جدار. وأهل معلول يعرفون «ما ضاع حق وراءه مُطالب».
التاريخ والذكريات
مزج ميشيل خليفة بين حضور كبار السن ومعهم التاريخ والذكريات، وبين لهو اليافعين والأطفال ولعبهم والغناء الذي يطلقونه. جمع في لعبة إخراجية بين اللوحة التشكلية، ولوحات أخرى من الأرشيف كانت خلالها الرسوم تتهادى وتدب فيها الحياة. كانت الناس في تلك الجلسة التفقدية تحاكي ارضها وتعيد الوصل بين الطرفين المتشوقين للقاء الدائم.
مؤثرة جداً اللوحة البصرية التي يقدمها ميشيل خليفي. لوحة غنية في التنوع الذي تختزنه وفي المشاعر الإنسانية الراقية والواعية لدورها الوطني. هذا كان في البدايات، لكنّ من حمل لقب أب السينما الفلسطينية المستقلّة يتابع مسيرة متصاعدة ينتظرها الجمهور والنقاد.