كثيرة هي المراجع التي انهالت على التراث بالدرس والتحليل، وكثير من النقاد عرب وأجانب، من حبّروا في قضايا الأدب العربي، وفي إبدالاته المعرفية والفكرية، وعبرها تم الكشف عن نقائضه ومعاركه التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.
يبقى التشكيك الديكارتي، الذي اعتمده طه حسين في بنائه المعرفي، إحدى الرسائل التي عرّفت بماهية الأدب، باعتباره المنطلق الأساس، نحو استجلاء الغامض من مدارس وتيارات فكرية وعقدية، اخترقت الأدب العباسي شرقا والأندلسي غربا. وكان طه حسين، إلى جانب لفيف من المفكرين، يسعى جاهدا نحو تأسيس اختيارات جديدة وبديلة، ترمي إلى إصلاح ما أفسده الأوائل، الذين اعتلى فكرهم الصدأ، واستولى على عقولهم التخلف والتحجر، فأصبح الأدب، في حضرتهم، حسب طه حسين، عسير الهضم منفّرا للذوق السليم.
هذه الاختيارات تقرب النصوص الأدبية إلى أذواق الناشئة بمختلف أعمارهم، لأن تربية الذوق، حسب عميد الأدب، ينفتح كليا على فنون الجمال، والعشق للكلام والحكي. علاوة على ذلك، يصبح الأدب بعامة واللغة العربية بخاصة مطواعة في أيدي الباحث والمتعلم، على حد سواء، فيخرجان بها من دائرة التقوقع والمسخ والتشويه والبتر إلى رحاب التداول والتذوق والتفاعل، وبالتالي يستطيعان أن يخلصا الأدب واللغة من سطوة الدخلاء والغرباء. يقول طه حسين في كتابه «في الأدب الجاهلي»: كيف السبيل إلى أن يدرس الأدب العربي درسا صحيحا، إذا لم تدرس الصلة المادية والمعنوية بين اللغة العربية واللغات السامية، والأدب العربي الأدب السامي؟».
في نظري، هذا التساؤل أعطى شرعية الوصل لا الفصل بين اللغة والأدب. فالاستمرارية، التي يدافع عنها طه حسين تنطلق من الواجب الإنساني لا العقائدي والديني. إن ما أنتجته البشرية من إبداع وتأليف هو ملك للإنسان، ما دام الأدب، في جوهره، يخاطب الكينونة الإنسانية عبر التاريخ. وإلا كيف أسرت رواية «مئة عام من العزلة « لغابرييل غارسيا ماركيز ملايين القراء عبر العالم؟ أو بالأحرى ما سر تفوق ليلى سليماني عند ولوجها عالم الكتابة، وإحرازها جوائز عالمية من خلال رواياتها «أغنية هادئة» و»بلد الآخرين». أليس الأجدر أن يكون الأدب بديلا عوض الانغماس في دراسة تراث تنعدم فيه شروط قبول الآخر؟
هذه الاختيارات تقرب النصوص الأدبية إلى أذواق الناشئة بمختلف أعمارهم، لأن تربية الذوق، حسب عميد الأدب، ينفتح كليا على فنون الجمال، والعشق للكلام والحكي.
إن السعي الحثيث نحو تأسيس ثقافة تتأصل في الوجدان، حسب طه حسين، يجب عليها أن تنعكس على واقع المرء، وألا تقتصر فقط على العناصر اللامادية، بل من الواجب أن تحيا هذه الثقافة بجوار كل ما هو مادي، يمس الواقع اليومي. فعبر التاريخ يظل الواقع الثقافي الفيصل في كل الصراعات السياسوية والاجتماعية، لأن الثقافة تهز كل الثوابت البالية والمعتقدات المتجاوزة في المجتمع، وتدفعه نحو معانقة الحرية والانعتاق من العبودية. ففي ظل هذا، كانت الثقافة السيف الذي أشهره عميد الأدب في وجه شيوخ الأدب في مصر، كاشفا عما يعتور مسيرتهم الأدبية والعلمية، التي تظل ناقصة، في نظره، ما لم تنفتح على الأدب العالمي، وعلى أعمال بقيت خالدة في الوجدان الإنساني، وفي مقدمتها إبداعات تولستوي، وفرجين وشكسبير وغيرهم.. على حد سواء، كانت أفكار الدكتور طه حسين تنحت طريقها في الصخر، وفي أوساط المثقفين أنفسهم داخل مصر وخارجها، بينما كان هو يسعى إلى إعادة النظر في التراث الشعري العربي برمته، فتبنى هذا الطرح رعيل من المثقفين، الذين كانوا ينظرون إلى المستقبل بنظرة ملؤها التفاؤل والحبور. ومن بين هؤلاء عائشة عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطئ، التي سارت على الدرب نفسه الذي رسمه قبلها طه حسين، إلا أنها ركزت في أعمالها على البعد النقدي.
ففي سنة 1964 نشر العلامة عبد الله كنون في مجلة «المجمع العلمي العربي» مقالا عنونه بـ»قيم جديدة للأدب العربي» وفي هذه المناسبة، ولأول مرة، تعرف عبد الله كنون في دار المعارف في القاهرة على بنت الشاطئ، عندما أهدى له عادل الغضبان نسخة من كتاب «رسالة الغفران» التي عملت بنت الشاطئ على تحقيقه. ففضلا عن ذلك، فالرسالة كما هو معروف كانت من تأليف أبي العلاء المعري الشاعر العباسي الضرير، الذي ضمنها دررا نفيسة من الدين والأخلاق والعلم والفلسفة والأدب ومزج كل ذلك بوفير الخيال.
عادة ما يكون اللقاء بين فقيهين، عبد الله كنون وبنت الشاطئ متعلقا بكل ما له صلة بالدين والنهج المأثور، إلا أن هذا خالف المألوف، وبالتالي خرجت الزيارة عن البديهي. ففي أول سؤال تفضل به عبد الله كنون، وجهه لبنت الشاطئ أراد من ورائه معرفة ما إذا كانت تتلقى المعونة والسند المعرفي والثقافي من زوجها أمين الخولي الأديب والأستاذ الجامعي، في تحقيق كتاب من حجم «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، فكان جوابها أن زوجها مشغول بأعماله الكثيرة، وبعد ذلك انتقل كنون إلى السؤال البديهي، هو كيف توفق بنت الشاطئ بين أعمال البيت من تربية الأولاد وما إلى ذلك والتدريس بالجامعة. فكان الاعتراف تلقائيا أنه عمل شاق جدا ترزح تحت أعبائه الثقيلة. سيكون طبيعيا أن تخطو بنت الشاطئ خطوات ثابتة في مجموعة من أعمالها، ويأتي كتابها «قيم جديدة للأدب العربي» بمثابة لبنة تنضاف إلى قائمة الكتب التي تنظر إلى الموروث الشعري العربي من العصر الجاهلي إلى العصر العباسي، نظرة يشوبها شك وريب، بما هو سمت صعب دشنه قبلها عميد الأدب العربي، إلى جانب أمين الخولي، عندما اهتم هذا الأخير، هو أيضا، بأبي العلاء المعري من خلال كتابه «رأي في أبي العلاء» الصادر عام 1944. ففي هذا المقال دائما أشار عبد الله كنون إلى الفرق بين الجديد والحقيقي، فالجديد قد يبلى مع مرور الزمن، بينما الحقيقة ثابتة تستمد وهجها من الحياة، بل تزداد رسوخا مع توالي السنون.
فهل كل ما قرأناه من قصيد عن النابغة في الجاهلية وشعر النقائض لجرير والفرزدق في العصر الأموي الأول، وعن شعراء البلاط في العصر العباسي من أمثال أبي تمام والمتنبي وأبي تمام والبحتري، وبتواطؤ النقاد والمؤرخين، أصبح هذا الشعر مشكوكا في أمره؟ هل الهدف هو إخفاء شعراء حقيقيين لا يتزلفون إلى التملق والمدح بغية للظفر باليد السابغة؟
في السياق ذاته، لماذا أخفق الشعر العربي في الحد من تسلط وطغيان المستبدين، ويعمل على إقامة العدل في المجتمع؟ هذه الأسئلة وغيرها استخلصها عبد الله كنون من قراءته المستفيضة لكتاب «قيم جديدة للأدب العربي» لعائشة بنت الشاطئ، لتبقى قضايا الشعر العربي معلقة أمام الباحثين تنتظر الإجابة.
كاتب مغربي