فرنسا تتعاطى مع لبنان كأنه حصتها في الإقليم.. وما زال البلد يعاني تجاذبات أفرزتها تلك الحقبة الاستعمارية الفرنسية من انقسامات طائفية ومذهبية. والبعض يتناسى أن اتفاقية» سايكس بيكو « السرية عام 1916، هي أساس تفتيت وحدة الشرق الأوسط وتقسيمه على أسس طائفية، لإشعال الفتن وتأجيجها. وهي مساعٍ فرنسية إنكليزية مشتركة، زعموا من خلالها رغبتهم في حل ما يُعرف تاريخيا بالمسألة الشرقية، فسياسة» فرقْ تسُدْ «تشكل جوهر الاستعمار الفرنسي وعقيدته التي عمد إلى فرضها على لبنان وغيره من دول المنطقة، لبسط سيطرته ونفوذه بالقوة، ما عزز الانقسامات والصراعات الطائفية داخل المجتمع اللبناني الذي لا يزال يدفع ثمنها، حتى صارت الطائفة والحزب، تمثيلاً لهوية واحدة.
أزمات متلاحقة يعاني منها لبنان.. صِدام طائفي وانهيار اقتصادي وتدخلات خارجية، وتوتر حول التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، ومطالبة بإعفاء القاضي المكلف بهذا الملف، بسبب محاولته استجواب عدد من كبار السياسيين والمسؤولين الأمنيين، الذين يشتبه بأنهم تهاونوا في أداء واجباتهم، ما تسبب في الانفجار المريع الذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص، ودمّر أجزاء كبيرة من العاصمة. والغريب أن الجميع نفوا ارتكابهم أي أخطاء، ويتبرؤون أيضا من حالات الكساد الاقتصادي التي نجمت عن انهيار نظام الدولة المالي عام 2019. هذا الانهيار المتواصل، الذي ألقى بنحو ثلاثة أرباع اللبنانيين إلى هاوية الفقر، وأطاح بنحو 90% من قيمة العملة.
وسرعان ما تحول الجدل حول قاضي التحقيق في قضية المرفأ طارق بيطار إلى معارك إعلامية، يتبادل فيها فرقاء سياسيون وداعموهم الاتهامات بتسييس قضية الانفجار، ومحاولة إخفاء الحقيقة. ووصلت الانقسامات حد الاشتباكات المسلحة. عينة جديدة من مشاهد هزت اللبنانيين عند أحد خطوط التماس القديمة في بيروت، مذكرة بالحرب الأهلية الأليمة.. قناصة يطلقون الرصاص عشوائيا على المتظاهرين، وقتلى وجرحى يسقطون تباعاً.. وطلقات نارية تخترق واجهات الأبنية، وسكان محاصَرون داخل منازلهم، وفي المدارس القريبة. وتزيد المصالح الخارجية والتآمر الإقليمي من تعقيدات شبكة التجاذبات الطائفية في هذا البلد، ولا يمكن التغافل عن أن محاولات إشعال فتيل الفتنة الطائفية في لبنان، يصب في نهاية المطاف في خدمة إسرائيل ومشاريعها التوسعية، فكل الفتن والحروب الداخلية خاصة في دول الطوق، هي لصالح إسرائيل، التي تنميها وتحركها عبر حلفائها والمتعاونين معها. وتمرير مشروع الفتنة التي يراد من خلالها إرباك الساحة اللبنانية، وإغراقها في أتون إشكاليات اجتماعية واقتصادية، هي مصلحة إسرائيلية أمريكية مشتركة، لفرض الهيمنة على المنطقة. والفتن المذهبية والطائفية هي الوجه الآخر للحرب الإسرائيلية على لبنان، ووجود أيادٍ استعمارية خارجية تستهدف ضرب البنية الاجتماعية في لبنان مسألة في غاية الوضوح، وذلك على خلفية دوره المقاوم، ونصرته لفلسطين وغزة، وإيلامه للاحتلال في محطات المواجهة، وآخرها حرب تموز/يوليو 2006.
النظام الطائفي الذي شُكل في لبنان مليء بالعيوب، وقد أعطى الأولوية للجماعات الطائفية على حساب المواطنين
الدولة اللبنانية تعاني من حالة عامة من سوء الإدارة، وغياب المحاسبة والمساءلة الحقيقية لمن يتولون المناصب العامة، الأمر الذي أدى إلى تدهور مستمر في الخدمات وفساد واسع النطاق. والكثير من اللبنانيين يتفقون على رفض النظام السياسي الحالي وانتقاد رموزه وقادته، فهو نظام يمنع محاسبة المسؤولين الفاسدين طالما يتمتعون بحماية كبار الزعماء، وهناك من يرجع الولاء إلى خطاب سياسي، فرض تماهياً بين المجموعة الدينية، وزعاماتها السياسية. ولا يرى الرافضون للنظام الحالي فرصة لإصلاحه أو تحسينه، بل يريدون تغييره بشكل جذري، وبناء نظام سياسي مختلف يحقق طموحات اللبنانيين، لكن المشكلة القائمة هي أن فئات الشعب الواسعة لا تتفق بالدرجة ذاتها على نظام سياسي بديل، نظرا لتأثير زعماء الطوائف، فبعضهم يرى أن النظام الحالي، رغم كل عيوبه، منع العودة للحرب الأهلية، فقد مكن القادة اللبنانيون من اقتسام السلطة، بعد اتفاق الطائف، بدلا من الاقتتال للاستحواذ عليها. ولكن عندما تصبح الدولة معطلة تماما، والنظام الحالي لا يعمل، فإنه من مصلحة الجميع مناقشة ضرورة إلغاء الطائفية السياسية القائمة في لبنان، التي تعد من معطلات تسيير الحياة العامة وتدبير شؤون الناس، بعد أن ترسخت في هيئة نظام سياسي جاء به اتفاق الطائف، نتيجة تسويات بين زعماء الحرب وقوى إقليمية. ولا يمكن إنقاذ البلاد من الانهيار مع الابقاء على النظام السياسي بطابعه الطائفي. والمشكلة في لبنان هي أن القادة يضعون ذرائع طائفية لسطوتهم السياسية، وفي تقدير أستاذ القانون الدستوري اللبناني وسام اللحام، هناك سوء فهم لطبيعة الدستور، بسبب منظومة الزعامة التي كرست أعرافاً وممارسات زبائنية لحماية مصالحها، متذرعة بقوانين وحجج دستورية غير موجودة. فالنظام اللبناني مؤسساتي قانوني، يؤمّن تمثيل الطوائف، وذلك موجود في دول كثيرة في العالم، تحت أسماء أخرى، كما في بلجيكا مثلاً. والمشكلة ليست في النص الدستوري بحد ذاته، بل في إسقاط الزعماء للطابع الطائفي على معاركهم السياسية، لتبرير مصالحهم. علماً أن الدستور يمنع تخصيص أي وظيفة لأي طائفة، وذلك ما لا يطبق.
النظام الطائفي الذي شُكل في البلاد مليء بالعيوب، وقد أعطى الأولوية للجماعات الطائفية على حساب المواطنين. وغالباً ما تُعرقَل المسارات السياسية إكراماً للتوازن المعنوي بين الطوائف وقادتها، وحفاظاً على مصالح الأحزاب والزعامات صاحبة التمثيل الأقوى فيها. أزمات اقتصادية وتدهور معيشي نجم عن عقود من سوء الإدارة المالية والفساد من جانب النخبة الطائفية، وعُطل البلد لأشهر بسبب الخلاف على تقاسم الحصص في الحكومة، أو على تمثيل الطوائف في القانون الانتخابي. والسردية الطائفية ظهرت مباشرة إثر انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس الماضي. وإلى الآن، تتنافس الطوائف اللبنانية في إبراز المظلومية لتحديد مستوى التعاطف وشكله، بعد تحديد طوائف القتلى، وطوائف سكان المناطق المتضررة. نوع من الرداءة السياسية، هي نتاج ما وسمته أستاذة علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية في بيروت ريما ماجد، بتطييف الخطاب السياسي، مع محاولة كل طرف قولبة الحقيقة لصالحه، لأن» التطييف «في رأيها هو عبارة عن عملية طويلة، متواصلة منذ عقود في خطاب الزعماء. وليس استثنائيا استخدامها في ردود الفعل على تفجير المرفأ. فقد باتت جزءاً من مخيلة الناس السياسية اليومية، واللغة الطائفية قابلة للتبسيط، وهي لغة حمالة أوجه، ويُقصد بها أكثر من التعريف الطائفي المباشر. وهكذا، لا نلحظ خلطاً بين الطائفة والحزب فقط، بل دمجاً بين الطبقة والطائفة، والمنطقة والطائفة. وهذا ما يلجأ إليه السياسيون للتعبئة.
حادثة المرفأ أظهرت عمق الفساد وسوء الإدارة التي يعاني منها لبنان. رئيس الوزراء السابق حسان دياب، قال بعد أيام قليلة من الانفجار» إن الفساد أكبر من الدولة في لبنان . فهل قدر اللبنانيين أن ينقلب التنوع الثقافي والحضاري والديني للبلد، من نعمة إلى نقمة؟ وأن يظل شبح الحرب الأهلية يطل في الأفق مع كل اهتزاز أمني وتوتر طائفي؟ أم أن الشعب قادر على طي صفحة الصراع الهجين المتواصل منذ عقود، ورسم تاريخ جديد لدولة مدنية حقيقية تعلو على انتماءات الفرد المولودة، وتكون عابرة للطوائف، ولجميع أشكال التعصب الفئوي، بالإرادة نفسها التي تطلّع من خلالها المشاركون في المظاهرات إثر انفجار المرفأ إلى تغيير شامل في النظام السياسي اللبناني، يضمن رحيل الطبقة السياسية الحالية بكاملها.
كاتب تونسي
الصراعات الاهلية غالبا ما تسبقها و تواكبها ايديولوجيات تدعو الى احقية أطراف الصراع بحقوق معينة اجتماعية و اقتصادية و سياسية و بأن هذه الحقوق اما مهضومة و أن اوان استردادها و اما مهددة و لابد من النضال من اجل حمايتها و المحافظة عليها بتعبير اخر تنمو مجموعة من القيم و المعايير التي تفسر الأختلاف السياسي بين الجماعات الاهلية المتصارعة لا على انه مجرد تعارض في المصالح و لكن على انه إختلاف عميق و لايمكن التوفيق و التعايش معا اي أن مجرد التنوع يتحول الى تناقض و استقطاب على مستويات مختلفة و يشتد التنافر بدلا من التواؤم و التكامل فيما بينها خاصة إذا ما وجدت دعما او تشجيعا من قوى اجنبية و يكون هذا التحدي الاثني أحد المداخل السهلة للاختراق الاجنبي لبنية المجتمع و الدولة و هو المرشح اكثر من غيره في الاستراتيجية الاسرائيلية لاستنزاف الاقطار العربية و تجزئتها لذا لا بدا من تعددية سياسية و احترام الراي الاخر و قبول التعايش و الصراع السلمي الديمقراطي.
صحيح، هذا جزء من ثوابت الأمة وقضاياها والتي من دونها نتحول إلى طوائف وملل ونحل يسهل اختراقها. وإسرائيل منذ وقت مبكر أرادت التعامل مع طوائف بدل أمة جامعة ودول موحدة. الإرث الاستعماري ترك مآسيه مجسّدة في الصراع الحدودي بين معظم دول المنطقة وأيضا متمظهرة في الانقسامات الداخلية والصراع المذهبي الذي حرصوا على اذكائه وإشعال نار الفتن. تحديات جمة على القوى الحية مجابهتها وتوحيد المجزّء وبناء دول حقيقية متينة تحتؤم الإنسان وتكفل كرامته ولا يشتغل حكامها بالسمسرة والفساد ورعاية المصالح الضيقة والفئوية التي منعت بناء دولة حديثة.