المماطلة في الخروج من الوضع الاستثنائي، والضبابية وعدم الوضوح في الرؤية، جعلت الأوروبيين يغيرون موقفهم بشأن ما يحصل في تونس منذ 25 تموز/يوليو وإلى اليوم.
تونس-»القدس العربي»: بعد مضي ثلاثة أشهر على الإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد والتي جمّد بموجبها البرلمان وقام بحل الحكومة، بدأ البعض بتقييم المرحلة بعيدا عن الحماس الذي طغى في الأيام الأولى لدى الموالين، وأيضا التشنجات التي رافقت اتخاذ تلك الإجراءات من قبل المعارضين. واختلفت التقييمات وتراوحت بين التأييد المطلق لما قام به ساكن قرطاج والرفض القطعي لما حصل، وبين من يقفون على مسافة واحدة من الطرفين ويرون أن قرارات 25 تموز/يوليو كانت ضرورية بعد أن وصلت البلاد إلى الحضيض على كافة المستويات، لكنهم يرفضون أيضا ما قام به قيس سعيد لاحقا من جمع للسلطات بيده من دون تحديد آجال لنهاية هذا الوضع الإستثنائي.
ويشعر عدد من التونسيين أن لا شيء تغير بين الأمس واليوم خاصة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. فالتركة ثقيلة جدا في هذا المجال، كما أن وضع الحريات ما زال في أسوأ حالاته ولم يتمكن قيس سعيد خلال هذه الفترة القصيرة من تحقيق إنجازات تجعل التونسيين يتفاءلون خيرا في هذا المجال. فالمحاكمات العسكرية للمدنيين والتي كانت سائدة قبل 25 تموز/يوليو وساهمت في تشويه صورة القضاء التونسي دوليا لم تتوقف بعد رغم أن المحاكم العسكرية تضم في تونس قضاة مدنيين من خريجي كليات الحقوق وليس عسكريين مثلما يحصل في الأنظمة القمعية. واستهداف وسائل الإعلام والصحافيين سواء من قبل الهيئات التعديلية أو المواطنين المتحزبين أو عناصر الأمن ما زال مستمرا وكأنه لم يحصل تغيير في البلد جعل سقف الإنتظارات يرتفع في البداية لكنه سرعان ما تراجع بمرور الأيام.
أما على المستوى الخارجي فقد حصل تدهور ملحوظ في العلاقات مع الأطراف الدولية الفاعلة على غرار الولايات المتحدة الأمريكية . وتكمن أهمية واشنطن بالنسبة لتونس باعتبارها كانت ومنذ استقلال تونس داعما سياسيا واقتصاديا للخضراء وضامنا في السنوات الأخيرة لحصول تونس على السيولات المالية من المؤسسات النقدية الدولية.
لقد قام قيس سعيد بدعوة السفير الأمريكي وعبر له عن رفضه إدراج الكونغرس للأزمة التونسية في جدول أعماله وهو ما يبدو أنه أغضب واشنطن فتم تخفيض التمثيل الدبلوماسي الأمريكي في تونس وذلك بإنهاء مهام السفير بدون تعيين سفير جديد. وهو ما جعل أطرافا عديدة تدعو ساكن قرطاج إلى فتح قنوات حوار مع الأمريكيين من أجل مصلحة الاقتصاد الوطني باعتبار حاجة الخضراء لكل أصدقائها في هذه المرحلة الصعبة والدقيقة من تاريخها والتي تمر فيها بأزمة اجتماعية غير مسبوقة.
ورغم أن الاتحاد الأوروبي هو الشريك الاقتصادي الأول لتونس فإن الرئيس سعيد يبدو أنه لا يتواصل كما يجب مع عواصم القارة العجوز التي بدأ الفاعلون في اتحادها بفرض شروطهم على التونسيين وذلك من خلال ربطهم بين الدعم المالي للخضراء والاعتراف بأشياء لا تتماشى والتقاليد المحافظة للمجتمع التونسي. فرغم الانفتاح البادي على سلوك كثير من التونسيين إلا أن الشعب ما زال في عمومه وفي أعماقه شرقيا محافظا لا يستسيغ بعض الحريات التي لا تتماشى مع عاداته وتقاليده ويرفضها الدين الإسلامي كما المثلية الجنسية.
لذلك يرى البعض أن تونس بحاجة إلى محاور جيد مع الأوروبيين يحسن إدارة الحوار ويبلغ كما يجب للأوروبيين ما مفاده أن استقرار تونس أمنيا واقتصاديا هو استقرار لدول القارة العجوز وخصوصا بلدان الضفة الشمالية للمتوسط.
إن ماهو أكيد أن خصوم قيس سعيد السياسيين متمرسون أكثر منه على التواصل مع الخارج وتبليغ وجهات نظرهم إلى الشركاء والداعمين، وهو ما يرى فيه رئيس الجمهورية استقواء من هؤلاء بالأجنبي على بلدهم. ولعل ما يؤكد هذا التمرس هو الموقف الأوروبي عموما مما حصل في تونس، فبعد الدعم المقترن بضرورة الحفاظ على الديمقراطية الوليدة، تطور هذا الموقف في بيان البرلمان الأوروبي الأخير الذي بدا فيه نزوع إلى الابتعاد عن الرئيس قيس سعيد والاقتراب أكثر من أصحاب نظرية الانقلاب بدون أن تتبنى رؤيتهم بالكامل.
بالمقابل يرجع البعض أسباب هذا التغير في الموقف الأوروبي إلى تأخر قيس سعيد في تكليف رئيسة الحكومة الجديدة نجلاء بودن بتشكيل حكومتها، وإلى عدم إعلانه عن مواعيد دقيقة للانتهاء من هذه التدابير الاستثنائية واستكمال تعديل الدستور وتنقيح القانون الانتخابي والاستفتاء حولهما. كما أن المطلوب من الرئيس أيضا أن يحدد مواعيد الاستحقاقات الانتخابية في أسرع وقت ممكن باعتبار أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لم تعد تحتمل المزيد من التأخير في هذا الإطار.
وبالتالي فإن «المماطلة» في الخروج من هذا الوضع الاستثنائي، وهذه الضبابية وعدم الوضوح في الرؤية، يبدو أنها هي التي جعلت الأوروبيين يغيرون موقفهم بشأن ما يحصل في تونس منذ 25 تموز/يوليو وإلى اليوم. ولا مجال بالتالي للحديث عن المعارضة ودورها في تأليب الخارج ولا عن عمالة البعض وانخراطهم في مؤامرات تدميرية باعتبار المساهمة الفعالة لمن هم في الحكم في هذا التغير في مواقف الشركاء الاقتصاديين الذين اعتادوا على مد يد العون في السراء والضراء.
انفراج ولكن..
إن العلامة المضيئة الوحيدة الحاصلة في تونس منذ 25 تموز/يوليو هي التحسن في الوضع الصحي في محاربة فيروس كورونا، حيث توفرت التلاقيح اللازمة وتم تطعيم عدد لا بأس من التونسيين وخرجت البلاد من دائرة الخطر وهي التي وصلت قبل هذا التاريخ إلى تسجيل كارثة صحية بكل ما للكلمة من معنى. فقد عجزت حكومة المشيشي عن توفير التلاقيح اللازمة وانتشر الفيروس بشكل لافت في مختلف مدن البلاد وحصد أرواح عشرات الآلاف من التونسيين.
ولعل فرض جواز التلقيح بالنسبة إلى التونسيين الراغبين في السفر إلى خارج البلاد وعلى كل من سيرتاد الفضاءات العامة والخاصة سيزيد من نسبة الإقبال على التلقيح وسيمكن تونس من تخطي هذه الأزمة الصحية بسلام. ويبدو أن الحكومة ماضية قدما في هذا التوجه غير مبالية بانتقادات كثير من الحقوقيين الرافضين لهذا الجواز باعتبار أن التلقيح بالنسبة إليهم اختياري ولا يجب فرضه فرضا والمس من حق التنقل لأي كان.
إن تحسن الوضع الصحي من شأنه أن يساهم في عودة النشاط السياحي إلى سالف عهده وكذا الحركة التجارية وهو ما سيمكن حكومة نجلاء بودن من بعض الأموال التي تحتاجها الحكومة خارج إطار التداين. وإذا لم يتم استغلال هذا الأمر الاستغلال الأمثل، خلافا لما حصل في السابق، فإن الأمور ستزداد صعوبة على هذه الحكومة التي ورثت تركة ثقيلة جدا في كافة المجالات.
ويرى البعض أن تونس لن تمر إلى بر الأمان من دون تحصين جبهتها الداخلية من خلال إشراك المنظمات الوطنية والأحزاب السياسية في التخطيط للمرحلة المقبلة في حوار وطني يشمل الجميع ومن دون إقصاء لأي طرف إلا من أثبت القضاء تورطه. فالإصرار من قبل الرئيس على عدم الاستماع إلى المنظمات الوطنية الكبرى مثل الاتحاد العام التونسي للشغل وعدم إشراكها في صياغة القرارات قد يؤدي بالبلاد إلى ما لا يحمد عقباه خاصة وأن تونس لم تعد تحتمل كثرة الاضرابات التي أنهكت الاقتصاد والتي كان الاتحاد فاعلا فيها ومحركا رئيسيا لها.
كما أن اقتصار الحوار الوطني على فئة الشباب بدون سواها لا يمكن أن يساهم في عبور البلاد إلى بر الأمان باعتبار أن هذه الشريحة وعلى أهميتها لا تمثل كل التونسيين. ولعل السؤال الذي يطرح من هم الشباب الذين سيشاركون في الحوار الوطني الذي أعلن عنه الرئيس قيس سعيد وعلى أي أساس سيتم اختيارهم؟ أليس الاستماع إلى فئة منهم دون الآخرين هو إقصاء للبقية؟ في حين أن مشاركتهم جميعا هو أمر هلامي يصعب تحقيقه على غرار النظام السياسي الذي يبشر به محسوبون على الرئيس والمستوحى من الديمقراطية المباشرة التي تصلح فقط للمجتمعات قليلة العدد؟
ما حصل في مصر ضد اتباع نظام مرسي في السجون وما حصل في السودان ضد أتباع النظام المدني في السجون ، لم يحصل مثله في
تونس قيس سعيّد؟ ألا يدل ذلك على ديمقراطية الرئيس التونسي على عكس ما يشيع عنه الاعلام ؟ نحن نتابع الاعلام الشرقي والغربي ونرى الصورة من زوايا متعددة.
رغم اعتماده في البداية على قاعدة شعبيّة فإن مشروع قيس سعيدأخذ يدور في حلقة مفرغة، للأسباب التالية : أولاَ) غياب المنهجية. كان عليه إعداد خطّة إستباقيّة قبل تشريع الحالة الاستثتائية وأغلاق البرلمان بالعربات العسكريّة. ثانياَ) ضعف سياستة التواصل. فكيف له أن يبادر بعمليّة شبه انقلابيّة ـ من وجهة نظر المراقبين الدوليين على الأقل ـ إن لم يكن مستعداَ بدعمها أمام الرأي العالم الدولى بعقد عدداَ من المؤتمرات الصحفيّة والردّ على تساؤلات الصحافة والمحللين السياسيين بموضوعيّة. أما اسلوبه في خطاب المونولوج وهو يراشق خصومه بالاتهامات، فقد خرج عن المألوف السياسي والديبلوماسي وصار مملّاَ، ثالثا) لايمكنه أن يحمّل الجيش أكثر من طاقته. فولاء الجيش التونسي ولاء حصري لله وللوطن، يستحيل أن يتحوّل إلى وسيلة انقلابية، كما حصل في دول عربية أخرى نجحت في قمع الثورات المضادة/ لامخرج من الازمة التونسية التي تحولت إلى ورطة، إلّا في الحوار الجاد وبوضع خطّة اقتصاديّة عاجلة يشارك فيها أصحاب النوايا الحسنة من النخب الاقتصادية الوطنيّة في الداخل والخارج. تحيا تونس.