مسلسل رجل الكستناء

للوهلة الأولى، قد يبدو اختيار مسلسل “رجل الكستناء”، سداسي الحلقات، من بلد اسكندنافي من مثيل الدانمارك، مغامرة غير مشجعة لتستمتع فيها بوقت فراغك، خصيصاً مع شبه سيطرة للمسلسلات الأمريكية، تغزو منازلنا رغماً عنا، لأسباب مختلفة ومعقدة؛ منها سيطرة شركات الإنتاج الأمريكية على عالم الإنتاج الدرامي، وأخرى متعلقة بتعليب ذوق المشاهدين العام وإدمانهم على ثقافة السائد والمتغلب.

سيطرة الدراما الأمريكية

 سيكون اختيارك لهذا المسلسل اختباراً أكثر منه مغامرة، لتتخلص من سيطرة الدراما الأمريكية وتشاهد العالم من منظور آخر، فمن جهة لا يعتمد المسلسل على أسلوب المسلسلات الأمريكية التي تستخدم معظمها مؤثرات بصرية خارجية -وأشياء أخرى لا مجال للحديث عنها الآن- ولا يقتحم عالم الجريمة والشرطة والبحث الجنائي بطريقة استعراضية، بل يكاد يتطابق مع العالم الحقيقي لهذه الأجواء، حيث قام  كل من كتّاب السيناريو بالمشاركة بكتابة الحوار بالتناوب Dorte Warnoe Hagh, David Sandreuter, Mikkel Serup ناقلين عن صاحب القصة الأصلية Soren Sveistrup تغليب نوعية العلاقات البشرية الجديدة في بنية العمل الدرامية التي قامت بناء على صناعة مؤسسات يُفترض أنها تقدم خدمات اجتماعية جليلة فرضها الواقع وبات من الصعب انتقادها أو التدقيق وراءها وتأثير ذلك على البنية الاجتماعية الجديدة.
يناقش المسلسل تداخل عالم السياسة مع عالم الحياة الشخصية وتعقيد ذلك على مستوى الزوجين، ويتحدث عن حدود وتأثير مساحة العلاقات المنزلية حين يكون أحد أفراده يعمل على مستوى الشأن الخدمي العام، وكيف أن تقاطع المشاعر الذاتية قد يضر بالتحالفات السياسية للطرف الآخر على المستوى العام.
يتضمن المسلسل محوراً أساسياً هو الإساءة للأطفال عبر أشكال مختلفة، منها عبر علاقات اجتماعية غير مستقرة، وعبر قلة الاهتمام بتنشئتهم، لغياب الشريك، أو عدم معرفته أساساً، وتأثير العلاقات الجنسية العشوائية، وغياب الأهل الحقيقيين عن تنشئة الأطفال، وما يترتب بعدها من مشاكل متداخلة، سواء على صعيد بناء الشخصية الذاتية لجيل المستقبل من الأطفال، أو حتى على مستوى العلاقات اللاحقة معهم، فهم سيكبرون وتأخذ هذه الإشكالية بُعداً مختلفاً في علاقاتهم اللاحقة وخياراتهم لعيش حياتهم الخاصة، التي من الممكن أن يستثني فيها الطفل أحد أبويه منها، بغضب عارم، بكل بساطة.
يتساءل كاتبو المسلسل عن حاجة الأطفال ليكونوا جزءا من عائلة غير مجهولة النسب، وذات قرابات كثيرة، وعن كون هذا حقا لربما يجب التغليب عليه على الحرية الفردية، واختلاطات العوامل المؤثرة جراء هذه الحرية غير المسؤولة، على العلاقات اللاحقة مع الأطفال، وبالتالي يكون السؤال الأجدر لاحقاً هل سعادة الأطفال أهم، أم العمل، أم بناء علاقات جنسية عابرة على الصعيد الشخصي أهم وأعلى، على سلم الإنجازات في الحياة البشرية القصيرة؟

الجروح الأسرية

يتضمن المسلسل مناقشة للجروح الأسرية المنغمسة بالوجع والخوف والارتياب جراء فقد أحد الأطفال، ويتم ربط هذه الفكرة بطريقة بارعة الذكاء بالقرارات الصارمة بخصوص التحفظ على الأولاد لصالح مؤسسات الرعاية الاجتماعية، بقرار صادر عن الدولة، وما يسببه من انتكاسات في عقلية الأسر وأفرادها، فمن ناحية لابد من الإقرار أن هناك عينات يتوجب سحب الأطفال من عهدتها، لأسباب مختلفة مثل العنف والعته والمرض، وغيرها من الإشكاليات، ومن ناحية أخرى بالمقابل فإن هناك الكثير من الحالات التي يكون تدخل الدولة فيها غير متناسب مع حجم الانهيارات اللاحقة على مستوى العائلة أو الفرد، الذي قامت بعزله عن محيطه الطبيعي، فليس من المفيد مثلاً أن يتم تعيين وزيرة للشؤون الاجتماعية فقط لأنها كانت لا تعرف آباءها البيولوجيين، بل ويتم الترويج لهذه الوزيرة وكأنها صاحبة إنتاج واستحقاق لتكون بهذا المنصب دون البحث في خلفيتها المسلكية والنفسية، إذ يتعامل الكثير من الناس مع الموضوع وكأن مثل هذا المنصب الخطير يمكن اعتباره جائزة ترضية عن ماض أليم، أو حتى أنه اعتراف من المجتمع بأحقية هذا الشخص بالتعويض وتسيير أمر خطير فقط لأنه مر ببعض تفاصيله، فهو لذلك أدرى بتسييرها!
يعتمد المسلسل اعتماداً مباشراً على فكرة الثقة فيما يقوله الطفل الصغير والتدقيق وراء ما يقوله، لأن هناك فئة كبيرة من الناس تثق أن الأطفال لا يتمكنون من نسج الأكاذيب وتلفيق القصص، وهم يجدونهم كتلة كبيرة من النقاء، التي لا يمكن التفكير بمدى مقدرتهم على توريط وتلويث حياة آخرين مدى الحياة، وأن مثل هذه الخلاصات لا يمكن أن يتم البناء عليها إلا بعد الكثير من استشارات متخصصين لا يمكن أن تخدعهم كلمات مخيفة قالها طفل ما بدافع من غضب وكراهية وحسد يمكن أن تتسبب لاحقاً بأذى لا يمكن محوه ببساطة من السلم الزمني لحياة شخص آخر، إذ قد يأخذ فعل التدمير أوجهاً مختلفة لا يمكن الإحاطة بمستوى خطرها أو تأثيره على الصعيدين الجمعي والفردي.
الاعتداء الجنسي على الأطفال إشكالية فظيعة لها مسببات مختلطة، منها ما هو متعلق بالحرية الجنسية غير المضبوطة بقوانين واضحة وصريحة وما يسمح بتركها عشوائية، ومشاكل تربوية تعتبر الطفل أداة جنسية ضعيفة ومتاحة ويمكن السيطرة عليها، وهو شأن يتصل بالعار يتم التدقيق وراءه كثيراً، خصيصاً في حالات الاعتداءات من الأقارب، وبالوقت عينه يمكن استعمال هذا الوصم الاجتماعي ليكون أداة لتحطيم حياة أحدهم بناء على إدعاءات مزيفة.
في تسلسل أحداث المسلسل، تم تحميل المسار الدرامي على سلسلة قضايا قتل متصلة بعضها ببعض بدليل جنائي متكرر، لقاتل متسلسل، يستخدم لعبة شعبية يلعب بها الأطفال في الدانمارك وقت حصاد الكستناء، مترافقة بأغنية تقليدية ينشدونها بأوقات التسلية والمناسبات ويبيعون تماثيل صغيرة منها لتحصيل بعض المال بغرض التشجيع، ومن هذا الحيز بالذات تنطلق فكرة الرعب التي تصبغ المسلسل بطريقة تشويقية بوليسية ناجحة ومتصلة الأحداث بعضها ببعض، ليكون النتاج عملاً بصرياً جديراً بالمشاهدة والإفادة.
تم إطلاق المسلسل للشاشة التلفزيونية على شبكة نتفليكس بتاريخ الـ 29 من أيلول- سبتمبر عام 2021، أخرج المسلسل بالتناوب كل من Kasper Barfoed, Mikkel Serup وكان من بطولة النجوم الدانماركيين
Danica CuricMikkel, Boe olsgaard, David Dencik وآخرين.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية