في ختام زيارةٍ للبنان استغرقت 12 يوماً، شملت مناطق بيروت والشمال والجنوب ووادي البقاع، دَرَس خلالها ومحّص وقارن، أعلن مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان أوليفييه دي شوتر مذهولاً «التقصير في المسؤولية على أعلى مستويات القيادة السياسية، وصدْمته لانفصال المؤسسة السياسية عن واقع الذين يعيشون في فقر على الأرض، ويفتقرون إلى مياه الشرب المأمونة والكهرباء والمستشفيات». قال «إن الأزمة المصنّعة تدمّر حياة السكان، وتحكم على الكثيرين بفقرٍ سيتوارثه الناس جيلاً بعد جيل، هذا المستوى الصارخ من عدم المساواة يعزز نظاما ضريبيا يكافئ القطاع المصرفي، ويشجع التهرّب الضريبي، ويركّز الثروة في أيدي قلّة، إنها كارثة من صنع الإنسان، استغرق صنعها وقتاً طويلاً».
الواقع أنه قبل وقتٍ طويل من زيارة أوليفييه دي شوتر، وحكمه الصارم على أركان القيادة السياسية، كان اللبنانيون عموماً والقوى الوطنية المطالبة بالتغيير خصوصاً، قد كشفوا نظام المحاصصة الطائفية ومنظومته الحاكمة، وحكموا بمسؤوليتهما الفاجرة عمّا انتهى إليه لبنان من أزمات وكوارث، لعل أشدها خطورة ودلالة أنه لا دولة في البلاد، بل نظام سياسي متهرّئ تديره شبكة من أمراء الطوائف، ورجال أعمال وأموال يتعاطون السياسة للوجاهة والتجارة بمؤازرة زمرةٍ حليفة من نافذين في أجهزة المخابرات. احتفظ أهل النظام الطائفي بسلطتهم وتوارثوها منذ الاستقلال سنة 1943، وعززوها بعد «اتفاق الطائف» 1989، وأعادوا إنتاج النظام، من خلال قوانين لا ديمقراطية للانتخابات. وها هم اليوم يتشاحنون حول البنود الأنسب التي يريدون تضمينها القانون، لضمان إعادة انتخاب ممثليهم في الانتخابات المفترض إجراؤها في ربيع السنة المقبلة. كثير من السياسيين والمراقبين والإعلاميين وحتى من أحزاب السلطة ذاتها يشككون في مصلحة أهل النظام، ناهيك من قدرتهم، على إجراء الانتخابات في موعدها. إلى ذلك، يطرح بعض قادة قوى الديمقراطية والتغيير حجةً قوية حول جدوى إجراء الانتخابات، في ظل أيّ قانون ينظمّها، طالما لا دولة في البلاد، وبالتالي لا قدرة البتّة على النهوض بالإصلاحات المطلوبة والمستحقة التي لا تطالب بها غالبية المواطنين الشرفاء فحسب، بل ايضاً ما سماه مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان أوليفييه دي شوتر «مجتمع المانحين الدوليين الذي بدأ صبره ينفد مع الحكومة اللبنانية، بعد خسارة 240 مليون دولار أمريكي نتيجةَ التلاعب بأسعار الصرف التعسفية». ثم مَن قال إن اللبنانيين مهتمون بالانتخابات، ترشيحاً وتصويتاً، في هذه الظروف البائسة الشديدة الاضطراب، التي تلفّ البلاد في هذه الآونة؟ وهل ننسى أنه في الانتخابات الماضية سنة 2018 ـ وكانت الظروف وقتئذٍ افضل وأهدأ ـ شارك في الانتخابات 49% من الناخبين فقط وقاطعها 51% حسب بيان رسمي لوزارة الداخلية، قال كثيرون إنه انطوى على مبالغة مقصودة في تحديد نسبة المشاركين. ما العمل؟ السؤال مطروح، بالدرجة الأولى، على قوى الديمقراطية والتغيير الأكثر شعوراً بالمسؤولية والأشد اهتماماً بالمطالب الإصلاحية المستحقة. يقتضي، بادئ الأمر، الانطلاق من حقيقة ساطعة، أن السبيل الأكثر أمناً وجدوى للتغيير في بلد تعددي كلبنان، هو من خلال انتخابات حرّة ونزيهة، تجري على أساس قانون للانتخابات يكفل صحة التمثيل الشعبي وعدالته، وأن مرتكزات هذا القانون باختصار هي: الدائرة الوطنية الواحدة، التمثيل النسبي، خفض سن الاقتراع إلى الثامنة عشرة، وتنفيذ المادة 22 من الدستور التي تقضي بانتخاب مجلس للنواب على أساس وطني لا طائفي ومجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف. لضمان اعتماد هذه المبادئ والقواعد الأساسية، يقتضي أن تبادر مختلف قوى الديمقراطية والتغيير إلى القيام بالمهام العاجلة الآتية:
ـ عقد اجتماع جامع لقادة الأحزاب والحركات والهيئات المعنية بقضية التغيير والإصلاح والديمقراطية لتدارس أسس مواجهة التحديات السياسية الراهنة، وفي مقدمها مسألة الانتخابات، ورسم خطة متكاملة لكيفية مواجهتها.
إجراء الانتخابات في ظل قانونها الحالي اللاديمقراطي، سيعيد إنتاج المنظومة السياسية الفاسدة ذاتها واستمرار الأزمة المستفحلة وتعاظم الانهيار
ـ عقد ندوات شعبية في كل المناطق لتبيان عدم جدوى إجراء الانتخابات في ظل قانونها الحالي، خاصة لكونه مصنوعاً لإعادة إنتاج أمراء الطوائف ومنظومة السياسيين الفاسدين، الذين أوصلوا البلاد والعباد الى الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي، وإلى حال اللادولة والفوضى.
ـ تعبئة تيار وطني شعبي جارف يضغط بقوة ومثابرة من أجل إقرار قانون الانتخابات المبيّنة مرتكزاته آنفاً، في استفتاء شعبي عام، وإذا تعذّر ذلك لأي سببٍ كان، يُصار إلى دعوة الشعب لمقاطعة الانتخابات المفترض إجراؤها في ربيع السنة المقبلة في ظل قانونٍ مصنوع لإعادة إنتاج المنظومة السياسية ذاتها التي حكمت وأفسدت وأوصلت البلاد إلى ما هي عليه من بؤس وفقر وبطالة وانهيار على جميع المستويات. ولن تكون مقاطعة الانتخابات فرصة ضائعة لأن إجراءها في ظل قانونها الحالي اللاديمقراطي سيعيد إنتاج المنظومة السياسية الفاسدة ذاتها ومعها استمرار الأزمة المستفحلة وتعاظم الانهيار، الأمر الذي يعزّز سخط غالبية اللبنانيين ويؤدي إلى تعزيز قوى التغيير والإصلاح، وتالياً الى تقويض نظام المحاصصة الطائفية، وبزوغ مسار بناء دولة المواطنة المدنية الديمقراطية.
ثمة مهمة تاريخية وساحة للنضال عريضة وأدوار بحاجة إلى أبطال، وقد آن الأوان.
كاتب لبناني