الولايات المتحدة الأمريكية، حتى تبقى متربعة على عرش قيادة العالم وإحكام سيطرتها عليه، خططت أن تجعل هذا القرن قرنا أمريكا؛ كما جاء في دراسة تم إقرارها في عام 1997؛ وبالعمل وفق مساراتها، واتجاهاتها وأهدافها، التي بموجب مقتضياتها وضروراتها الإجرائية، في وقتها، تم إلزام الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بعد هذا التاريخ بالعمل على تنفيذها على أرض الواقع؛ فكان من نتيجتها غزو واحتلال العراق وقبله أفغانستان. العراق كان يحتل رأس الحربة، أو بداية الطريق، لما نشهده في الوقت الحاضر، ولأكثر من عقد من الآن، في المنطقة العربية.
أما ما يقال خلاف هذا، فما هو إلا محض خداع وكذب وافتراء. غزو واحتلال العراق لم يكن كما تدعي الولايات المتحدة الأمريكية، أنه حينها كان خطأ في الحسابات، أو أنه كان لنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، الأمريكيون يدركون ويعلمون ويعرفون تماما، أن العراق خال من تلك الأسلحة، وقبل سنوات من بداية الغزو، وما يؤكد ما ذهبت إليه، إقرار الكونغرس الأمريكي في عام 1998 أي بعد عام واحد من صدور الدراسة المشار إليها، قانون حرية العراق، لجهة الحقيقة والهدف هو قانون غزو واحتلال العراق، الهدف منه؛ إعادة صياغة أنظمة دول المنطقة العربية، بما يجعل الأوضاع العربية جاهزة لتنفيذ الاستراتيجية الأمريكية في منطقتنا العربية، كمفتاح، أو باب هو من أهم الأبواب لنجاح هذا المخطط، والمقصود هنا هو جعل هذا القرن قرنا أمريكيا.
من المؤكد مهما كان شكل الإدارة الأمريكية، حينها، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية، بوش الابن على رأسها أو أي رئيس آخر؛ فإن غزو واحتلال العراق، ستقوم به أمريكا؛ لأنه الطريق الذي لا بد منه، لترجمة الدراسة الأمريكية، إلى عمل وفعل، بتحويل طروحاتها النظرية إلى واقع عملي يتحرك على الأرض. جميع الإدارات الأمريكية، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، ما هي إلا وجوه متعددة لعملة واحدة، ربما يختلف أسلوب وطريقة الوصول إلى الأهداف بين إدارة وأخرى، لكن الأهداف واحدة لن يطالها التغيير. على سبيل المثال؛ اعتبار الصين تهديدا استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية، الذي بدأ منذ إدارة بوش الابن، مرورا بجميع الإدارات التالية، لم يتغير، بل ازداد واشتد من أمريكا ترامب، إلى أمريكا بايدن الذي أصبح، أكثر شدة وحزما في التعامل مع التهديد الصيني من سلفه.. أمريكا وكي تحول الأقوال إلى أفعال، وفي تزامن، بعد ذلك لما قامت به في أفغانستان والعراق؛ تتابعت خطواتها اللاحقة لإنضاج الظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية، من خلال خلط الأوراق في الواقع لخلق مساحات للتداخل والتعقيد والاضطراب والفوضى، أي إنتاج فوضى خلاقة، وهي في حقيقتها ونواياها وغاياتها؛ فوضى غير خلاقة، بل فوضى اشتباكات ليس فيها بوصلة للأهداف الوطنية، إنما هدفها تحطيم كيانات الدول، وجعل الناس في خضمها تنزف دما، لذا، قامت وتقوم إلى الآن؛ بتأجيج الصراعات في المنطقة العربية. الهدف من هذا كله؛ في نهاية المطاف إنتاج أنظمة موالية لها، تمشي أو تُسيّر السياسة والاقتصاد والتجارة، وما إلى ذلك من شروط، على شكل صورتها، أي استنساخ نظامها الرأسمالي بجميع جوانبه وشروطه، في الحقل الاقتصادي والتجاري والسياسي والديمقراطي، ولو بديمقراطية صورية، لكنها من الجانب الثاني خسرت الكثير، فهذه العمليات دفعتها مراحل عدة عن موقع الريادة في العالم، بظهور منافسين كبيرين على الساحة الدولية، هما الصين وروسيا، وتحديدا الصين، لهما القدرة والإمكانية على مواجهتها والحد من سياستها هذه، ولو بعد سنوات، والمرجو أن لا تتجاوز الأمد المتوسط من الآن.. هذا لا يعني عدم وجود بعض المحطات تتلاقى فيها مصالح الدول العظمى الثلاث، بل إن الواقع يؤكد وجودها، ولو بصورة محدودة وجزئية، بالشكل الذي لا يجعل التنافس والصراع بينها يتراجع، بل يزداد ويشتد مع الزمن.
سياسة أمريكا الحالية تتمحور في العمل المخابراتي، وتجنيد العملاء، وفي حروب الاقتصاد، والهيمنة على دول العالم الثالث، عبر لغة ناعمة
أمريكا لها في العالم أكثر من 800 قاعدة انتشار عسكري؛ مهامها هي تقويض سيادة الدول التي لا تنسجم سياساتها مع السياسة الأمريكية، وإفقار شعوبها من خلال العقوبات الاقتصادية؛ تخليقا لبيئة سياسية، تتكفل بمجيء نظام موال لها (بعد خراب البصرة.. حسب الوصف العراقي الاستعاري؛ لدمار الحال والأحوال) ولسياستها الدولية. أمريكا بايدن، أو أي إدارة أمريكية ستأتي بعدها؛ ستعمل على تقويض سيادة الدول في المنطقة العربية، وفي الجوار العربي وفي العالم الثالث؛ تحت ستار أو فرية حقوق الإنسان، ونشر الديمقراطية والحرية، بينما الواقع الذي تعمل على إنتاجه، أو الأصح عملت على إنتاجه؛ يختلف كليا عن هذه الطروحات المخادعة. سياسة الولايات المتحدة هذه، مع هذا السعي المحموم، لم تنجح حتى اللحظة، وأقصد هنا، الوصول إلى الخاتمة؛ للتغييرات الحاسمة في العالم، التي أنتجتها تحولات العالم الكبرى، والتي سينتج عنها تغييرات حاسمة وجدية أكثر مما هي عليه الآن؛ السياسة الأمريكية، ستعاني في التطبيق صعوبة بالغة، إن لم أقل سوف يكون مصيرها الفشل، الذي هو في حكم المؤكد، ولو بعد مخاضات عسيرة جدا. أمريكا لم تعد كما كانت قبل أكثر من عقدين من الآن، والعالم لم يعد هو العالم ذاته، قبل أكثر من عقدين من الآن، عندما قدمت الدراسة المشار إليها سابقا، وبالذات خلال العقد الأخير، أي العقد الثاني من هذا القرن، جرى الكثير من التغييرات والتحولات في العالم، وفي منطقتنا العربية وفي جوارها؛ بالضد من المشروع الأمريكي الذي إلى الآن لم تسدل أمريكا الستار عليه. فقط غيرت منهج بلوغه، أي اتباع الدبلوماسية، وبمعنى أكثر وضوحا ودقة في توصيف واقع وحقيقة السياسة الأمريكية الحالية في المعمورة؛ اتباع سياسة تتمحور في العمل المخابراتي، وتجنيد العملاء، وفي حروب الاقتصاد، وإقامة التحالفات والشراكات مع الدول الكبرى والمتوسطة، وفي الهيمنة على دول العالم الثالث، وفي مقدمتها الأوطان العربية، عبر لغة ناعمة، أو خشنة ليس من بينها استخدام القوة، إنما سلاح الاقتصاد والمخابرات والدبلوماسية والسياسة والأذرع المحلية والتطويق.. أما الغاية من هذا؛ فهو جعل الأنظمة العربية، تسير في فلك السياسة الأمريكية، وفي ميادين تحركات وجهها الآخر، الكيان الإسرائيلي، وهذا لا يتم الا بإعادة تشكيل الأنظمة العربية على جغرافية تجري صياغتها من جديد، ليست على طريقة سايكس بيكو، فهذه الطريقة تجاوزها التاريخ، بل على طريقة تلائم الوضع العالمي الحالي؛ أي الفدرلة التي هي أقرب إلى الكونفدرالية للبعض، أو الكون فدرالية الصرفة للبعض الآخر، أو إعادة تقسيم الموحد إلى ما كان عليه قبل التوحيد (العراق واليمن وسوريا والسودان وليبيا) بنظام ديمقراطي صوري يحمل في أحشائه الضد النوعي الذي يعمل في الوقت نفسه على بقائه واستدامته على صورته في عملية ديمقراطية متفردة، بدستور مفخخ للبعض، وبدساتير شبيهة أخرى للبعض الآخر، ربما يجري الإعداد لها، أي للدساتير الأخيرة، وراء جدران الحدود، واقتصاد رأسمالي استهلاكي بقيادة طبقة كمبرادورية ترتبط وجوديا في السياسة والتجارة مع الراعي الدولي والإقليمي. هذا يعني إحكام السيطرة على الأوطان العربية كما تخطط أمريكا والكيان الإسرائيلي، كجزء مهم جدا من خريطة الطريق الأمريكية لإقامة امبراطورية كونية إمبريالية أمريكية، أي جعل هذا القرن قرنا أمريكيا. من الأمثلة على ذلك ما يجري في تونس وفي السودان وفي لبنان، وما جرى في السابق، أي قبل عدة سنوات في مصر. وما هو جار في العراق وسوريا وفي اليمن وفي ليبيا، بطرق وأساليب مختلفة، لكنها في الوقت ذاته؛ تقع في عين الخانة وفي الإطار ذاته. وحتى في فلسطين ما يجري من عمليات شق الصف الفلسطيني، وجعل السلطة الفلسطينية حارسا لأمن المستوطنات والمستوطنين.. لا يخرج عن هذه الأهداف والغايات بعيدة المدى. هذا التوجه لا ينحصر في السياسة الأمريكية الإسرائيلية فقط، بل هناك قوى دولية وإقليمية اخرى في الجوار العربي، روسيا مثلا، وغيرها في الفضاءات الدولية وفي الفضاء الإقليمي، لناحية تلاقي مصالحها تكتيكيا مع بعض جوانب المخطط الأمريكي، التي تفضي إلى المقايضات والتفاهمات على المنافع التبادلية، وإن اختلفت وتقاطعت وتنافست الاستراتيجيات لمصالح هذه الدول في المنطقة العربية مع الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية.
يبقى السؤال المهم هنا؛ لماذا كل هذا الذي جرى ويجري من خراب ودمار؟ الاجابة باختصار؛ للسيطرة على الثروات وفتح الأسواق، وهذا لا يتحقق إلا بوجود أنظمة تابعة، اضافة إلى حرمان الخصوم، بحدود مرسومة، أي ترك هامش للمناورة للخصوم والأنظمة، كي تصبح الأمور والأوضاع مسيطرا عليها، وغير قابلة للانفلات؛ من الوصول إلى الثروات والأسواق. وبالتالي وبالنتيجة؛ حرمان الخصوم من فرص التطور والتفوق. من المؤكد أن كل هذا جرى ويجري على حساب مصالح الشعوب. إنما من المهم القول هنا؛ إن الأمور بخواتمها. وأن خواتم الأمور ستكون لصالح الشعوب، وهذا هو ما يخبرنا به التاريخ، وإن تلبدت السماء بغيوم المؤامرات، وكثرت دروب الانحرافات على أرض فيها العديد من المطبات والحفر المملوءة بالمياه الأمريكية الإسرائيلية الآسنة.
كاتب عراقي