الرباط ـ «القدس العربي»: أول ما يميز الفنان المسرحي المغربي سعيد بهادي، هو الهدوء الذي يطبع اشتغاله على كل أعماله، كما هو الحال بالنسبة ليومياته، نادرا ما تجده غاضبا أو قلقا، يسير وفق الفكرة ووفق المتاح في الحياة، شريكته في الفن والعيش هي زوجته الفنانة ضحى الأزمي، كلاهما ميزتهما في السير بتروٍّ ومراكمة العطاء الفعّال الذي يخلف الصدى الطيب.
خلال استضافته من طرف «القدس العربي» كانت الجولة معه ممتعة في أرجاء الإبداع، كما كان الهم الحياتي حاضرا من خلال ما ترسخ في ذاكرة الفنان المغربي خلال فترة الإغلاق والحجر الصحي والبحث عن بدائل غير الفن.
الفنان سعيد بهادي مغامر أيضا، فقد ترك وظيفته قبل سنوات عديدة في مؤسسة المسرح الوطني محمد الخامس، وتبع رغبته في تشكيل رؤية فنية مغايرة لما هو معتاد، لكنه عاد محملا بالكثير من الآمال وأيضا بعض العثرات التي استفاد منها وصنع لنفسه مكانا في المشهد المسرحي المغربي.
في هذا الحوار، نستمع لنبضه الإبداعي والحياتي، كما نعيش معه في أحلامه ونستطلع الواقع من خلال رؤيته للمشهد الفني المغربي، خاصة المقبل منه.
□ بداية نسألك عن الغياب مسرحيا إن صح التعبير، فهل لذلك علاقة بتداعيات جائحة فيروس كورونا، أم أن الأمر يتعلق بظروف العمل؟
■ أنا كباقي الفنانين أعيش آثار الجائحة التي لم تستثن قطاعا مهنيا أو شريحة اجتماعية عبر العالم. حيث أصبحنا نعيش أوقاتا صعبة، تحت رحمة «عند الإشارة تكون الساعة… إما حجر كلي أو جزئي». وخصوصا الليلي حيث تعودنا على الاحتفاء بالفنان المغربي من خلال العروض المسائية. والآن الكل ما يزال يعيش تداعياتها سواء المباشرة منها أو غير المباشرة. فالجائحة أثرت بشكل سلبي على الإنتاج البشري عامة، خصوصا مهنة المسرح التي تعتمد على العمل الجماعي. ويمكن تلخيص هذا في اللقاء المباشر مع الجمهور، الذي هو عماد العرض المسرحي والفعل الثقافي. فقد كان مستحيلا في بداية انتشار وباء كورونا. رغم أنه في الآونة الأخيرة أصبح متاحا تبعا للتدابير الاحترازية المعمول بها.
أنا من الجيل الذي حمل الحلم وسقط عليه ثقله
□ كواحد من الممارسين للمسرح مند عقود خلت، وراكمت تجربة مهمة في المجال، هل كانت البدايات شبيهة بواقع الحال اليوم، وهل تحقق ما كنت تحلم به فنيا؟
■ يجب التذكير بأن الممارسة المسرحية في بلادنا تتبع السياق العام لواقع الفعل الثقافي ومكوناته. وهذا هو القاسم المشترك بين الأمس واليوم، فبالإضافة إلى المبادرة الشخصية للفنان المغربي والمغامرة بل أحيانا المخاطرة. فمتى أفسح أمامه المجال من طرف الفاعلين وعلى الخصوص المؤسسة العمومية، ولاقت مبادراته تجاوبا لإنجازها وإخراجها لحيز الوجود، يكون الفنان حاضرا في الساحة. بل نجد الفنان ملبيا بتلقائية لكل نداء شأنه في ذلك شأن المغاربة الأحرار الذين ساهموا في الملاحم الوطنية. ويمكن الملاحظة كذلك بأنه فعلا الممارسة المسرحية حققت طفرات متتالية، مع البنيات التحتية التي تم إنجازها على علاتها. ويجب التركيز في هذا الإطار على الآثار الإيجابية لإقبال المواهب الشابة منذ عقود على التكوين والتكوين المستمر والتخصص في المجال، مستفيدة من مؤسسات التكوين الأكاديمي وشبه الأكاديمي، من خلال المعهد العالي للفن المسرحي وغيره من المعاهد المحلية؛ ومستفيدة كذلك من تجارب رواد هذا الفن الذين أعتبرهم شخصيا مدارس أغنت تجاربنا معارفنا ومغامراتنا الفنية. كل هذا أعطى ثماره ويتجلى في الأعمال المسرحية التي نراها اليوم على الخشبة.
فيما يخصني، ما زلت أطمح للأفضل؛ شأني في ذلك شأن الفنانين الذين ينحتون أسماءهم ببطء في الإنتاج الخارج عن الإرادة لكن بالإصرار على مواصلة العطاء، خصوصا وأنني من الجيل الذي حمل الحلم وسقط عليه ثقله وظله.
أريد فقط التذكير بأني خريج الدفعة الأولى للمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، الذي كان له الفضل في مدنا بما يلزم من مواد التكوين الأكاديمي سواء النظري أو التطبيقي. وأنا أعتز بالانتماء لهذه المؤسسة التي تعرف مراحل تطور لافت للانتباه عبر السنين.
بالمناسبة، أتوجه بتحية تقدير وإجلال لكل الأطر (الكوادر) الإدارية والبيداغوجية التي سهرت على تربيتنا على طقوس الممارسة المسرحية المحترفة. كما يجب على الوزارة الوصية على هذه المؤسسات أن توسع نظرتها، وأن تمنحها كل فرص تطوير برامج التكوين ومصاحبتها بكل دعم، حتى يمكنها مواكبة متطلبات التكوين الاحترافي الذي يعرف تشعبا في تخصصات جديدة لصناعة العمل الفني في عالم اليوم.
تأثير الجائحة
□ من بين الانتقادات الموجهة للمشهد الفني المغربي، أن الجائحة كشفت أعطابه وما يعانيه الفنان المغربي من أزمات متتالية على المستوى الاجتماعي بشكل أساسي، ما هو رأيك في ذلك، وهل بالفعل يعيش الفنان أوضاعا صعبة؟
■ الخدمة التي قدمتها الجائحة على مستوى المشهد الفني هي أنها جعلت كل ما هو زيف يتلاشى. وأصبحت كل مناحي حياتنا جلية على حقيقتها ولو نسبيا. والثابت هنا هو الأوضاع الاجتماعية للفنان المغربي التي زادت سوءا، بحيث توقفت عقارب الساعة ودخل الفنانون في النفق المسدود؛ لاسيما وأن الدولة والمجتمع صبّ كل اهتمامه على الجانب الوبائي والصحة العامة. علما أنه في فترة الحجر الكلي بل وبعده بفترة ظلت منجزات الفنان المغربي بكل أشكال إبداعاته هي الملاذ. ولم تستطع الوسائط التكنولوجية في نظري رغم تطورها أن تأخذ مكان العرض الحي ولن يحصل ذلك يوما.
ودون الدخول في التفاصيل، فإن أوجاع الممارسة الفنية وبالأخص المسرح قديمة قدم المسرحيين. وقد آن الأوان لإعادة الاعتبار للفنان المغربي.
فعلا لا يمكن أن نتجاهل الجهود المبذولة سواء من طرف المهنيين أنفسهم الذين ناضلوا وقدموا تضحيات من خلال تنظيمات تمثيلية لهم ولحقوقهم، سواء كذلك من طرف الدولة والجهاز الوصي على القطاع وكذلك المؤسسات الموكول لها مهام تشجيع العمل الفني، إنتاجا وترويجا. أذكر على سبيل المثال مسرح محمد الخامس الذي لا تذخر إدارته جهدا في ذلك، مع التأكيد أن المسرح المغربي عرف انتعاشة لا يستهان بها. إلا أن هذه الجهود لا تتجاوز مرحلة الدغدغة وتضميد جراح الفنانين، ولا تعالج القضايا المطروحة بشكل كافٍ.
لابد من إعادة النظر في المنظومة الفنية والثقافية بشكل عام واستعجالي، لإيجاد مخرجات تثمن تلك الجهود، بالحفاظ على المكتسبات وتعزيز دور الفنان في الحياة اليومية للمواطن المغربي، وتمكينه من الاستفادة من عراقة تاريخ المغرب وجغرافيته وتنوعه الثقافي وتراثه المادي واللامادي وخصوصا خصوبة الساحة الثقافية ووفرة الطاقات الإبداعية والشباب الطموح لمعانقة الحلم الفني المنشود.
تميز الفنان المغربي
□ بصراحة، هل تمكن المسرح المغربي من أن يحقق ولو جزء يسير مما كان يطمح إليه أهله من الرواد والجيل الذي تلاهم وحاليا الجيل الجديد؟
■ تتمة لما سبق ذكره، يمكن أن أقول وبصراحة لا أرضى للمسرح المغربي والفنان المغربي أقل من درجة التميز، بحيث يجب التعامل مع قضاياه بما تقتضيه من حزم، وأخذها على محمل الجد. وفي حالة دعمه يجب دعمه بكل سخاء. على اعتبار أنه أهل لكل عناية واحتفاء بكل استحقاق، وقد برهن المبدع المغربي على ذلك بفخر واعتزاز على مر السنين.
الأكيد أن ما تحقق هو على درجة من الأهمية، لكن ما زال الكثير من العمل. كما يتعين فتح المجال واسعا أمام كل مبادرات التعبير الفني والمسرحي لاحتضان المواهب الصاعدة من الناشئة حتى نضمن استمرارية سليمة وتطورا في الممارسة، عوض أن نتأسف على فقدان اسم وانعدام الخلف.
الرواد تركوا بصماتهم رغم كل العقبات، ومن بعدهم الجيل الموالي الذي تابع تحدي الصعاب باجتهاد ومثابرة. إلا أن الجيل الحالي يقع على عاتقه ثقل المهمة. ألا وهي من جهة الحفاظ على المكتسبات ومواجهة كل ما جد واستجد من تحديات العصر؛ إذ يطمح إلى تحقيق الحلم الموروث وحلم جيله، وأن يكون في مستوى تطلعات الجمهور المغربي والعالمي على السواء، وهذه هي المعادلة الصعبة، من أجل بلوغ هذه الأهداف مجتمعة. على الفنانين الشباب أن يضاعفوا جهودهم، وأن يتحملوا ضعف إرادة السياسيين وبطء أداء الفاعلين الثقافيين الأساسيين منهم وغيرهم، وعلى رأسهم المؤسسات التابعة للدولة. مع الإشارة إلى أن السياسات الثقافية سواء على المستوى المركزي أو الجهوي تبقى باهتة المعالم، وأحيانا معدومة المخططات الاستراتيجية.
بإيجاز يمكن القول إن طموح الفنانين والجمهور المغربي هو أن يكون للمسرح موسم يمتد على مدار السنة، غني بالتنوع والجدية إنتاجا وترويجا للأعمال وتعميم البرامج على التراب الوطني بتوفير كل البنيات التحتية اللازمة وإيفاد والموارد البشرية المتوفرة اليوم لتدبير الشأن الثقافي والفني في المراكز المعنية بفنون العرض؛ وهي التي برهنت على قدرتها المهنية والاحترافية على أكثر من صعيد مما يبعث على الفخر.
□ هناك انتقادات أيضا توجه بشكل مباشر للفنان المغربي، وتتهمه بالبعد عن يوميات المغاربة في إبداعاته، حيث أنه لا يجسد تلك الحالات الأكثر قربا من المواطن، لذلك يقال إن عزوف الجمهور عن ارتياد المسارح هو لهذا السبب؟
■ لا جدال في أن الجمهور هو من يساهم في تطوير الممارسة الفنية، وذلك بحضوره ونقده وعزوفه عن المسرح متى شاء، لكن للفنان فسحة اختيار مواضيع اشتغاله وهذا جزء من حريته في الإبداع.
ففعل الإبداع يكون باقتراح من المبدع، ولا يكون صادقا في إبداعه حين يشتغل على أساس طلبية بحتة. إذ أن عمله ينبني أساسا على قناعاته الشخصية ونظرته للمجتمع الذي يعيش فيه. وفي رأيي المتواضع، الفنان يبدع أعمالا بمواقف إنسانية وكونية، كما يشتغل على ما وجد فيه ضالته من المواضيع والمواقف التي ربما قد يجد فيها الجمهور تطابقا لواقعه، هذا وارد وليس شرطا. في كل الأحوال كل ما ينتج عنه له وقع في نفوس الجماهير، وما يقابله من تجاوب وجداني وفكري، ويحقق غاية التطهير (كاثارسيس) فهو إبداع.
□ على الصعيد المهني دائما، هل من جديد تعود به إلى الخشبة كمخرج أو ربما كممثل؟
■ لا أخفيك سرا أنني المشرف الفني لفرقة مسارات للإبداع الفني والثقافي، إحدى الفرق التي تعاني من بطء وثيرة إنتاج أعمالها. وهذا راجع بالأساس لانعدام الإمكانيات المادية على مستوى الفرقة التي تعتمد على إمكانياتها الذاتية كما هو الشأن لغالبية الفرق المحترفة. وإن توفرت عن طريق التباري في إطار برنامج الدعم الذي تقدمه الوزارة الوصية، فالمبلغ الهزيل لسوء الحظ، يخصص للنفقات المتعلقة بالإنتاج إلى حدود تقديم العرض الأول. وفي حال حصول الفرقة على منحة لترويج العروض، فالأمر لا يتعدى ثلاثة عروض أو أربعة عروض مدفوعة الأجر على الأكثر.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار هزالة مداخيل العروض والعوامل الخاصة بظروف العرض في الفضاءات ومواقعها بالنسبة للمدار الحضري، وصعوبة التسويق، تكون النتيجة أن الفرقة لا تستطيع توفير الرصيد المادي الضروري للاستمرار؛ علما أننا نحاول دائما التغلب على هذه المعضلة بالإجراءات اللازمة، لكننا لا نقبل أن يكون الأمر على حساب جودة العرض أو أجور الفنانين المشاركين. على العكس تجد الفرقة نفسها بعد جولاتها على قلتها تراكم العجز في مواردها. وللجواب على سؤالك، نعم فالفرقة تتوفر على عملين جاهزين للعرض، أحدهما لجمهور البالغين والآخر فرجة لفائدة الأطفال. كما أننا أعددنا مشروعين جاهزين للإنتاج متى توفرت الإمكانيات. ومهمة الإخراج والسينوغرافيا سيكونان من توقيعي. كل ما أتمنى هو أن يكون لفرقتنا حظ أوفر من ذي قبل في الحصول على موارد تمكنها من إنجاز المشروعين. ونحن بصدد البحث عن شركاء، إذ هناك وعود بالتعاون مع الفرقة. ونرجو أن يكون تجاوبهم إيجابيا وسخيا بما فيه الكفاية.
□ أنت فنان وزوجتك ضحى الأزمي أيضا من الفنانات المغربيات المتميزات، كيف هي هذه الشراكة في الحياة والإبداع؟
■ لن أقول إن المسألة يسيرة على صعيد تدبير تداخل مطبات المهنة وأمور الحياة التي تزداد تعقيدا، خصوصا في الظروف التي نعيشها اليوم.
ولو أن وجود الفنانة الرائعة والصبورة ضحى أزمي كشريكة في كل هذا، أعتبره نعمة ربانية أحمد الله عليها. لقد كانت زميلتي خلال التكوين، واستمرت رفقتنا لنجتمع تحت سقف واحد لنكون أسرة بنصيب من النجاح. لكن يبقى الحلم الفني مطبوعا تارة بالتألق وتارة أخرى بخيبة الأمل. بحيث راكمنا نحن الإثنين تجربة مهنية لا بأس بها، كان من الممكن أن تعرف مسارا أفضل. إلا أننا نجد نفسينا نبدأ من نقطة الانطلاق من حيث فتح قنوات الاشتغال، والبحث عن جهات للتعاون معها لتخرج أعمالنا لحيز الوجود. كما أننا نصطدم بواقع يقسو علينا كل يوم درجة.
نداء للارتقاء بأوضاع الفن
لست أشتكي لكني أعيش نصيبي من الوضع الاعتباري للفن في وطننا العزيز. مما يملي على كل غيور وذي قوة وسبيل أن يقوم بواجبه ما استطاع كل من موقعه. هذا نداء قصد الارتقاء بأوضاع الفن للدرجة التي تليق بالمغرب الوطن الكبير الذي يتسع للجميع، والغني بأهله وتراثه الثقافي وتنوع مكونات مجتمعه. ويليق كذلك بالفنان المغربي، كما سيتم إعفاؤه من إهدار طاقاته الإبداعية في معالجة إشكاليات واقع الممارسة عوض أن يتفرغ للإبداع. هذه المهمة التي خلق الفنان من أجلها. وربما الصعوبات التي نعاني منها كشريكين تجعلنا نتعلق أكثر بالمسرح ونصر أكثر على تدبير أمورنا بحلوها ومرها، وإحباطاتنا أحيانا بجليلها ويسيرها. بل نجد لذة في تدبير اختلافنا فكرة ونظرة لبعض المسائل الإبداعية. مما يمدنا بطاقة إيجابية للاستمرار.