الخرطوم ـ «القدس العربي»: الوضع لم يعد آمناً في العاصمة السودانية الخرطوم، التي بدت، الخميس، خالية إلا من بعض المارة والقليل من السيارات، وبقايا متاريس وإطارات محروقة خلّفتها تظاهرات الأربعاء الدامية، التي قتل وجرح واعتقل خلالها العشرات، وسط دعوات للتصعيد من قبل تجمع المهنيين ولجان المقاومة.
وأصدرت محكمة الخرطوم الجزئية، أمس، أمراً بالقبض على المديرين التنفيذيين لشركات الاتصال في السودان، إلى حين إعادتهم خدمة الإنترنت المقطوعة منذ الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول، لكافة المشتركين، في وقت عادت خدمات الإنترنت بشكل جزئي، لبعض شبكات الاتصال.
وكانت خدمة الإنترنت قد قطعت بشكل تام أول أمس الأربعاء، للتغطية، على ما يبدو، على أعنف حملة أمنية على المتظاهرين المطالبين بعودة الحكومة المدنية منذ بداية الانقلاب.
وقالت طبيبة في المستشفى الدولي في بحري، فضلت حجب اسمها، لـ«القدس العربي» إن «أغلب الإصابات التي وصلتنا في المستشفى، بينها 25 إصابة مباشرة بالرصاص في الرأس والصدر والبطن والأطراف، استشهد منهم 7 ».
وأضافت: «طوقت القوات الأمنية المستشفى وأطلقت القنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع داخل المباني» وأشارت إلى أن «الوضع في المستشفى اليوم مستقر وأنهم استطاعوا أن يتعاملوا مع المصابين».
وحسب لجنة أطباء السودان المركزية، وصل عدد القتلى إلى 15 شخصاً، بينما أصيب العشرات. ونددت اللجنة، في بيان فجر الخميس، بمحاولات مداهمة المستشفيات من قبل الأجهزة الأمنية ومحاصرتها، ومنع المصابين من الوصول إليها. وبذلك بلغ عدد القتلى في الاحتجاجات التي اندلعت منذ الانقلاب 39 شخصاً.
استغاثة
وأطلق المكتب الموحد لأطباء السودان نداء استغاثة للمجتمع الدولي ولجنة الصليب الأحمر الدولية للتدخل الفوري، مؤكداً وصول أكثر من 80 جريحاً للمستشفيات في الخرطوم، عدد كبير بينهم مصاب بشكل خطير.
وقال في بيان الأربعاء، إن الأجهزة الأمنية هاجمت المستشفيات، ونتيجة للعنف المفرط هناك نقص حاد في العاملين في المجال الطبي خاصة في مدينة بحري، شمالي العاصمة الخرطوم، فضلاً عن النقص الحاد في الدم والسوائل الوريدية ومواد التخدير وغيرها من أدوية الطوارئ.
«ملحمة شعبية»
في الأثناء، وصف «تجمع المهنيين» تظاهرات الأربعاء، بـ«الملحمة الشعبية والمذبحة مكتملة الأركان» وقال إن «ما حدث يؤكد على سلامة شعارات المقاومة ولاءاتها الثلاث «لا شراكة، لا تفاوض، لا شرعية» مؤكدا «مواصلة المقاومة والتصعيد السلمي حتى انهيار الانقلاب كآخر سلطة قمعية تحول بين السودانيين وآفاق الحرية والعيش الكريم».
وأضاف «العنف المفرط للانقلابيين ليس سوى خبطات من استبد به الذعر، ومحاولة لجر الشارع للتخلي عن سلميته لتوفير مبرر لسيادة العنف».
وندد كذلك بـ«إيقاف الاتصالات والإنترنت وإغلاق الطرق الذي جعل الاستجابة للطوارئ الصحية مستحيلة».
كذلك وصفت وزيرة الخارجية في الحكومة المقالة، والقيادية في قوى «الحرية والتغيير» مريم الصادق المهدي ما حدث بـ«الجرم الذي لا يمكن أن يغفله إلا المتواطئين».
وقالت في صفحتها على فيسبوك إن «ما حدث الأربعاء ـ مع سبق الإصرار والترصد ـ لا يمكن إغفاله أو تجاهله أو الصمت عليه، إلا ونكون متواطئين في الجرم».
وأضافت: «لقد سقط الانقلاب يوم 17 نوفمبر. سقط بكافة المقاييس: بدأ ساقطا سياسيا ودستوريا، وسقط وطنيا باختيار توقيت الانقلاب الذي أضاع على السودان خيرات جمة موعد تنفيذها نوفمبر. وبالأمس (الأربعاء) سقط أخلاقيا وإنسانيا بإطلاق وحوش بشرية كاسرة متعطشة للدماء والترويع».
«لن نؤجل المعركة»
وفي تصعيد جديد، أعلنت لجان مقاومة مدينة بحري شمالي العاصمة الخرطوم، إغلاق المدينة بشكل كامل، ووضع المتاريس (الحواجز) في كل الشوارع «حدادا على شهداء مجزرة الأربعاء».
وقالت في بيان: «قدرنا أننا الجيل الذي سيدفع تكلفة نهاية الانقلابات العسكرية ولن نؤجل هذه المعركة مهما كان الثمن ولن نتراجع».
وأضافت: «سنواصل في الطريق الذي اختاره الشهداء لخلاص هذا الوطن وإسقاط نظام القهر والديكتاتورية وتحقيق القصاص لرفاق النضال».
عضو تنسيقيات لجان مقاومة بحري، عبد الغفار محمد، قال لـ«القدس العربي» إن مدينة بحري «شهدت مجزرة حقيقية في تظاهرات الأربعاء، وإنهم بعد ما حدث أصبحوا أكثر تمسكا بإسقاط السلطة الانقلابية التي تقتل وتقمع السودانيين».
وحسبه فقد «بدأت القوات الأمنية التي كانت منتشرة بشكل كثيف، بإطلاق الغاز المسيل للدموع في شوارع بحري، قبل بدء التظاهرات، وبعدها بدأت تطلق الرصاص في الهواء بشكل عشوائي، ثم عندما بدأ المتظاهرون في التجمع أصبحوا يطلقون الرصاص مباشرة عليهم».
وزاد: «كان القناصة متمركزين في مبنى شرطة النظام العام في منطقة المؤسسة، وسط مدينة بحري، سقط رفاقنا أمامنا، وكذلك من يحاولون إسعافهم، سقط العشرات أمامي قتلى وجرحى بالرصاص، رجالا ونساء، وقتل صاحب أحد المحال التجارية لأنه أخفى بعض المتظاهرين عنده. لقد أطلقوا الرصاص على محله مباشرة».
وتابع: «لم يكن إسعاف الجرحى سهلاً، بعضهم اسعفناها داخل البيوت، ونجحنا في إيصال آخرين لمستشفى البراحة والمستشفى الدولي في بحري».
وأكمل «رأينا الدماء والموت كما لم نره من قبل، لقد كان الوضع في غاية الفظاعة في بحري، حتى القلة التي كانت تدعو للعودة للتفاوض، بعد ما حدث شكلت موقفا رافضا تماما. لن يستطيع سوداني الشعور بالأمان في ظل وجود هؤلاء العسكريين في السلطة، سنواصل النضال بالأساليب السلمية، مهما كلفنا ذلك من شهداء، هذه ضريبة الوطن ونحن مستعدون لدفعها».
الشرطة اشتكت من «عنف غير مبرر تجاه عناصرها» ووزارة الإعلام اتهمتها بـ«الكذب»
وقال عضو تنسيقية لجان مقاومة جنوب الحزام، جنوب الخرطوم، أدم يحيى، لـ«القدس العربي» «بدا واضحا أن القوات الأمنية خرجت الأربعاء لتقتل المتظاهرين، لا لمنعهم من التظاهر».
وأضاف: «قررنا في لجان مقاومة جنوب الحزام، التحرك بشكل فردي من أحياء جنوب الحزام وصولا لمحطة 7، جنوب الخرطوم، وكنا نشاهد القوات الأمنية المرتكزة في كل الشوارع، والتي يبدو أنها كانت تتوقع أننا سنحرك تظاهرة من جنوب الحزام».
وتابع «بعضنا ذهب لشارع الستين شرق الخرطوم، والبعض الآخر لمحطة سبعة جنوب الخرطوم، حيث التقينا بلجان أحياء جبرة والعشرة والصحافة، الذين قرروا أن يبدأوا التجمع والتظاهر من داخل أحيائهم».
دولة مدنية ديمقراطية
وحسب عضو تنسيقية جنوب الحزام، فقد هاجمت القوات الأمنية المتظاهرين القادمين من جبرة والعشرة والصحافة داخل أحيائهم بالرصاص الحي والقنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع والذي أخّر وصولهم إلى نقطة التجمع.
وشدد يحيى على سعيهم لـ«بناء دولة مدنية ديمقراطية» وأنهم «متمسكون بأدوات المقاومة السلمية ومؤمنون بالمسرح والفنون الأخرى، ويعلمون أن طريقهم لن يكون سهلا».
ولفت إلى أن «السلطات لم تكتف بقطع الاتصالات، وإنما قطعت الكهرباء عن المنطقة المحيطة بنقطة التجمع في محطة 7، وواصلت إطلاق الأعيرة النارية والغاز المسيل للدموع، ليس على المتظاهرين فقط، إنما داخل البيوت وكانوا يعتقلون العشرات بشكل عشوائي، بعضهم كانوا مارة في الشارع، وأوقفت سيارات واعتقل من فيها لمجرد أن بعضهم كان يضع أعلاما داخل سياراتهم».
«عائد عائد يا حمدوك»
لم يختلف المشهد كثيرا في شارع الستين، شرق الخرطوم، حيث ظل المتظاهرون يتجمعون كلما فرقتهم الأجهزة الأمنية، في وقت أغلقوا الشارع الرئيسي والشوارع الفرعية بالمتاريس (الحواجز).
وبدت الأجهزة الأمنية أكثر حدة في مواجهة المتظاهرين هناك، حيث شهدت الاحتجاجات إطلاقاً للرصاص الحي، بشكل أكبر من المرات السابقة، وأيضا الغاز المسيل للدموع بشكل كثيف، حسب مشاهدات مراسلة «القدس العربي».
ولاحقت سيارات وكوادر الأجهزة الأمنية المحتجين في الشوارع الرئيسية والفرعية، المجاورة لـشارع الستين، واعتقلت العشرات منهم، كما استخدمت العصي والهراوات لضربهم. أما المحتجون فقد واصلوا التجمع وهتفوا منددين بانقلاب قائد الجيش، مطالبين بعودة المدنية ورئيس الوزراء المقال، عبد الله حمدوك، وكانت أبرز هتافاتهم «يسقط يسقط حكم العسكر» « البلد دي حقتنا ومدنية حكومتنا» «عائد عائد يا حمدوك» « بالذوق بالقوة راجع يا حمدوك» وغيرها من الهتافات.
وكان الهتاف الأبرز والأكثر حداثة «تجيب نيكولا، تجيب عقار، حتمشي حتمشي يا برهان» في إشارة لرجاء نيكولا ومالك عقار، اللذين كانا أعضاء في المجلس السيادي الشرعي، ثم قبلا الانضمام للمجلس السيادي الجديد الذي كونه البرهان في الحادي عشر من الشهر الجاري.
وأيضا حمل المتظاهرون لافتات تطالب بإطلاق سراح كل المعتقلين وإعادة السلطة للمدنيين ومحاكمة المتورطين في الانقلاب وفي فض اعتصام القيادة العامة.
يشار إلى أن المجلس العسكري فضّ اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة في حزيران / يونيو 2019، مما خلف عشرات القتلى ومئات الجرحى والمفقودين.
فضلا عن التظاهرات، نفذت لجان المقاومة الأربعاء اعتصامين في منطقة بري وسط الخرطوم في شارع «الشهيد عبد العظيم» في أمدرمان.
وقال عضو تنسيقيات لجان مقاومة بري، منذر محمد، لـ«القدس العربي» إنهم نفذوا اعتصاماً ليوم واحد بنجاح، في شارع المعرض، وسط بري، وإنهم اعتمدوا على إقامته في منطقة غير مكشوفة في قلب أحياء بري، وأيضا قاموا بوضع المتاريس وحفر مجار كبيرة لمنع أي سيارة من العبور إلى داخل بري وإن القوات الأمنية لم تستطع الوصول لأرض الاعتصام.
ولفت إلى أنهم سيواصلون الاعتصامات القصيرة تمهيدا للتصعيد باعتصامات أطول، مشيرا إلى أن الاعتصامات مهمة لإمكانية قيام منصات مخاطبة وتوحيد للمواقف وللجهود بين الثوار وصولا لمواصلة الضغط السلمي وإسقاط الانقلاب.
أما اعتصام أمدرمان، في شارع الشهيد «عبد العظيم» الذي دعت له تنسيقيات لجان المقاومة هناك، فلم يصمد طويلا بسبب إطلاق القوات الأمنية الرصاص الحي على المعتصمين، وسقوط قتلى وجرحى، لكن المحتجين استمروا في التجمع ما بين كرّ وفرّ.
ودعت تنسيقيات لجان مقاومة إمدرمان، في بيان مساء الأربعاء، كل مؤسسات الشعب السوداني في الخارج لتنكيس العلم حدادا على أرواح الضحايا.
وفي مواجهة ارتفاع وتيرة القمع، اتبعت لجان المقاومة السودانية أساليب جديدة الأربعاء، حيث دعت كل من المدن الثلاث في العاصمة الخرطوم، لشكل مختلف من أشكال الاحتجاج، وأعادت تغيير مكان وزمان التجمع عدة مرات.
في المقابل، انتشرت القوات الأمنية بشكل كثيف، وقطعت السلطات السودانية خدمات الاتصال عن كل الشبكات، فضلا عن قطع خدمات الإنترنت للموبايل، قطعت الإنترنت الأرضي الذي تعمل به المؤسسات والبنوك وأغلقت معظم الجسور.
وقالت الشرطة، في بيان الخميس، إنها قامت بتأمين مؤسسات الدولة والمتظاهرين خلال احتجاجات الأربعاء، إلا أنها قوبلت بعنف غير مبرر تجاه عناصرها وسياراتها.
وأضافت أنه «تم حرق سيارة نقل ونهب محتوياتها، فضلا عن إتلاف 3 سيارات دورية شرطة».
وشددت على أنها «استخدمت الحد الأدنى من القوة والغاز المسيل للدموع، ولم تستخدم السلاح الناري مطلقا».
وأردفت: «تبين لنا أن هنالك حالة وفاة واحدة لمواطن في مدينة بحري شمالي الخرطوم (لم تحدد سبب الوفاة) فضلا عن إصابة 89 من عناصر الشرطة و30 مواطنا نتيجة اختناق بالغاز المسيل للدموع».
بيد أن وزارة الإعلام في الحكومة المعزولة اتهمت الشرطة بـ«الكذب».
وقالت في بيان إن «جهاز الشرطة الذي يكذب، لا يمكن أن يؤتمن على حياة السودانيين».