نادرا ما تمتلك الأنواع الأدبية والفنية الحظوظ نفسها، التي تتيح لها إمكانية تعميم إشعاعها على المشهد، إذ غالبا ما يتحقق الوجود القوي لبعضها على حساب الانحسار القسري الذي يطال بعضها الآخر.
ومهما حاولنا تشريح خصوصية اللحظة التاريخية والثقافية، بحثا عن العوامل الموضوعية المؤثرة في ذلك، إلا أن الظاهرة تأبى إلا أن تحتفظ بأسرارها، كي يظل المجال مفتوحا أمام مختلف أنماط التفسير والتأويل، التي تستند في انتصارها لهذا الرأي أو ذاك، على المعطيات المتوفرة في المدونة الإبداعية والفنية، أو على التحولات العامة التي تطبع المجال الثقافي في علاقته بالتحولات المجتمعية والحضارية.
والملاحظ أن الظاهرة لا تحظى لدى الشعوب المتنورة، بالقدر نفسه التي هي عليه في المجتمعات المتخلفة. باعتبار أن دينامية الفضاءات الثقافية، تلغي حدود المفاضلة بين الأنواع الفنية والأدبية، حيث تتمثل العبرة في قوة ما تمتلكه من طاقة خلاقة، وليس في امتياز انتمائها لهذا النوع أو ذاك. وهو المعيار المركزي، المتحكم عادة في ضبط نسب الإقبال على القاعات السينمائية والمسارح والمعارض التشكيلية. فضلا عن أرقام مبيعات الأقراص الموسيقية والأعمال الروائية والشعرية. فالدينامية المعرفية والثقافية تؤثر إيجابا في الارتقاء بخاصية الإنتاج العام للآداب والفنون، بدرجة تأثيرها نفسها في استراتيجيات التلقي باختصاصاته كافة.
وفي هذا السياق تحديدا، يمكن طرح أسئلة الإشكال التعبيري الذي يتبناه كل من المبدع والمتلقي، في الفضاءات المتميزة بحيوية حراك واقعها الثقافي، كي تنصب حول مدى كفاية نوع فني أو أدبي محدد، في ترجمة العلاقة الإبداعية التي يؤسسها الكائن البشري مع أشياء العالم. إذ سنجد أنفسنا حتما في قلب حالة مغرقة في رماديتيها، تضفي على تلك العلاقة من الغموض، ما يغري الكائن ذاته بالتطلع إلى اكتشاف المزيد من الأشكال الإبداعية، عساه يتوصل إلى توسيع مساحة الضوء، كي تمتد أكثر، إلى عمق تلك العوالم اللامتناهية المندرجة في حكم المجهول. وبالنظر إلى حالة الالتباس التي تسود ما يتعارف عليه بالحقيقي، الذي يضمر باطنه أكثر مما يعلنه ظاهره، فإن الاجتراح الإبداعي يظل أحد السبل الأساسية والمركزية، لتمثل ما يتعذر تمثله من أسرار هذا الباطن الموجود في ما وراء التخوم، بالصيغ العادية والمتعارف عليها.
ويتمثل أهم شرط من شروط اجتراحه في تنويع المسارات المفضية إليه، بما تعنيه من تنويع لمرجعياتها الفنية وتعدد لجمالياتها التعبيرية، باعتبار أن كل شكل فني أو أدبي، يمتلك مساره الخاص به، المؤدي إلى حد معين من حدود تلك الأرض الغامضة، التي تستحث خطانا نحوها، عسانا ننعم بهبات رؤية وسماع ما تيسر من كائناتها. فما يضيئه القول الشعري من عتمات هذه الأرض، ينضاف تلقائيا إلى ما يضيئه النص السردي والموسيقى، إلى جانب ما يضيئه العمل التشكيلي، أو المسرحي، أو السينمائي.
ومن المؤكد أن التلقي المنتمي إلى الفضاءات الثقافية المتنورة، لا يكتفي بالإقامة الدائمة في زاوية نظر ثابتة ونهائية، بقدر ما يميل إلى التردد على مختلف الزوايا التي توفرها الأشكال الفنية والإبداعية كافة. باعتبار أن ما من شكل إلا ويمتلك طريقته الخاصة، في الإشارة إلى جهة معينة من جهات الأرض التي نحن بصددها. وكما هو واضح، فإن القول بتردد التلقي على مختلف زوايا النظر التي تتحفه بها الأنواع الفنية والأدبية، يتضمن القول بضرورة تفاعله معها على ضوء تملكه الطبيعي لمرجعياتها. ويتعلق الأمر هنا عمليا، بتجذر التقاليد الفنية والأدبية في تربة الواقع الثقافي، ما يسمح للتلقي بفتح حوارات متعددة الآفاق، مع الأشكال الإبداعية كافة الموجودة في المشهد. وهو الحوار الذي يساهم بموازاة ذلك، في إنضاج وإغناء إواليات الأنواع الفنية والأدبية، حيث لا مفاضلة بينها، إلا على أساس ما تمتلكه من مقومات فكرية وجمالية.
سيكون من الطبيعي أن تتعرض قصيدة النثر لشتى أساليب الطعن من قبل حماة «طهرانية» الذاكرة و»قداستها». ما يجعل النصوص الروائية تتحول في الآن ذاته، إلى فزاعات مرعبة لا تكف عن مطاردتها لأطياف القصيدة.
والملاحظ أن هذا المعيار يكاد ينعدم في الأجواء التي ينضب فيها معين الفعل الثقافي، كما هو الشأن بالنسبة للعالم العربي، ذلك أن الشعر هو الأكثر استئثار بسلطة الحضور في الذاكرة، ليس من منطلق فاعلية معرفية وجمالية، يمارس عبرها أدواره الملموسة والموضوعية التي يفترض فيها أن تكون منسجمة مع خصوصيته. لكن فقط، بوصفه إرثا روحيا، يوقظ في الذاكرة حنينها لأزمنة غابرة يتبادل في مسالكها كل من المقدس والمدنس، عنف ما يمتلكانه معا من تنابذ وإقصاء.
الشعر هنا يمارس حضوره الغائب، في أنواء ذاكرة معطوبة، تماما مثل شعلة خافتة تلفظ أنفاسها ببطء، تحت قصف الأضواء الإلكترونية. ومن ثمة فالخوف عليه من الانقراض ليس بدافع الحسرة على فقدان شكل تعبيري، يهتدي به التلقي العربي إلى مدارج الكشف عن جمالية ما، بقدر ما هو تهيب من ضياع مكون تأسيسي من مكونات الهوية، خاصة أنه غير قابل للتنازل عن مركزيته لأي إبدال معرفي أو فني. والملاحظ أن مصدر خطر تراجع الشعر، يكمن في ما يعتبر غريمه الفعلي. أي النثر المقبل من مرجعية «غريبة «عن المرجعية الأصل. لذلك، سيكون من الطبيعي أن تتعرض قصيدة النثر لشتى أساليب الطعن من قبل حماة «طهرانية» الذاكرة و»قداستها». ما يجعل النصوص الروائية تتحول في الآن ذاته، إلى فزاعات مرعبة لا تكف عن مطاردتها لأطياف القصيدة. وبموازاة ذلك، سوف تنتفخ أوداج الخطابات المنذرة بنهاية زمن الشعر، انطلاقا من قناعتها بـ»هيمنة» زمن السرد. فضمن هذا الواقع المتردي الذي تعاني منه الفضاءات الثقافية، المفتقرة إلى الحد الأدنى من سندها المؤسساتي، سيكون من البديهي أن تحتجب باقي الفنون، سواء في ذاتها، أو من حيث الخطابات المقارباتية الموازية لها.
فليس ثمة إطار مهيكل وممنهج، يمكن أن يستضيفك في فضاءات التشكيل، أو فضاءات الموسيقى، المسرح، والسينما، وليس ثمة ما يقارب حضور أو غياب القول الشعري، في علاقته بهذه الفنون، بالنظر لغياب أي قرابة معرفية وجمالية تربطه بها. فليس سوى النثر، هذا الكائن «الشرير!» المسكون بهوس إحراق عرش القصيدة والإطاحة بصروحها.
وهي لعمري أقصى درجات التخلف، حيث يجد المبدع ذاته ضحية متاهات أرض يباب حقيقية، وليس على سبيل إحالتها الترميزية على هامش مجازي ما. وفي هذا السياق، لن يكون ممكنا الحديث على سبيل المثال لا الحصر، عن الإبداع الرقمي الذي يستهلك عربيا ببداوة معزولة تماما عن أبعاده الدلالية. ذلك أن الأخذ الحداثي، المعرفي والحضاري، بواقع الزمن الرقمي الجديد، لن يلبث أن يعصف بزمن ما يكتب شعريا أو سرديا، حيث تتسع هوة سحيقة بين الطرفين. يتأكد معها انتماء هذا الإبداع إلى عصور بائدة، لم يعد ثمة أي مبرر موضوعي لاستمرارها. علما بأن المقصود بالإبداع الرقمي في السياق الذي نحن بصدده، لا يقتصر على تجلياته التي يتعذر حصر مجالاتها واختصاصاتها، بقدر ما يتمحور حول علاقته بالرؤية الجوهرية، المؤثرة علميا وجماليا في بلورة تجلياته، وفي هيكلة قطاعاته. وهي رؤية منفصلة تماما عن واقعٍ سعيد بنشوة الانكفاء على ما توشوشه ذاكرته المغلقة من إيقاعات.
ومع ذك، فسيظل جهل المجتمعات المتخلفة بالحاجة الفكرية والروحية إلى الإبداع، من أخطر التداعيات المهددة بانقراضه، حيث لا فرق في ذلك بين أن يكون نتاج رؤيته تقليدية، أو ما بعد رقمية.
شاعر وكاتب من المغرب
صورة المكتب والمكتبة مع المقال تشبه مكتبي ومكتبتي في المنزل بنسبة 90%؟؟؟؟؟؟؟؟يالغرابة التوافق.شكرا للمحرر.