قد يكون من التكرار بل الإلحاح التذكير بأن تشطير التاريخ إلى مشبه ومشبّه به وأصل وصورة وصوت وصدى، هو من إفراز ثقافة تعاني من عقب آخيل مُزمن، يتجسّد في تراكم إحباطات ومكبوتات خلقت لديها شعورا بالدّونية وليس بالنديّة، فهي ثقافة المغلوب مقابل ثقافة الغالب، وفق القراءة الخلدونية، وقبل التوقف عند المقاربة المهجورة والمسكوت عنها لظاهرة الحراك العربي في ربيعه الرابع، أي بعد مرور أربعة أعوام منها ما كان أعجف جفّ فيه الضرع والزرع، علينا الاعتراف بلا أي مواربة تستهدف الاسترضاء والممالأة الشعبية، أن إطلاق اسم الربيع على الحراك العربي كان من حيث لا ندري مجازفة تحرم هذا الحراك من هويته وما يجترحه من آفاق، لأنه مترجم عن ربيع أوروبي في منتصف القرن التاسع عشر، أو الثورة الفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر، فالسياقات مختلفة، والقواسم المشتركة بين الحراكات والثورات يجب أن لا تصرفنا عن التباين في التفاصيل والدوافع أيضا، وهناك من وضعوا عربة التاريخ أمام حصان الثقافة حين تصوروا أن الثورة الفرنسية هي التي أنجبت آباءها، فهي لم تنجب في مدى معيّن غير الماركيز دو ساد وأحفاد لروسو ومونسكيو وفولتير، أعادوا إنتاج أسلافهم بدرجات مُتفاوتة، لكنها ليست بالثراء المعرفي ذاته، وما كتب حتى الآن وخلال السنوات الأربع التي تفوق حاصل جمع أيامها بفائض التناحر الايديولوجي والاحتراب الطائفي بقي معظمه محصورا بين قوسين، أحدهما إعلامي والآخر سياسي. أما البعد المعرفي فهو المقاربة المهجورة وربما المؤجّلة إلى أن يبرد الصلصال قليلا ليصبح بإمكان النحّات أن يغرز أصابعه فيه. المقاربات الإعلامية التي تنتظر من يفك الاشتباك بينها وبين ما هو إعلاني تراوح بين الرّصد التوصيفي وبين أدبيات شعراء النقائض، لهذا فهي رهينة الايديولوجيا، والمال والّرغائب.
أما السياسي من هذه المقاربات فهو امتداد نوعي مع الفارق الكمي بسبب عدد المنابر ووسائل التواصل والفضائيات لما ساد خلال العقود الخمسة الماضية، من هجاء مُتبادل واحتراف التبرير وعرض اقلام وأصوات للإيجار، على غرار ما كتبه باتريك سيل عن البنادق المعروضة للإيجار، من هنا يستحق كتاب «تجليات الثقافي في الربيع العربي» لكمال عبد اللطيف وقفة متأنية، لأنه ينفرد في التذكير بغياب ذلك القوس الذهبي من محيط الدائرة، فهو لا يلقي حجارة في الآبار المهجورة فقط، ولا يحاول إعادة الاعتبار المسلوب للبُعد الثقافي من المشهد فقط، بل ينقل السؤال البريء والأعزل عن إقصاء الثقافي لصالح الإعلامي والسياسي، إلى مساءلة معرفية، ربما لأنه يظفر بمسافة ما عن دخان الحرائق، فهو كاتب عربي من المغرب، كان للحراك في بلاده إيقاع مغاير ولم يحدث لديه التباس بين مفهومي النظام والدولة اللذين تعامل معهما البعض كما لو أنهما مترادفان أو وجهان لعملة واحدة.
٭ ٭ ٭
يروي عبد اللطيف أن ما جرى في العالم العربي منذ عام 2011 كان انفجارا تاريخيا مركبا، لكن معالجاته أعطت النصيب الأكبر للسياسي، وأغفلت طابعه التاريخي المعقد. إن هذا المدخل هو بمثابة إضاءة لزاوية معتمة من المشهد، لكن تبسيط المعقّد وتسطيحه لم يكن حكرا على ما أضاءه عبد اللطيف، فهو سمة إن لم نقل إنه آفة من آفات التخلف، فالاختزال المخلّ كما يقول مصطفى حجازي في كتابيه عن الانسان المقهور والمهدور يميل إلى اختزال كل الظواهر، وإن كان المثال الذي يورده هو عن المرأة التي يجري تصغيرها وقشر آدميتها بحيث تنتهي إلى وظيفة عضوية.
بالطبع لن يتسع المجال هنا لمناقشة طروحات عبد اللطيف وهي عديدة، بدءا من طرح النهضة حتى طرح الحداثة المترجمة، مرورا ببروز اتجاه فكري وايديولوجي محدد في عدة أقطار عربية، وهناك مسألة استغرب غيابها أو بمعنى أدقّ تغييبها في كل السياقات المماثلة لهذا السياق، وهي أن العالم ومنه العالم العربي عاش فترة استثنائية تحت شعار العولمة، وهو مصطلح ملتبس وقد يكون مجرد تخفيف لما أطلق عليه روزفلت الأمركة حين قال في خطاب شهير، إن قدر بلاده هو أمركة العالم.
فالعالم في نهايات الحرب الباردة عاش فراغا ايديولوجيا، كان الانحسار والتراجع فيه مزدوجا بين ما هو أممي ماركسي وما هو قومي، فالتزامن كان دراماتيكيا بين تفكيك الاتحاد السوفييتي وتساقط أحزاب قومية انتهى بعض قادتها إلى الشنق أو الفرار، ولأن التاريخ كالطبيعة لا يطيق الفراغ فقد تمددت أفكار وأحزاب لتملأه وهذا بحدّ ذاته قراءة غير أفقية لما آل إليه المشهد السياسي، وبالتالي فإن القراءة الأولية لا تتورط بالمفاضلة أو التقييم، بقدر ما تنقل الواقع كما هو وليس كما نشتهي على اختلاف الأهواء.
ما يسميه عبد اللطيف الانفجار المركب كانت تجلياته مسبوقة بتراكم من المكبوتات التي لا تقبل الاختزال إلى ما هو سياسي فقط، فثمة مكبوت طبقي وآخر جسدي وثالث نفسي ورابع طائفي والمقاربات السياسية والإعلامية ليس لها من الرؤى والأدوات، أو حتى من رفاهية الوقت ما يتيح لها أن تعالج كل هذه المكبوتات، لأن من انخرطوا في الطبقة السياسية هم أنفسهم من ضحايا هذه المكبوتات لكنهم آخر من يعلمون بذلك.
٭ ٭ ٭
يلاحظ أن الصحف العربية التي دأبت على تقليد سنوي يرصد النتاج الثقافي لم تجد لديها الكثير لتواصل هذا التقليد في السنوات الأربع الاخيرة، بسبب تهميش الحراك المعرفي، فالقطفة الأولى للحراك العربي كانت شعراء أنهى الواقع صلاحيتهم في ثلاثة أعوام فقط، وروائيين تسجيليين اقترضوا من الواقع حتى أفقروه ولم يسلّفوه من خيالهم، لأن الخيال تراجع أيضا مخليا الساحات للذاكرة.
المقاربة المهجورة بانتظار من يطرق بابها لأن سؤال الحرية لا يجاب عليه بهذيان إعلامي أو كيدية سياسية.
٭ كاتب اردني
خيري منصور
أعتقد اننا أخفقنا حكام ومحكومين .في خلق مفهوم الدولة .الدولة لن يِؤسسها رجل دين .أو رجل قانون.أو رجل عسكري . بل دولة يؤسسها رجل مغامر.علية أن يغامربالكثير من المسلمات والفرضيات .ويلغي الكتير من المشاريع الفاشلة ويعيد ترتيب الأوراق من جديد.ويلغي الكتير من الاحزاب السياسية التي لاتمثيل لها.وينشىء مجال سياسي جديد