توصف الحكومات بالسلطوية حين لا تقر للشعوب الحق في اختيارها بحرية وتغييرها بحرية من خلال انتخابات دورية ونزيهة، وحين تمنع التداول الحر للمعلومات وتمتنع هي عن التزام الشفافية في إدارتها للشأن العام، وحين تتنصل من احترام حقوق وحريات المواطن الشخصية والمدنية والسياسية مثل حرية الاعتقاد وحرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم وتساومه على حقوقه الاقتصادية والاجتماعية وحقه في الأمن.
تتعامل الحكومات السلطوية مع القانون كأداة لفرض سيطرتها على المجتمع، وللإمساك بالمؤسسات العامة والهيمنة على المؤسسات الخاصة، ولإخضاع المواطن وحمله على الابتعاد عن المطالبة السلمية بحقوقه وحرياته، ولإنزال العقاب بمن يمتنعون عن تقديم فروض الولاء والطاعة.
لا للفضاء العام الحر، لا للإعلام الحر، لا للأحزاب السياسية التي تسعى للتداول الحر والسلمي للسلطة، لا للمجتمع المدني الذي يراقب ويسأل ويحاسب الحكام، لا للحريات الدينية والفكرية والثقافية والأكاديمية، لا للحرية الشخصية؛ تلك هي لاءات الحكومات السلطوية التي تتكرر عبر المكان والزمان لتضع في خانة واحدة إسبانيا بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن العشرين، والبرازيل في ستينياته وسبعينياته، وروسيا منذ تمكن فلاديمير بوتين من مؤسسات وأجهزة الدولة بها، والمجر التي تدفعها اليوم حكومة منتخبة ديمقراطيا بعيدا عن الديمقراطية والليبرالية، والمملكة العربية السعودية منذ نشأتها في الربع الأول من القرن العشرين، ومصر منذ إعلان الجمهورية في 1952.
تتشابه الحكومات السلطوية في إهدارها لقيمتي حكم القانون الأساسيتين. القيمة الأولى هي قيمة العدل المستندة إلى موضوعية القواعد القانونية وشفافية إجراءات التقاضي وضمانات حقوق الإنسان والحريات، والقيمة الثانية هي قيمة المساواة المستندة إلى الامتناع عن التمييز بين المواطنين والإقدام على محاسبة المؤسسات العامة والخاصة حين تتورط في ممارسات تمييزية. وعلى الرغم من القواسم المشتركة بينهم،
إلا أن السلطويين ليسوا دائما على حال واحد فيما يتعلق بتفاصيل وطرق تعاطيهم مع السلطات العامة من المؤسسات القضائية إلى توظيف أداة التشريع التي تقوم عليها البرلمانات (أي إصدار القوانين الجديدة وتمرير التعديلات على القوانين القائمة) لإدارة شئون الدولة والمجتمع والمواطن. السلطويون ليسوا أيضا على حال واحد فيما يخص حدود الالتزام بتنسيب قراراتهم وسياساتهم إلى «القوانين واللوائح المعمول بها» وحرصهم على اصطناع صورة الحكم المحترم لسيادة القانون.
تتعامل الحكومات السلطوية مع القانون كأداة لفرض سيطرتها على المجتمع، وللإمساك بالمؤسسات العامة والهيمنة على المؤسسات الخاصة، ولإخضاع المواطن وحمله على الابتعاد عن المطالبة السلمية بحقوقه وحرياته، ولإنزال العقاب بمن يمتنعون عن تقديم فروض الولاء والطاعة
فنجد أن قليلا من الحكومات السلطوية المعاصرة لا ينكر عداءه الصريح لوجود مؤسسات قضائية مستقلة، ولا يتوقف عن التغول على المحاكم والتدخل في أعمالها بطرق شتى. قليل منها يضرب عرض الحائط بالقوانين واللوائح، ويمعن في ممارسة القمع باتجاه المواطن والضبط باتجاه المجتمع والإخضاع باتجاه المؤسسات القضائية والمؤسسات التشريعية، معتمدا فقط على المتاح له من أدوات القوة الجبرية والعنف الرسمي. فقط القليل من الحكومات السلطوية هو الذي لا يسعى للتجمل بإبعاد شكلي للمكون الأمني عن واجهة الحكم، فالأغلبية تريد للمكون الأمني أن يدير شؤون الدول والمجتمعات من وراء ستار. فقط القليل من الحكومات السلطوية هو الذي لا يعنيه تزييف وعي الناس بالترويج لكون حكم الفرد ليس حكما للفرد والحزب الحاكم ليس حزبا حاكما واحدا والانتخابات الرئاسية والبرلمانية معلومة النتائج سلفا ليست سوى انتخابات جادة تترجم الإرادة الشعبية بحرية ونزاهة. فقط القليل من الحكومات السلطوية هو الذي لا يخجل من أن يعلن على الناس أن الحكم هو حكم الفرد أو حكم الحزب الواحد وأن صناديق الاقتراع لا أهمية لها وأن دون ذلك ستسقط الدول وتدمر المجتمعات وينهار الأمن ويذهب إلى غير رجعة الاستقرار.
وإن كان هذا هو حال القليل من الحكومات السلطوية في التعاطي مع المؤسسات القضائية والتشريعية ومع الرأي العام، فأين يقف، إذا،العدد الأكبر من سلطويي القرن الحادي والعشرين؟
تصر أغلبية السلطويين المعاصرين على أن حكوماتهم تحترم سيادة القانون، وتعلن على رءوس الأشهاد امتناعها عن التدخل في أعمال المؤسسات القضائية والمحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها وابتعادها عن السيطرة على المؤسسات التشريعية. تشدد أيضا على أن القضاء المستقل يمثل فرض ضرورة لتحقيق استقرار الدولة والمجتمع شأنه شأن البرلمان المستقل، ولا تمانع أن يتم النص دستوريا على استقلال المؤسسات القضائية وحياد القضاة واستقلالية البرلمانات وإرساء مبادئ الفصل والتوازن بين السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية. غير أن تواتر إعلانات النوايا الحكومية الحميدة وحضور الضمانات الدستورية القاطعة لا يحولان دون السعي المستمر للسلطويين المعاصرين إلى استتباع القضاء وإخضاعه إلى أهوائهم، تماما مثلما يضغطون على المؤسسات التشريعية لتقزيمها إلى برلمانات دورها الوحيد هو تمرير مشروعات القوانين التي تطرحها الحكومات والموافقة على قرارات وسياسات الحكام دون إعمال جاد ومستقل للأدوات الرقابية.
لا يريد العدد الأكبر من أولئك السلطويين في القرن الحادي والعشرين أن يبدو كمن ينتهك القوانين وهو يقمع ويتعقب ويضبط ويخضع أو أن يظهر العداء الصريح للمؤسسات القضائية المستقلة وهو يستتبع القضاء والقضاة أو أن يمتهن البرلمانات وهي تمرر القوانين المقيدة للحريات. باستثناءات قليلة، يهدر سلطويو القرن الحادي والعشرين القيم الأساسية لحكم القانون وهم يدعون أنهم يحترمون سيادته، ويقضون على معاني العدل والمساواة في إدارة شئون الدولة والمجتمع بإجبار البرلمانات على تمرير قوانين وتعديلات قانونية ظالمة وتمييزية.
يقمع الإعلام الحر في روسيا ويراقب المجتمع المدني أمنيا بالقوانين واللوائح. وفى المجر، تنزع شرعية الوجود عن منظمات حقوق الإنسان ويتعقب من يعمل بالقوانين واللوائح، وفي روسيا البيضاء، يعزل الرئيس لوكاشينكو أساتذة الجامعات وموظفي العموم وفقا للأهواء السياسية لأن القوانين واللوائح تمكنه من ذلك. وفي بلاد العرب، بحور متلاطمة من الأفعال السلطوية لحكام وحكومات لا يعنيهم غير إخضاع المواطن وضبط المجتمع والسيطرة على الفضاء العام.
كاتب من مصر