المنطقة العربية: المخاطر الاستراتيجية لتفريغ الساحة من الأحزاب والقوى السياسية

من بين أشد ما يهدد المنطقة العربية، شعوبا وأوطانا، وفي المقدمة منها، قضية فلسطين، بل هي الأساس والمرتكز لكل ما جرى ويجري حتى الآن؛ هو خلو الساحة من الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة، التي تمتلك برنامج عمل وبوصلة سياسية، ومن الطبيعي أن هناك عوامل أخرى ربما لا تقل تأثيرا، وبالفعل خطيرة على مآل الأوضاع العربية، واتجاه حركتها في المستقبل المنظور.
من المهم التعريج ولو سريعا على الأسباب والعوامل، التي قادت وأدت إلى إفراغ الساحة العربية من الأحزاب والقوى السياسية، التي تحمل على عاتقها هموم الشعوب والأوطان. وهو موضوع معروف للجميع؛ لذا سوف اختصره بجمل قليلة: هو طغيان واستبداد أنظمة النظام الرسمي العربي، الذي اعتبر نفسه الوحيد القادر على رسم السياسة التي تخدم الشعوب والأوطان. فقد درجت هذه الأنظمة في خطابها السياسي والإعلامي؛ على لي عنق الحقيقة، وخداع الناس؛ بإخفاء ارتباطاتها مع الداعم الدولي لها، أمريكا بالذات، لحاجة القوى العظمى الدولية، لوجود مثل هذه الأنظمة، خلال العقود التي خلت، حتى انفجار شعوب العرب في وجه ظالميها.

عندما انطلقت ثورات الشعوب العربية، وجدت نفسها تدور في الفراغ، لعدم وجود قيادات تتولى توجيهها، وضبط إيقاعها

السؤال الذي يطرحه المنطق هو؛ ما الذي جعل ثورات الربيع العربي تتجه إلى دروب ومسالك، بعيدا عن الأهداف التي انطلقت لتحقيقها؟ صحيح أن القوى الكبرى العالمية، هي التي غيرت مساراتها، لكن هل كان بإمكانها تحويل هذه المسارات إلى مسارات أخرى مضادة تماما لأهداف المشروع الأول لهذه الثورات؟ الجواب لم يكن في إمكانها أن تقوم بما قامت به، لو كانت هناك في الساحة قوى سياسة وأحزاب بقيادات لها قاعدة شعبية تؤمن بها أو تثق بها، الواقع، مع الأسف الشديد، لم يكن على هذه الصورة، فقد كانت الساحة العربية فارغة إلى حد كبير من أحزاب وقوى وقيادات كهذه.. لذا، عندما انطلقت ثورات الشعوب العربية، وهي ترفع شعار الحرية والديمقراطية، والمطالبة بتنحي الأنظمة الرثة؛ وجدت نفسها تدور في الفراغ، في ساحات ملئت بالفوضى والاضطراب، لعدم وجود قيادات تتولى توجيهها، وضبط إيقاعها. استمر الثوار العرب بعد الشروع بالثورة بخطوات محدودة، في مقارعة هذه الأنظمة، لكن بوصلة الثورة تغيرت لاحقا؛ عن طريق الالتفاف عليها وفتح بإرادة دولية وإقليمية، طريق آخر للثورة، هو طريق الموت لها. حصل التغيير الذي طالبت به الجماهير، في دول عربية بعينها، لكن بطريقة إنتاج هذه الأنظمة لنفسها، بوجوه جديدة هي أولا وأخيرا لا تختلف عن الأنظمة التي أطيح بها، ودول عربية أخرى لم تزل إلى الآن تسبح في بحر من الفوضى والاضطراب والدم والدمار والخراب. كيف حدث هذا؟ ومن المسؤول عن هذا الانحراف؟ إنها بالتأكيد القوى الدولية الكبرى، ومن الطبيعي معها الكيان الصهيوني، بل هو العمود الفقري للقوى الكبرى، باستثناء الصين؛ لأسباب تتعلق بإمكانياتها حاليا وليس مستقبلا.. وخططها الحصرية في الاقتصاد والتجارة، والمال والسلاح. القوى الدولية أسست لها قواعد ومريدين، تعتمد عليهم في تنفيذ أجنداتها على حساب مصالح الشعوب والأوطان، لتدخل بعض الدول التي كانت ميدانا لثورات الربيع العربي، في صراع مع ذاتها، تنفيذا لمصالح قوى وراء الحدود.
لا يزال الوضع على هذه الحالة من الصراع العبثي غير المنتج، وهذا هو ما تريده القوى والدول الكبرى في الإقليم وفي العالم، حتى باتت الحلول تصطدم بالطريق المسدود، وأقصد الدول التي لا تزال تعاني من الحروب مع نفسها وبأذرع أبنائها، وليس الدول التي أنتجت شكلا جديدا للنظام السابق. لنأخذ اليمن مثالا، ما ينطبق عليه ينطبق على بقية الأنظمة التي طالها الربيع العربي، بأشكال مختلفة لكنها تقع في الإطار ذاته والخانة عينها. في اليمن بعد الوحدة قام النظام بتصفية جميع معارضيه، بعد الانتصار في حرب الوحدة، وبالذات في الجنوب، فقد تمت تصفية قوى اليسار في الجنوب والقوى الأخرى، حتى باتت الساحة في جنوب اليمن فارغة إلى حد كبير من أي قوى سياسية وقيادات لها قاعدة شعبية، ربما أسستها لو كان لها حرية الحركة، وإدامة التواصل معها. في الشمال قبل الوحدة وحتى بعدها تمت تصفية جميع القوى السياسية والأحزاب، أو تحجيمها والحد من حركتها على أرض الواقع، ولم يبق في الساحة إلا الحزب الحاكم، الذي أسسه الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح. عليه، عندما دقت ساعة الحقيقة، وثار الشعب، مطالبا بحقه في الحياة الكريمة، وحريته في قول ما يريد، واختيار من يحكمه، لم تكن هناك قيادات فعلية لها فعل على الأرض، ولها مقبولية لدى الشعب الثائر، ولم تكن هناك أيضا، أحزاب وقوى سياسية لها وجود فعلي في الساحة، بفعل تشتتها وتوزع قياداتها في المنافي. عندها كانت الجماهير الثائرة من أجل الحياة، بلا قيادة تتولى توجيه بوصلة الغضب، بما يقود إلى إنتاج فعل على الأرض؛ يترجم أو يحول طموحات الشعب إلى واقع، يفضي بالضرورة إلى نظام ودولة يحترمان حق الشعب بالحياة والحرية والكرامة. هذا الواقع الذي صنعته القوى الكبرى الدولية والقوى الإقليمية العربية، وفي الجوار العربي، والنظام أيضا، كقاعدة استندت إليها تلك القوى في مفاعيلها في هذا الاتجاه؛ ما جعل الطريق مفتوحا وبسهولة للقوى الدولية وللقوى الإقليمية سواء ما كان منها عربيا أو في الجوار العربي؛ كي يكون لها وجود فعلي في اليمن، يضمن لها مصالحها وسياستها. اليمن حاله كما هو حال بقية الأوطان العربية؛ له موقع جيوسياسي يشكل إغراء مهما للقوى الدولية والإقليمية، على صعيد الحاضر والمستقبل؛ لذا نلاحظ أن الصراع في اليمن خرج من يد الشعب اليمني، ليد القوى الدولية والإقليمية، لضمان مصالحها الجيوسياسية والاستراتيجية.. في هذا الصدد وفي السياق ذاته، يمكن القول إن الإمارات لعبت دورا محوريا لتطبيع بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني، عبر مشاريع في الكهرباء والطاقة والمياه، أو عبر الاستثمارات، أو عبر تفكيك عزلة هذا النظام أو ذاك النظام؛ في عملية لا تخلو من تقريب الحلول والمخارج، لبناء علاقة ما مع الكيان الصهيوني.. وفي الشمال حيث يسيطر الحوثيون على الأرض، تلعب إيران دورا مهما وداعما وساندا ومجهزا لمشروع الحوثيين في اليمن.. يجري كل هذا الذي يجري في ظل غياب للقوى والأحزاب في اليمن، أحزاب وقوى ترتبط منهجا ومخططا وفعلا بمصالح الشعب اليمني، ولا تتلقى الأوامر إلا من ذاتها اليمنية، اليمن كما قلت، يتمتع بموقع جيوسياسي واستراتيجي مهم، يشكل إغراء، لجميع القوى الدولية والإقليمية، والأخيرة، سواء ما كان منها عربيا او في الجوار العربي؛ لها مطامع فيه ذات بعد استراتيجي. الإمارات والكيان الصهيوني (الأولى تعمل بالوكالة عن الثانية) يريدان أن يكون لهما موقع على البحر الأحمر، وفي مضيق باب المندب، وفي شرق افريقيا والقرن الافريقي. الكيان الصهيوني يوجد عسكريا في جزيرتين إرتيريتين في البحر الاحمر، والامارات أيضا تسيطر على جزيرة سقطرى. إيران أيضا تعمل على أن يكون لها وجود من خلال الحوثيين على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، بالإضافة إلى جعل الساحة اليمنية مصدا، هو في الأول والنهاية، واحد من المصدات الأخرى في المنطقة العربية؛ لحماية أمنها القومي في صراعها مع أمريكا. ومن الطبيعي للقوى الدولية الكبرى، أمريكا وفرنسا وبريطانيا، في اليمن مصالح استراتيجية وإن كانت بثقل وتأثير ووسائل مختلفة، لكنها في الإطار ذاته من حيث المطامع والأهداف. أما السعودية فلها هي الأخرى مصالح؛ من بينها حماية حدودها الجنوبية، وأيضا أن يكون لها منفذ على البحر العربي؛ لتصدير نفطها بديلا عن مضيق هرمز؛ من ميناء المهرة ليكون بديلا عن ميناء المكلا.
في الخلاصة إنه صراع دام بأيدي اليمنيين وبالضد من مصالحهم؛ لعدم وجود قوى وأحزاب ترتبط باليمن ارتباطا عضويا، وليس ارتباطا دوليا وإقليميا. حتى الآن لا توجد أي بارقة أمل في إنهاء هذه الحرب العبثية، اي ان هذه الحرب وصلت الى الطريق المسدود. القوى الكبرى، لم تركز في الفترة الأخيرة، إلا على البعد الإنساني، أي تخفيف معاناة اليمنيين من ثقل هذه الحرب وتداعياتها، وهذه يعني إنها لا تفكر الآن، وللأمد المنظور؛ في وضع نهاية لهذه الحرب، بل تعديل مساراتها بالشكل الذي لا يؤثر في المدنيين، ليس حبا بهم، بل تجنبا لأصوات الإدانة في العالم لهذه الحرب الدموية. مع هذا لا بد لهذه الحرب، من أن تنتهي ذات يوم، كما جميع الحروب والصراعات، انتهت بالحوار والجلوس إلى طاولة التفاوض. اعتقد أن السيناريو الأكثر احتمالا؛ هو التقسيم في ظل انسداد المخارج للحلول الأخرى المنتجة، وليس إعادته الى ما كان عليه اليمن قبل الوحدة، بل دولة اتحادية، دولة مركبة، وليست دولة بسيطة، اي كونفدراليات وليس فيدراليات، الفرق هنا كبير جدا، الاولى دولتان، أو أكثر، داخل دولة اتحادية هشة، لكل دولة فيها، لها سياستها المستقلة، وهذا يخدم المشروع الصهيوني المعد سلفا للمنطقة العربية، بينما الثانية أقاليم داخل دولة واحدة، اي دولة اتحادية تمتلك جميع عناصر وعوامل القوة والنجاح والتطور.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية