Venus

لي أيام وأنا أكتب عن المرأة، حالاتها ومآلاتها في عالمنا العربي، في الجزء الأعمق منه، منطقة الخليج التي لهيبها الاجتماعي تجاه المرأة لا يقل عن لهيبها الطقسي تجاه سكانها. كثيرة هي التقسيمات النسائية، عند كل منطقة جغرافية فاصل يفصلنا، عند كل تصنيف إثني إسفين حارق يدق بيننا، عند كل بيت عبادة «رجل دين» يميزنا عن بعضنا البعض، حتى عند كل متجر سلعة تفرق بيننا، تضع علينا علامة طبقية تعلن انتماءات لعينة إضافية «لمقامات» حياتية ليست من صنعنا.
هكذا نحن مقسمات، منقسمات، مُفْتَرَقات طرقنا أكثر من شوارعنا الموحدة المعبدة، رغم أننا نعاني، وإن اختلفت الدرجة، من المنطلقات ذاتها وبالأدوات ذاتها. رغم كل ذلك، لا يمكن بأي حال من الأحوال ذكر المرأة عديمة الجنسية في المنطقة تساوياً مع نظيراتها في حجم ونوعية المعاناة، لا يمكن التعامل معها على أنها فئة نسائية أخرى مضطهدة، لا يمكن سردها في ذات السردية النسائية المعاصرة، القصة عند هذه المرأة في العصر الحديث أبعد وأعمق بكثير.
إن انعدام الجنسية هو غياب هوياتي، متشابه نفسياً كثيراً مع شعور أن تصحو أحد أيامك فاقد الذاكرة، لا تعرف حقيقة ماهيتك، لا تفقه لنفسك انتماء ولا تدرك لنفسك مصيراً. في فترات السفر التي نقيم إبانها في فنادق، لاحظتني أقول حين الرغبة في العودة للفندق: «تعبت، أبي أرجع البيت». ليس الفندق بيتاً، إلا أنه يتحول بشكل مؤقت لمأوى حميم لي في أيام الاغتراب القليلة تلك، ذلك أننا جميعاً، حتى في الفترات المؤقتة، نحتاج إلى سكن ووطن ومسقط رأس، هي حالة بيولوجية جينية أتصورها، معجونة في تكويننا البشري الغريب: الارتباط بالبقع الأرضية، بالأشياء، بالأشخاص، وكأننا طوال الوقت نبحث عن وجود مستقر وديمومة نعلم أنها غير ممكنة مطلقاً.
الآن لنتخيل هذا الوضع للشخص عديم الجنسية، هذا الذي يحيا التيه بديمومة ويحيا الاستقرار بشكل مؤقت. حين يعود عديم الجنسية لبيته، لربما يطاله ذات الشعور الذي يطالنا جميعاً في الحالات الطبيعية، راحة العودة لمكان وأشخاص مألوفين، إلا أنه حين يخرج من بيته، يطاله شعور مغاير تماماً، حيث تبدأ الغربة مع فتح الباب، ويتمدد التيه مع الخطو للخارج، تيه يستمر كأنه دائرة مفرغة، كأنه لعنة أبدية. الوطن لهذا العديم الجنسية هو البيت، مهما صغر وضاق ورث حاله وتضعضع مآله وتهدد استقراره فيه، والغربة هي بقية العالم، كل بقية العالم. ترى ما هو شعور أن يكون الأمان كله في مئة متر مربع أو تقل؟
هل في الخيال مكان بعد؟ لقد ذهب القليل، وما بقي سوى الكثير الهادر. لنتخيل الآن وضع المرأة عديمة الجنسية، هذه التي تيهها مستقر معها حتى وهي في عقر دارها وبين جدران المئة متر المربع التي تحتضنها، هذه التي تيهها جسدها، غربتها جيناتها، مصاعبها ومشاكلها محمولة معها طوال الوقت في شكل وجه ورأس وبطن وظهر. هذه المرأة، جالسة أو واقفة، يثبت فوق رأسها تاج مرصع كريه ثقيل، هو أحد أهم مسببات احدوداب العمود الفقري وضعف الرقبة، تاج اسمه شرف العيلة، فوق هذا التاج مباشرة تجلس «ألماسات» ضخمة حادة تثني هذا التاج بعنف وتغرس أطرافه المدببة في جلدة رأسها الرقيقة «ألماسات» اسمها ذكور العائلة، أعلى هذه الألماسات تستقر حلقة ذهبية براقة هائلة، ترقد على الأطراف الألماسية الحادة وتمعن في دفعها والتي بدورها تمعن في غرس أطراف التاج في رأس حاملتها، حلقة اسمها العائلة أو القبيلة، لتتثبت فوق كل ذلك سبيكة ثقيلة ضخمة ترزخ فوق التاج المدبب بألماساته الحادة وحلقتة الهائلة، سبيكة اسمها السلطة السياسية. مع وقت وصول عينيك من أعلى السبيكة الضخمة إلى وجه المرأة الحاملة لكل هذا الذهب والألماس، ستجد هذا الوجه ملطخاً بالدم، مثقوباً بحدة أحماله «الثمينة» من كل اتجاه.
قد يكون هذا قدر المرأة عموماً، عديمة جنسية أو بها، قد تكون هذه حمولها أبداً ودائماً، إلا أنه علينا أن نتذكر أن المرأة «المنتمية» لديها عكازات تستند إليها، أحياناً تتوافر لها منضدات على الطريق تريح عليها إكليلها التعذيبي، قانون هنا ينصفها نصف إنصاف، موطن هنا متكفل بها نصف كفالة، ورقة انتماء تسمي نفسها بها، تعطي لها بعداً مغايراً لبعد ذكور عائلتها: فلا تعود فقط ابنة طائفة، أو ابنة قبيلة، أو ابنة أسرة، أو ابنة أغنياء، أو ابنة فقراء، أو ابنة «أصليين» أو ابنة «بياسرة» تصبح هي ابنة بلد ما، هوية خاصة بها، لا علاقة للذكور وتقسيماتهم، على الأقل بشكل مباشر، بها. المرأة البدون لا عكاز لها ولا منضدات، لا يدان لها ولا قدمان، هي فقط رأس دامي بحمله، كأنها «فيناس وليندورف» أقدم تمثال أنثوي صنعته البشرية لامرأة: لها رأس وأعضاء أنثوية حتى تنجب الأبناء، والذي يلخص دورها ومعنى وجودها.
نعم، نعم، أعرف أنه قدر أنثوي عام، كما وأعرف أنه ليس قدراً مطلقاً، أي ليس قدر كل امرأة ذات جنسية أو عديمتها، لكنه يبقى قدراً نسائياً شائعاً، يشكل ظاهرة خطرة، قدر مضاعف عند المرأة محرومة الهوية، هذه التي تتعذب عشرات أضعاف نظيرها الرجل عديم الجنسية: تتعذب وهي تكبر، وهي تدرس، وهي تعمل، وهي تتزوج، وهي تحمل وتلد، وهي تربي، وهي توفر اللقمة على مائدة عليها أطفال كثر، أصرّ «ذكرها» على إنجابهم لأنهم «عزوة ورزقهم يأتي معهم» لتبقى هي تتخبط، لا من عزوة ولا من رزق ولا من صحة ولا من إنصاف.
المرأة المحرومة الهوية محرومة من حماية الوطن، فمن ينقذها إذا غارت عليها عائلتها، من ينصفها إذا ظلمها مجتمعها، من يحفظ حقوقها إذا سرقها منها أقرب الناس إليها، وكلنا نعرف أننا كنساء عرضة لكل هذه الهجمات والغارات كل يوم؟ المرأة عديمة الجنسية، في العالم كله، في الشرق الأوسط، في منطقة الخليج، الموضوع الأخطر، السر الأكبر، المنطقة الأظلم والموضوع الأكثر غموضاً، ماذا نعرف عنها، كيف تعيش؟ بم تشعر؟ كيف تنتمي وتكون ذاتها في غربتها المضاعفة؟ هلا فتحنا هذا الصندوق الخطير ونبشنا المحتوى؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوسن خميس:

    أنت تبالغين باضطهاد المرأة.غالبية النساء محترمات في مجتمعنا.ولكل قاعدة استثناء وشواذ.وهناك رجال مضطهدون
    وهذا لا يعني ان الرجل مضطهد على العموم.نريد مقالات تبتكر الحلول لا فقط تثير المشاكل وتبقيها معلقة؟ كأنها استبيان لمعرفة المزاج العام..كمراكز قياس الرأي.

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    المرأة البدون جنسية وضعها أفضل من الرجل البدون جنسية!
    لو تزوجت إمرأة بدون جنسية برجل من الجنسيته الكويتية, فتصبح جنسيتها كويتية بعد خمس سنوات!!
    أما إذا تزوج الرجل بدون جنسية بإمرأة من الجنسية الكويتية, فلن يحصل غير الإقامة!!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول سنتيك اليونان:

      بكلام اخر يفرض القانون على المرآة البدون ان تتزوج كي تحصل على الجنسية وهذا نوع جديد من الحرية في بلاد العرب وهذا النوع من تعدد المقاييس يعمل فيه ايضا في لبنان حيث الفلسطينية المتزوجة من لبناني تحصل على الجنسية اللبنانية هي واولادها بينما الفلسطيني المتزوج من لبنانية يبقى لاجىء هو واولاده. …كتب شكسبير ( شيء فاسد في دولة الدنمارك) واقول اشياء فاسدة في دولة العرب

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    هناك مائة ألف كويتي بدون جنسية! بعضهم مولود بالكويت منذ 70 سنة!!
    يحصل المقيم خمس سنوات بالسويد على جنسية سويدية, وبالنرويج سبع سنوات!!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    آلاء سعدون هي واحدة ممن تم القبض عليهم من قبل السلطات الكويتية عقب تظاهرة نظمها “البدون” للمطالبة بحق المواطنة، كرد فعل على انتحار شاب لعدم تمكنه من الحصول على وثائق رسمية من الدولة، ما تسبب في فقدانه لعمله.

    وفي حوار أجرتهDW عربية، تحكي آلاء عن القبض عليها وتقول: “تم ملاحقتي من ساحة الحرية وتم محاصرتي أنا وناشط آخر، وطلبوا مني انتظار قدوم الضابطات النساء لتفتيشي، وعند طلبي رؤية إذن النيابة لضبطي وإحضاري لم يعطوني أي شيء وأجبروني على الذهاب معهم، وانتظرت لساعات بدء التحقيق في مقر أمن الدولة حتى أخبرني محقق أنه سيتم الإفراج عني لقيام عضو بمجلس الأمة بالتوسط من أجل إخراجي”.

    آلاء تشعر بالقلق الشديد على مستقبل أطفالها التي تعتبر أنه “مجهول”، فهم لم يصلوا بعد للمرحلة العمرية التي يمكن فيها إلحاقهم بمدرسة جيدة، ولكنها تخشى ألا تتمكن من تحقيق ذلك، حيث أن آلاء في نظر القانون الكويتي “بدون” محرومة من الكثير من الحقوق، ومن ضمنها الالتحاق بمدرسة حكومية.
    – DW عربية –

  5. يقول الكروي داود النرويج:

    من هم البدون؟

    مصطلح البدون يعود في الأصل إلى “أهل البادية” الذين لم يحصلوا على جنسية دولة الكويت منذ استقلالها عام 1961، ويتم وصفهم وفقاً لمواد القانون الكويتي بـ “غير محددي الجنسية”، وتعود مشكلتهم إلى عدم تطبيق مواد قانون الجنسية الكويتي بعد الاستقلال وإهمال البعض التقدم بطلب الحصول على الجنسية الكويتية قديماً.

    وجدير بالذكر، أنه مع بداية وقوع الأزمة الأخيرة، أشارت وزارة الداخلية الكويتية، عبر حسابها الرسمي على موقع تويتر، لواحد من المقبوض عليهم بكونه “مقيم بصورة غير قانونية”.
    ووفقاً لتقرير صادر العام الماضي من منظمة هيومن رايتس ووتش، يبلغ عدد البدون في الكويت حوالي 100 ألف شخص، ونظراً لـ “عدم قانونية” إقامة البدون في الكويت، يعانون من الحرمان من الحقوق التي يتمتع بها المواطن الكويتي.

    ويقوم “الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية” بإصدار بطاقات أمنية للبدون، على أن يتم تجديدها دورياً من قبل الجهاز، ولا تعتبر هذه البطاقة هوية شخصية لحاملها، وفقاً لوصف الجهاز نفسه.

    وتصف الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان، عبر بيان رسمي، وضع البدون بأنه “أكثر سوء من ذي قبل بسبب الجهاز المركزي من خلال إجراءاته التعسفية والضغط الممارس على الأغلبية الساحقة من البدون”.
    – DW عربية –

  6. يقول نزار حسين راشد ...كاتب عالمي وشاعر معروف.:

    عندنا في الاردن عندما ترشحت نساء للبرلمان وحسب إحصائية رسمية صدرت بعد الإنتخابات لم تحصل اي امراة مرشحة ولا على اي صوت نسائي.وهذا يفسر علمياً على ان المراة في مجتمعنا لا تريد لاي امراة اخرى ان تمثلها بل تفضل تمثيل الرجل.والدلالة ان ثقة المراة العربية المسلمة وحتى غير المسلمة في الرجل لا حدود لها.وأن قضية الذكورية هي شعار ترفعه نساء يردن ان يفرضن انفسهن على المشهد كمدافعات عن قضاياها مدفوعات بدوافع ومكاسب شخصية عديدة ليس على رأسها نصرة المرأة.
    وللتغطية على ءلك قامت الحكومة باختراع الكوتا النسائية للتغطية على هذه الحقيقة امام القوى الغربية التي تفرض علينا فرضا ما تريده.

    1. يقول سنتيك اليونان:

      نعم ثقة المرأة العربية بالرجل لا حدود لها كما ذكرت حضرتك وذالك نتيجة نجاح الرجال في جميع المجالات لا سيما الاجتماعية والاقتصادية …رجال العرب هم وراء الازدهار والحرية اللتي تنعم به مجتمعات العرب بالاضافة الى التعليم المجاني الى اعلى المستويات كذالك المستوى العالي في المجال العلمي والتكنولوجي

  7. يقول جواد:

    “أصر ذكرها على إنجابهم” !
    عجيب !!!

  8. يقول احمد محمد طيب:

    الوطن العربي كله بدون رجال ونساء غريبون في أوطانهم وغريبون في الغربة
    كل الطواغيت العرب ينظرون لرعاياهم انهم بدون

  9. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية للدكتورة ابتهال وللجميع
    سواء كانت المراة بدون او غير ذلك او متزوجة ام عزباء متعلمة او امية فالمشكلة في نظرة مجتمعاتنا للمراة اساسا والمشكلة الاهم نظرة المراة في مجتمعاتنا لنفسها من هي ومن تكون وما هي قيمتها فهناك الاف والملايين او اكثر من النساء لا يتقبلن اراءك او اراء السعداوي قبلك بحجة الدين والتقاليد والمشكلة الاخرى هي نظرة مجتمعاتنا للشرف وربطه بالمراة لكي يتسنى للرجل فعل ما يريد ولكنه يبقى رجل فكل الافعال المشينة لا تعيبه وكما تقول المراة المصرية الراكل ما يتعيبش وتبقى المصيبة الكبرى في رجال الدين الذين يحاربون لتبقى الامور كما هي فيما يخص المراة والرجل وكل شيء يخص تطور المجتمع وكسر تقاليده الباليه

    1. يقول محبوبه:

      من عاش في العالم العربي كامراة يعرف بالضبط مامعنى الرمزية التي تشير اليها الكاتبة. مع الاسف لازلنا بعيدين جدا عن أمرأه حره في العالم العربي والاسلامي اجمالا وحتى في المجتمعات الغربية هنآك ذكوريه طاغيه ولكن امكانية التعامل معها ممكنه أكثر مما هي عليه في العالم العربي. ثم هناك قضية البدون التي تعطي للموضوع صفه أكثر جذريه. الحل طبعا يكون في قيام أنظمه ديموقراطية تحثرم حقوق الانسان مهما كان اصله دينه وفصله. التعصب الديني لا الذكورية المتهورة ليست الحل

إشترك في قائمتنا البريدية