«موبي ديك» يزور القرن الـ21

حجم الخط
3

ندين للقبطان الهولندي ليو فان تولي بفضل تصوير شريط فيديو غير عادي مدّته تقلّ عن دقيقة، ويلتقط الحوت الأبيض الأسطوري من ظهر سفينة تجارية على شواطئ جامايكا؛ للمرّة الأولى، كما تقول المعلومات، منذ تخليد هذا الكائن البحري في رواية هرمان ملفيل الشهيرة «موبي ديك» 1851. وفي الرواية، التي نقلها إلى العربية أستاذنا الراحل إحسان عباس، يعضّ الحوت ساق القبطان آخاب، فيقضي الأخير حياته متنقلاً من بحر إلى محيط سعياً وراء الانتقام؛ وأمّا ملفيل فإنه يصرف فصول الرواية في التمييز بين الخير والشرّ، وبين الإنسان والطبيعة، مستخلصاً أنّ شرور الكائن الإنسان في العنف والشدّة والحقد لا تُقارَن بأيّ من سلوكيات الكائن الحيوان.
كان الروائي الأمريكي، طبقاً لتقديرات دارسيه وهوامش متفرقة من سيرته، قد استوحى حوت الرواية من كائن بحري قيل إنه حوت أبيض ذَكَر سُمّي «موشا ديك» سكن المحيط الباسفيكي قبالة شواطئ جزيرة موشا في تشيلي، وكان يُشاهد هناك إلى أن اختفى في سنة 1838. وما خلا الحوت المحدّب الأمهق «ميغالو» الذي ظهر على شواطئ أستراليا في سنة 1991، لا يملك علماء البحار أيّ مثيل للحوت الأبيض الذي صوّره القبطان الهولندي مؤخراً. الأهمية العلمية للواقعة تتمثل في أنّ هذا الحوت، كما أوضحت صحيفة الـ»غارديان» البريطانية بعد استطلاع آراء الخبراء، يكون عادة رمادي اللون، أو أسود أو بنّي الظهر؛ وهو الأضخم بين الكائنات البحرية، والوحيد الذي يستخدم «لهجات» مختلفة في التواصل مع أقرانه وعائلته، كما أنه يملك الدماغ الأضخم، وفي وسع أنثاه أن تورّث جينات مختلَطة الأجيال…

بعض هذه المراجعات، في علاقة ملفيل بالبحر والترحّل والتيه والاغتراب، قد تفسّر الاهتمام الخاصّ بالزيارة التي قام بها الحوت الأبيض إلى شواطئ جامايكا، للمرّة الأولى منذ 170 سنة أعقبت دخوله إلى المُدرَك الإنساني الكوني من خلال رواية خالدة

وأمّا هواة أدب ملفيل، أو على نطاق أوسع أولئك الذين تفتنهم أمثلة التطابق بين المخيّلة الإبداعية والوقائع الطبيعية والمادّية المختلفة، فإنهم أغلب الظنّ سوف يرون في ظهور الحوت الأبيض برهاناً جديداً على علوّ شأن التخييل؛ خاصة وأنّ حوت ملفيل لم يكن، في زمن كتابة الرواية، معطى علمياً واضحاً وصريحاً ومتفقاً عليه. في عبارة أخرى، أو في أمثلة سابقة بالأحرى، كان وليم شكسبير قد استبطن الكثير من أطوار اعتلال النفس البشرية وغوامض اللاشعور، التي سوف يعترف سيغموند فرويد أنّ الشاعر والمسرحي الإنكليزي سبقه إلى اكتشافها؛ وكان هوميروس في «الأوديسة» على لسان الكاهن ثيوكليمنوس، قد تنبأ بما سوف يقرّ علماء الفلك بعد أكثر من 3000 سنة وباستخدام أحدث تقنيات علوم الفيزياء والفلك، بأنه كان كسوفاً للشمس.
وزيارة الحوت الأبيض إلى القرن الـ21 قد لا تبدو ذات نفع لدارسي ملفيل الأحياء، إلا إذا شاء البعض منهم تسخير أحدث كشوفات علم النفس وبواطن اللاوعي للربط بين متاعب الروائي الروحية، والعقلية أيضاً في الواقع، خلال السنوات القليلة التي أعقبت كتابة «موبي ديك» وبين سلسلة الهواجس الإشراقية التي سيطرت عليه ودفعته إلى تأمّل مخلوقاته الروائية من زويا مَرَضية ورؤيوية؛ لم تغب عنها رموز التوراة، وهوس الحجّ إلى عوالم أخرى كان الشرق والأراضي المقدسة في طليعتها. معروف أنه ركب البحر في رحلة طويلة صوب شرق المتوسط، استمرت خمسة أشهر، وقطع فيها 15 ألف ميل، وزار ثلاث قارّات وتسعة بلدان، بينها تركيا ومصر وفلسطين. كان الشرق حلم الطفولة، على ما يُدرك بوضوح من رؤى الطفل ريدبرن في رواية ملفيل التي تحمل الاسم ذاته.
ولقد ترك أمريكا «العالم الجديد» وراءه، يحمل في أغوار روحه القلقة مزيجاً عسيراً من التيه التراجيدي، كما مثّله آخاب؛ وبراءة اليانكي الباحث في ظلمة البحار عن طهارة دينية يتجاذبها قدر لا ينطوي على البراءة وحدها، في شخصية بيللي بَدْ. وهاهو على أعتاب «العالم القديم» برموزه، وجلاله، وغموضه، ووضوحه العصيّ على الإدراك؛ حيث نقطة انعطاف كبرى، كان ملفيل الأكثر قدرة على استبصار الاحتمالين فيها: إما العودة بشيء من نقاهة الروح، أو العودة وقد تلاشى آخر ما تبقى من قدرة الروح على الصمود في أنواء أشدّ من تلك التي رسمها لشخصياته الروائية، ذات المآلات المحتومة.
في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1856 بلغت سفينته مضائق جبل طارق، حيث ما يشبه «الاقتراب من رحم التاريخ» كما كتب، وحيث يبدأ البحر الأبيض المتوسط الحقيقي. وفي قبرص سوف يصف صعود فينوس من المياه (مثلما سيصف صعود المسيح من المياه، حين ستبلغ رحلته جبل الزيتون في فلسطين). وفي كانون الأول (ديسمبر) اقترب من القسطنطينية والبوسفور، لكنه جوهرياً يصف آسيا القارّة، وأوّل مشهد آسيوي تقع عليه عيناه، فيتحدث عن «متاهة تاريخ» تارة، وعن «أرض خصبة لجذور التاريخ» طوراً. وتحت ضغوطات مزاج محتقن كهذا، قرّر القيام برحلته الخطرة إلى فلسطين، على متن قارب صغير، فنجح في بلوغ يافا مطلع كانون الثاني (يناير) 1857.
وبعض هذه المراجعات، في علاقة ملفيل بالبحر والترحّل والتيه والاغتراب، قد تفسّر الاهتمام الخاصّ بالزيارة التي قام بها الحوت الأبيض مؤخراً إلى شواطئ جامايكا، للمرّة الأولى منذ 170 سنة أعقبت دخوله إلى المُدرَك الإنساني الكوني من خلال رواية خالدة. فالتكريم يتجاوز عبقرية روائي هنا أو شاعر هناك، إذْ يقدّم شهادة جديدة على رفعة المخيّلة الإنسانية، أوّلاً.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الناقد الثقافي:

    بالنسبة للعبارة الواقعة في وسط التقرير كما يلي
    وأمّا هواة أدب ملفيل، أو على نطاق أوسع أولئك الذين تفتنهم أمثلة التطابق بين المخيّلة الإبداعية والوقائع الطبيعية والمادّية المختلفة، فإنهم أغلب الظنّ سوف يرون في ظهور الحوت الأبيض برهاناً جديداً على علوّ شأن التخييل؛ خاصة وأنّ حوت ملفيل لم يكن، في زمن كتابة الرواية، معطى علمياً واضحاً وصريحاً ومتفقاً عليه. في عبارة أخرى، أو في أمثلة سابقة بالأحرى، كان وليم شكسبير قد استبطن الكثير من أطوار اعتلال النفس البشرية وغوامض اللاشعور، التي سوف يعترف سيغموند فرويد أنّ الشاعر والمسرحي الإنكليزي سبقه إلى اكتشافها. وكان هوميروس في «الأوديسة» على لسان الكاهن ثيوكليمنوس، قد تنبأ بما سوف يقرّ علماء الفلك بعد أكثر من 3000 سنة وباستخدام أحدث تقنيات علوم الفيزياء والفلك، بأنه كان كسوفاً للشمس}

    1. يقول الناقد الثقافي:

      غير صحيح تنبؤ هيرمان ميلفيل (1819-1891) بظهور “الحوت الأبيض” (رغم أن التسمية نفسها ليست صحيحة هي الأخرى) فقد ولد ميلفيل نفسه وقد نشأ وترعرع أيام أوج الهيمنة الأمريكية في مجال صيد الحيتان وما ترتب عليه من صناعة وتصنيع، وكان ذلك في الفترة الواقعة بين سنة 1920 وبداية الحرب الأهلية سنة 1861 ؛ وبالنسبة لذكره بشكسبير وفرويد كذلك المسألة ليست مسألة السبق إلى الاكتشاف (مسرحيات شكبير نفسه ليست من عندياته أصلا): المسألة تكمن في كون بعض من هذه المسرحيات («هاملت»، «ماكبث»، «تاجر البندقية»، إلخ) في بعض من نصوصها جزءا من الجانب العملي في تحليلات فرويد لعقد نفسية: كمثل، عقدة أوديب، وعقدة الإخصاء، وعقدة الدونية، إلخ ؛ وأخيرا بالنسبة لذكره بهوميروس فهذا مثال ملموس ومحسوس على تزييف الأوروبي للتاريخ: تنبؤ هوميروس بكشوف الشمس هو ما جاء في الرواية الغربية الأوروبية؛ ولكن حينذاك كان الإغريق قد استقوا كل ما كانوا يعرفونه عن الفلك من البابلليين والمصريين القدماء

  2. يقول الناقد الثقافي:

    طبعا المقصود
    (سنة 1820) وليس (سنة 1920)
    (بكسوف الشمس) وليس (بكشوف الشمس)

إشترك في قائمتنا البريدية