فيلم «سلطة الكلب» للنيوزلندية جين كامبيون: تجريد «الوسترن» من ذكوريته

حجم الخط
0

لن يكون من السهل التغيير في «جينات» سياقاتٍ تكرست في السينما العالمية، بشكليها الفني والاستهلاكي، كما هو الحال مع أفلام «الوسترن»، الجارية في صحراء الغرب الأمريكي، وفي أزمنة تتفاوت من منتصف القرن التاسع عشر، حتى عشرينيات القرن الماضي حيث تجري أحداث فيلمنا هذا، كأنها نهايات أزمنة الذكورة «الوسترنية».
فيلم النيوزلندية جين كامبيون «سلطة الكلب»، The Power of the Dog، الذي بدأ بثه على «نتفليكس» بداية الشهر، لا ينهي أزمنة الوسترن، مصوراً حكاية في نهاياتها، وحسب، إنما يسحب منها أحد أشد خيوطهاً تأسيسيةً في حياكة فيلم الوسترن، وهو الذكورية الطاغية، والعنف الظاهر المرافق لذلك.

ليست البطولة هنا للأقسى أو الأشد بأساً، ولا للأسرع في سحب سلاحه والأدق في تصويبه، لا مجازر جماعية، ولا انتقامات دموية. ما اعتاد المشاهد عليه في أفلام الوسترن، كلاسيكية وحديثة، ممتازة ورديئة، غيرت في أساسه كامبيون ناقلةً السياق الصحراوي، شديد الحرارة صيفاً والبرودة شتاءً، القاسي، تالياً، غيرته إلى طراوة في العلاقات والحوارات، دون عنف إلا ما لزم للحكاية، وما لزم هذا، كان عنفاً مستتراً، وكان استنتاجاً، وكان، أخيراً، تفادياً لعنف جسدي محتمل سبقه عنف نفسي صارخ الذكورة.
أتى الفيلم خلافاً للكثير غيره، تلك التي شكلت، تراكماً، صور الوسترن على الشاشة، والتي ساهمت في «صناعةٍ تراكمية للبطل الأمريكي»، وقد أشرت في مقالة سابقة إلى هذه السمة في تلك الأفلام («أفلام الوسترن… صناعة تراكمية للبطل الأمريكي». «القدس العربي» 12 إبريل/نيسان 2021)، فإضافة إلى كلاسيكيات من الأمريكي جون فورد إلى الإيطالي سيجريو ليوني، وقد تخصصا، نسبياً، في هذا الجانْر السينمائي، أو ما تحول إلى جانرٍ بفعلهما وآخرين معهما، وإلى أفلام متفرقة لآخرين مذكورين تفصيلاً في المقالة المشار إليها، تحضر أفلام كثيرة، وصولاً إلى اليوم، إلى فيلم جديد في نتفليكس كذلك، هو The Harder They Fall، لجيمس سامويل، وهو فيلم جيد وامتداد «شرعي» لسمتَي أفلام الوسترن: العنف والذكورية، أو لنضعها في سمة واحدة هي «العنف الذكوري»، والأفضل تسميتها بـ«الذكورة العنيفة». إضافة إلى كل ذلك، جاء فيلم كامبيون، الرقيق الهادئ، بالقطع مع ذلك التراث الوسترني.

نبدأ من حكايته، وفيها يقرر شاب يصنع الورود من الورق ويتلقى إهانات تصفه بالمثلي، ويدرس الطب خارج البلدة، يقرر، وقد عاد، حمايةَ لوالدته، الثملة وغير السعيدة والخائفة معظم وقتها، من شقيق زوجها، راعي بقر عنيف ومؤذ وزعيم بين رجاله. من خلال الحكاية، وشخصية الشاب، هزيل الجسد باهت البشرة، تغير كامبيون في تركيبة البطل الوسترني، وتنحي «ضرورة» ذكوريته جانباً. لا يكتفي الشاب، ببنيته وملامحه «الأنثوية» وعدم إتقانه لركوب الأحصنة، ولم نره يحمل سلاحاً، هو الغريب عن صورة البطل الوسترني، المنشغل بدراسة الطب وتشريح الحيوانات، لا يكتفي بذلك، لكنه، في سلوكه، ذهب إلى ما هو أبعد من الانتقام، مستبقاً إياه بقتلٍ لا يكون رد فعل على ما حصل إنما كان تفادياً، افتراضياً، لما قد يحصل، ولا يكون القتل بطرق وأدوات وسترنية، إنما بما هو ملائم لعصر نهايات الوسترن وبدايات العلوم والتجارب المخبرية، والأوبئة والفيروسات والعلاجات، هو قتل باللمس، غير المباشر، قتل بدس الفيروس في الجسد، لا الطلقة.
في فيلمها الذي نال في مهرجان فينيسيا السينمائي هذا العام، جائزة عن أفضل إخراج، وفي مهرجان سان سباستيان عن أفضل فيلم، وفي تورونتو عن أفضل تصوير، في فيلمها قدمت صاحبةُ «البيانو»، الفيلم الذي نالت عنه جوائز أهمها السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي عام 1993، قدمت تغييراً أنثوياً في سياق وسترني، لا لكونها امرأة، بل لما تغير في أسسس الفيلم الوسترني كما شاهدناه في فيلمها، إذ تكون الأنثوية أولاً بانحسار الذكورية في عنفها النفسي والجسدي/الدموي، وبتمحور الحكاية حول حماية شاب لأمه، وهو الصورة النقيضة للبطل الوسترني، راعي البقر، حمايتها من ممثل تلك الصورة النمطية ذاتها، كما تعودناها في كلاسيكيات أفلام الوسترن التي تكرست وامتدت إلى أيامنا هذه.
تجادل كامبيون هنا البطل الوسترني في ضرورة ذكوريته، وتنقضها، وتقدم الوسترن في جانبه الأنثوي، الجمالي بكل الأحوال.

كاتب فلسطيني ـ سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية