صورة دوريان جراي لأوسكار وايلد: الكتابة إلى ما بعد التخوم

تتسم بعض الروايات بمعادلة سردية لا يمكن أن تستجلب إلا بالموهبة، وهذا يحملنا إلى التسليم بأن فيض الموهبة لا يستقيم بمعزل عن التجربة الذاتية، التي تختبر العالم، فلطالما كان المبدعون أقرب للارتباك عند محاولة كتابة، أو اجتراح نص يتجاوز حدود تداول المنجز، وتأثيث رؤية خاصة، ويمكن أن نعزو هذا الارتباك إلى عاملين، الفقر في الموهبة، فضلاً عن عدم توفر رؤية واضحة تتصل بالمقصدية الجذرية، أو الصيغة التي يرى الكاتب من خلالها كل ما يحيط به من واقع، أو متعالية فلسفية، فالقضية هنا لا تتصل بما هو صواب أو خطأ، إنما بالمنظور، فالكتابة ليست فعلاً من أفعال الإضاءة لقضايا أو موضوعات وحسب، إنما هي جزء من خاصية الارتطام العميق مع الأنا، والعالم، والأفكار، عبر مقاربة تجمع نقيضين: الداخل والخارج في آن واحد. إنها محاولة نفي المقولة الآمنة وتفجير اللغة، علاوة على بعث الحياة بالمستقر، والمنجز، بالتوازي مع التلذذ في اللغة، فالكتابة الحقيقية أقرب إلى مقامرة لا يجرؤ عليها الكثيرون، إنما فقط من يعانون من اليأس، والحيرة، والسخط.

أصالة البنية

قد تعيدنا رواية «صورة دوريان جراي» للكاتب الإيرلندي أوسكار وايلد (1845-1900) لمعنى القراءة في بعدها المتخم بالسردية، وهذا يأتي إزاء بعض السرديات المرتبكة، والمشتتة، أو تلك التي لا تمتلك الطرائق، أو التكوينات السردية القادرة على إثارة القارئ، إذ تكمن إشكالية بعض السرود بمحاولات ارتجال بلا مرجعية حقيقية على مستوى الوعي بالأدوات أو التجربة، التي لا يمكن أن تستجلب، إنما ينبغي أن تعاش تبعاً لمقاومة فعل الاستقرار المتصل بالعالم، والارتكان إلى تفسير واحد.
ضمن ترجمة متميزة للكاتب المصري لويس عوض، بدت الرواية فضاء رحباً على مستوى إطلاق قدر كبير من الأسئلة ضمن مدارات متعددة، لكن الأهم التكوين بوصفه حالة سردية لا يطالها النشاز، في أي من مستوى مستوياتها الفنية حيث التناغم الأسلوبي، فلا هزات، أو مطبات، أو وجود لفيض مجاني لشخصيات أو مواقف لا تنضح بأعلى قدرة على بعث المقصدية… هكذا تتضح ملامح الشخصيات، في سياق المجتمع والزمن والمكان، والأهم المقصدية التي تتنازعها عدة مجالات تتصل بما هو فلسفي، وجمالي، وقيمي، وأخلاقي ومجتمعي، كما سياسي، ضمن فضاء متخيل صلد، متماسك لا يدانيه عوار، أو تكلف.
القارئ لهذه الرواية، لا يبدو عالقاً في تتبع مسارات السرد وحسب، إنما يحتكم إلى فاعلية أثر الزمن، والهوى الإنساني، أو ذلك التقارض القائم على الرغبة في الشباب الدائم بأي ثمن، انطلاقاً من التأثير الفاوستي، وما يكمن خلف هذا من آثار. فهذه الصيغة السردية تهيمن على الوعي الإنساني منذ الأزل، كما أنها تتقاطع في سياق البحث عن تكوين الفن، والكثير من التأملات في سياق الصيغ التي يناقشها العمل، حيث تُبنى الرواية على ثلاث شخصيات رئيسية: الفتى دوريان جراي، والرسام بازيل، وهنري، غير أن الأول يخضع لمرجعية تتصل بولادته، ونشأته في كنف جده من جهة أمه، الذي يرفض الحفيد لوضاعة نسب الأب، فضلاً عن أثر عامل اللوحة، كما الكتاب الذي أهداه إياها هنري، بالإضافة إلى الرؤى التي يحملها الأخير تجاه الحياة، ودور الفن، والمجتمع، وقشرية القيم، وسائر تلك الرؤى، التي تتصل بتلك الحقبة الزمنية، والأهم خيارات درويان جراي.

الهوية الفنية

من التكوينات والسنن التي تكمن في الرواية جدلية الفن، فالمبعث الأول للحبكة يتأتى من اللوحة التي رسمها الفنان بازيل للفتى الفائق الوسامة دوريان جراي لتتحول اللوحة إلى جزء من هويته الثقافية الإنسانية، أو جزءاً من رؤيته لذاته مجسدة عبر الفن، كما تحيل إلى قدرتها على حمل السلوك، وتبعاته، وتحليل المشاعر البشرية، فاللوحة تؤيد المثال الانعكاسي كما جسدته أسطورة «نرسيس» وهنا يحتمل الفن دوره الوظيفي الذي يحتاج إلى قدر هائل من البحث الجدلي، إذ يتعزز في موقف آخر حين يعشق دوريان جراي ممثلة جميلة في إحدى المسارح المتواضعة، التي يديرها رجل يهودي مستغل، لقد أصبح عشق دوريان جراي للفتاة انطلاقاً من هويتها الفنية، فبات عشقه لها مجسداً عبر قدرتها على تأدية أدوار مسرحيات شكسبير، لكنها حين تقترب من دوريان جراي بوصفها عاشقة تتخلى عن الفن، وتمارس حبها عبر توجيهه للذات المقابلة، أو نحو الأمير الساحر (دوريان جراي) الذي سرعان ما يهجرها، بعد أن تجردت من هويتها الفنية، ولاسيما بعد أن فاضت مشاعرها الحقيقة لا عبر أداء تمثيلي، فهبط أداؤها، وفقدت بريقها ليتخلى عنها دوريان، ما يؤدي إلى انتحار الفتاة بصورة تتماهى مع قصص العشاق التي كانت تؤديها. وهكذا تضاف هذه الحادثة إلى قائمة التكوين الجديد لشخصية دوريان جراي برذائله، التي لا تتضح آثارها على ملامحه، إنما على اللوحة التي تتحول على مستودع لنقائصه القيمية، غير أن هذا يتجاور مع مبثوث عميق من الطبقات السردية، التي تتجلى عبر آراء هنري التي تتعلق بالحياة والفن والعاطفة، وما يتصل بفلسفة اللذة، ومن ذلك أن صغار الشعراء يمارسون الشعر الذي عجزوا عن قوله، في حين أن كبار الشعراء يقولون الشعر، الذي خافوا من ممارسته في الواقع، إذ لا بد أن تنضح تلك الرؤى بقيم الجمال والشر، فنستحضر «أزهار الشر» للشاعر الفرنسي بودلير في تقاطع واضح مع هذا التجسيد لمتعالية اللذة، الشر، الجمال والدين مجتمعة، كما ذلك التعارض بين الفكر والجمال، وهشاشة الأخير الذي يسترده الزمن، مع نبذ قيمة الاعتدال بوصفه مثلبة وضعفاً، فالحياة تبدو لنا عبر ألوانها لا بتفاصيلها.

تبقى الرواية من أهم الأعمال السردية في التاريخ الغربي، إذ تكمن قيمتها بمغايرتها، وجرأتها، كما بحثها العميق عن أسئلة لا تجد الكثير من الإجابات، لكنها تثير تلك الكوامن والسواكن في بعض الثقافات لتدفعها إلى المزيد من الحيوية.

هكذا نرى ذلك التكوين في تحميل الفن، أو تلك الممارسة بوصفها جزءاً من هذا القدر الذي يحط بدوريان جراي؛ فيتركب جريمته بأن يقتل الفنان الذي رسم اللوحة المشؤومة، فتبدو اللوحة في دلالاتها الرمزية متاحة لأكبر قدر من التأويلات، وتمسي جزءاً من الخطايا التي يرتكبها دوريان جراي بما في ذلك دم الجريمة، كما علامات الشيخوخة، والقبح، في حين يبقى دوريان شاباً وسيماً لا يطاله الزمن. ولعل وايلد لا يمضي إلى قراءة نهاية حتمية تجاه الفن، إنما هو يبتكر في روايته جزءاً من التنافذات الدلالية التي لا تستقر، والتي تتجلى على لسان الشخصيات في غير موقف سردي، أو في الحوار الذي يبدو جزءاً من القدرة على بناء الشبكة الدلالية، التي تمتد عبر اتجاهات متعددة، ولاسيما نقد تلك الرغبات التي تسكن البشر بالبحث عن مظاهر الأشياء، والرغبة بالشباب الدائم، فتبرز قيم التهكم والسخرية على أكثر من مستوى.
تقع الرواية في بنيتها ضمن مرجعية لا تحتمل أي صيغة تتصل بالعجائبي، أو الغرائبي، لكنها تنزاح لحيلة سردية عبر تلك الأمنية التي نطق بها دوريان جراي، بأن تتحمل اللوحة تقادم الزمن، وما يقوم به من أعمال، ومع أن هذه الصيغة لا تندرج ضمن نطاق الأدب الغرائبي، لكنها تبدو أقرب لنموذج قوطي، حيث تلك المتعاليات الميتافيزيقية التي تبدو جزءاً من ثقافة ذلك العصر، فتمضي الرواية على هذه الحبكة، فتصوغ الحمولات السردية كافة، كي يكون هذا الحدث مركزاً للعمل ضمن المدارات الأخرى كافة، التي تتصل بالشخصية، وما يصطدم بها من أحداث تتصل ببعض الصدف، حيث يُقتل شقيق الفتاة التي انتحرت بعد أن هدد دوريان جراي بالقتل، في حين يُقتل صديقه الذي ساعده على إخفاء جثة الفنان بازيل.

آراء وأحكام

لعل أوسكار وايلد من أكثر الروائيين جدلية في تاريخ الأدب، حيث تحتمل رؤيته للعالم نماذج مخالفة لعصره، فلا جرم أن تنشر الرواية في أكثر من نسخة لحساسية بعض المواقف، كما كانت جزءاً من محاكمة مؤلفها تبعاً لمقاييس ذلك العصر، فالرواية بهذا النهج تبدو أقرب لرواية «مدام بوفاري» لفلوبير التي تسببت هي الأخرى بمحاكة مؤلفها لمغايرته ثقافة ذلك العصر، وعلى الرغم من كل الحيثيات التي تتصل بإشكالية الرواية، وتجاوزها القيمي، غير أنها تبدو على قدر كبير من العمق، ولا سيما عكس ماهية أوسكار وايلد، ونزعته النقدية تجاه الإنسان، والمجتمع خاصة، ومن ذلك قيمة الحواس كما يعكسه متلفظ الراوي في بعد توضيحي لتطور دوريان عبر تجربته الذاتية حيث يقول: «وجد دوريان جراي الناس يستنكرون عبادة الحواس، ووجد هذا فيهم أمراً طبيعياً، فالناس يفزعون بالغريزة من الشهوات الجارفة والأحاسيس التي تضعف أمامها نفوسهم وهم يدركون أنهم يشتركون فيها مع أحياء أخرى التي تقل عنهم رقياً.. لكنه رأى أن طبيعة الحواس لم تفهم قط على حقيقتها، وأن الحواس ما بقيت على حالها الحيواني الأول، إلا لأن المجتمع أجاعها وأذلها وسامها سوء العذاب، بدلا من أن يجعل منها سبيلاً إلى روحية جديدة قوامها تذوق الجمال بالفطرة».
على الرغم من أن دوريان جراي يتحلل مبدئياً من تبعات أفعاله، لكن تبقى اللوحة شاهداً على رؤيته لذاته، فلا عجب أن يحاول تدمير اللوحة بالسكين عينها التي استخدمها لقتل الفنان، لكن حين يحضر الخدم يجدون لوحة لفتى وسيم، وبقربها توجد جثة رجل عجوز تنغرز السكين في صدره، وهنا تبرز المعضلة القيمية لشخصية الفتى الذي يرتكب الآثام، ويغرق بالأفيون، والعلاقات المتعددة، فيقودنا السرد إلى المعالجة النقدية للنماذج القيمية، وصمودها أمام الزمن، ولاسيما على لسان شخصيتي هنري وجراي، اللذين يتخذان موضعاً متقدماً للرؤية السردية التي تتعلق بعوالم الزمن والدواخل النفسية، والمجتمعية، وتلك التي تقترب من توجهات تعكس تمثلات النخب الطبقية في إنكلترا وعربدتها ورغبتها بحيازة الامتيازات كافة، وموقفها السلبي تجاه الطبقات الدنيا، بما في ذلك العالم الجديد أو المكتشف، كما الخواء، والخيانة، لتمسي هذه التمثيلات جزءاً من أمراض المجتمع، بوصفه صورة من صور الحقبة الصناعية، فضلاً عن آراء تنال من المرأة، انطلاقاً من آراء هنري الذي يرى في المرأة موضوعاً مادياً يفتقر لمعنى العقلانية، وهذا على ما يبدو أقرب إلى مزاج مجتمعي سائد، بالتضافر عبر بروز التحول نتيجة وجود ثقافة طارئة من الولايات المتحدة، بوصفها المعبر الجديد، بالمقارنة مع ثقافة إنكليزية باتت تشيخ، ونعني إنكلترا، فكان وجود هذا النمط جزءاً من التساؤلات على مستوى الرواية: «لأننا نستطيع في هذه الأيام أن نقهر كل شيء إلا الموت، نعم الموت والابتذال، هما كل ما بقي من القرن التاسع عشر من ظواهر لا نستطيع تفسيرها وإزالتها».
في الختام، تبقى الرواية من أهم الأعمال السردية في التاريخ الغربي، إذ تكمن قيمتها بمغايرتها، وجرأتها، كما بحثها العميق عن أسئلة لا تجد الكثير من الإجابات، لكنها تثير تلك الكوامن والسواكن في بعض الثقافات لتدفعها إلى المزيد من الحيوية.

كاتب أردني فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية