السياسات التي لا تعبأ بشيء سوى الربح تتم بوتيرة متسارعة منذ انهيار النموذج الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي، وفي دول وسط وشرق أوروبا. ولا يزال أصحاب رؤوس الأموال يطالبون بمنحهم تنازلات ضريبية سخية، ويدفعون نحو إلغاء أو تعديل التشريعات التي كانت تحقق بعض المكاسب للعمال والطبقة الوسطى، كمشروعات الضمان الاجتماعي والصحي، وإعانات البطالة، وقوانين الحد الأدنى للأجور. والإشكالية المطروحة، التي تراوح مكانها ضمن واقعية سياسية واقتصادية من هذا القبيل، كيف يمكن أن تتوافق الديمقراطية مع شروط الليبرالية، واِبعاد الدولة عن التدخل في الحياة الاقتصادية، وتجاهل البعد الاجتماعي؟ وعن أي عدالة أو تعايش ديمقراطي نتحدث في غياب الاستقرار الاجتماعي؟
وسط شعور عام لدى غالبية الشعوب بفشل العولمة، وفي ظل مخاوف من تصدع النظام الاقتصادي العالمي، يتواصل تعنت صناع القرار السياسي في بعض الدول، التي يتغافل قادتها عن أن الاتفاقيات التجارية، وإصلاح منظمة التجارة العالمية، أفضل من الحروب التجارية. فمثل هذه الحروب سوف تؤدي إلى حالة من الركود، خاصة زمن الجائحة العالمية المستمرة، وتداعياتها على اقتصاد معظم الدول، ضمن النظام الرأسمالي المتهالك، فهناك انهيار حقيقي للمركز، أو بشكل أكثر دقة المؤسسات السياسية، التي لا تستطيع الاستجابة لمخاوف الناخبين الذين يبحثون عن أفكار واضحة، ولا يريدون أن يسمعوا من البيروقراطيين ممن يعيدون النقاشات نفسها منذ عقود، وحتى لو كانت حلول الشعبوية غير مستساغة، فإنها تقدم على الأقل رؤية مستقبلية، بينما لا يتوفر لدى المركز المؤيد للعولمة سوى القليل من العروض الأخرى.
الصين تراهن على لعبة الذكاء والاحترافية وتستخدم الابتكار التكنولوجي، وسيلة ناعمة لتحقيق أهدافها، من دون الحاجة للجوء إلى الحرب
في الواقع، فإن نوع الحوكمة العالمية الذي تبنته هذه المراكز، والذي يشجع البلدان على العمل معاً لتحسين اقتصاد وأمن العالم، يتعرض لتهديد شديد، ولا يوجد ما يشير إلى أن هذا التهديد ينحسر، فالمركز يضعف واليسار واليمين يملآن الفراغ منذ الأزمة المالية عام 2008، وزيادة الهجمات الإرهابية، وتدفق ملايين اللاجئين الذين ينتقلون إلى أوروبا، جميعها عوامل غذت رد فعل معاكس لتلك العولمة، وقد استفادت من هذا الشعور المتنامي الأحزاب السياسية الضعيفة في أوروبا، التي كانت تؤمن بضرورة كبح العولمة والدفع باتجاه الحمائية. إنها ليست ظاهرة جديدة في تقدير ألينا بولياكوفا الخبيرة في الحركات اليمينية المتطرفة، والسياسة الأوروبية. قد يبدو الأمر وكأنه انفجار مفاجئ من الزخم، لكن هذه الأزمات أعطت للتو مزيدا من الدعم لهذه الأحزاب القادرة على حشد الجماهير بطريقة لم يقدر عليها المركز، خاصة مع تداعيات أزمة الجائحة العالمية، وهذا ما أدى إلى سقوط ميركل، ومرجح أن يعصف بماكرون. العولمة ذاتها التي قادت قاطرتها الولايات المتحدة الأمريكية، أدت إلى تراجع هيمنة واشنطن التكنولوجية على المستوى العالمي، مع الصعود القوي للصين في مجال التكنولوجيا الاستهلاكية. واليوم يكتسي مجال الابتكار التكنولوجي أهمية بالغة في ظل صعود بكين منافسا جيوسياسيا للولايات المتحدة على قيادة النظام الدولي، فالصين تراهن على لعبة الذكاء والاحترافية والنجاعة، حيث تستخدم الابتكار التكنولوجي، وسيلة ناعمة لتحقيق أهدافها، من دون الحاجة للجوء إلى الحرب. وتبيع الشركات الصينية حاليا البنية التحتية اللاسلكية لشبكات الجيل الخامس في مختلف أنحاء العالم، وتُسخر البيولوجيا التركيبية لتعزيز إنتاجها الغذائي، وتسابق الزمن لصنع رقائق إلكترونية أصغر وأسرع. ولم تجد أمريكا من حل لذلك سوى فرض عقوبات تجارية وحصار شبكة الجيل الخامس، والقفزة الصينية في مجال التطور التقني. المشكلة الحقيقية للولايات المتحدة أعمق بكثير، كما يراها الكاتبان كريستوفر داربي وسارة سيوال، إذ إن لديها فهما خاطئا للتقنيات الأكثر أهمية، وكيفية تعزيز قدراتها. ومع أن الأمن القومي يأخذ أبعادا جديدة، والمنافسة بين القوى العظمى تنتقل إلى مجالات مختلفة، فإن الإدارة الأمريكية لم تستطع حتى الآن أن تواكب التطورات، فالتمويل الحكومي للأبحاث التكنولوجية في القطاعين العام والخاص واصل انخفاضه بمرور السنوات، واحتفظت وزارة الدفاع بأكبر نسبة من التمويل، لكن تلك الجهود أصبحت مشتتة عبر مختلف الوكالات والإدارات، وكل منها يسعى لتحقيق أولوياته الخاصة في غياب استراتيجية وطنية. وبالنظر إلى ما يحدث في بحر الصين الجنوبي، وغيره من بؤر التماس المرجحة بين الصين وأمريكا، لا تزال مخاوف واشنطن من التقدم التكنولوجي الصيني تتركز بالأساس على الجانب العسكري، في حين أن القدرات الدفاعية ليست سوى جانب واحد من صراع الريادة التكنولوجي بين القوى العظمى.
العولمة التي صدرت مقولات الانفتاح والتبادلية، عمقت في ما يبدو الانقسام الذي تدفع نحوه أنظمة معينة في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا ترغب في تراجع نفوذها العالمي، وتحكمها بالسوق والتجارة الدولية. والقادة الليبراليون الذين يتحدثون بعبارات لطيفة عن الحاجة إلى التعاون العابر للحدود في مواجهة تهديد مشترك، فرضوا قيودا على السفر والتجارة، أكثر قسوة مما تجرأ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على فرضه في ذروة صراعه مع الصين. ومازال حاضرا في الأذهان التصريح السوداوي والصادم لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في بداية أزمة الجائحة العالمية، حين طلب من البريطانيين الاستعداد لفراق أحبتهم، ليشاهدوا فعلا الآلاف من ضحايا الفيروس، وقد مثّل ذلك نموذجا صارخا حول تفضيل الحسابات الاقتصادية على الجانب الإنساني. فالأنظمة الرأسمالية مستعدة للتضحية بالفئات الهشة والضعيفة، وهو أمر يتماشى تماما مع منطق الانتقاء الطبيعي، ونظرية داروين، حول البقاء للأصلح. وقد جعل من الاتحاد الأوروبي، الذي ارتكب مجزرة في حق القيم الأوروبية الحقيقية، مجرد مجموعة من السياسيين وأصحاب البنوك، كما يسميهم إدغار موران.
أُجهضت كل محاولة لخلق وعي مشترك وموحد، وأزمة جائحة كورونا تهدد بالدخول إلى عالم أقل عولمة، عالم يتواصل فيه اختلال ميزان القانون الدولي، وتزدوج فيه كل المعايير، من حقوق الإنسان إلى الديمقراطية والتعايش السلمي، وفق منطق الهيمنة العالمية التي أربكت كل شيء. ويعتقد منتقدو الليبرالية المتوحشة أن نموذج الحضارة الذي ابتكره الغرب، لم يعد صالحا لبناء المستقبل، أي لبناء مجتمعات قادرة على النمو والانسجام مع البيئة، وتحقيق التوزيع العادل للثروة والدخل. وما يسود الآن هو عملية تحول تاريخي بأبعاد عالمية واضحة ينعدم فيها التقدم والرخاء، ويسود التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي، في ضوء حضارة التنميط التي سعت الديمقراطية الليبرالية لفرضها. وهي أنساق حوّلت العالم إلى رهينة في قبضة حفنة من كبار المضاربين الذين يتاجرون بالعملات والأوراق المالية، مستخدمين في ذلك مليارات الدولارات التي توفرها البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار الدولية وصناديق التأمين والمعاشات. فهل ستتوسع الرقعة على حلبة الصحراء الدولية لمصلحة مبادئ التحرر من الطغيان المالي واللون الاقتصادي الواحد والإرادات المفبركة على نحو متجانس؟ وهل بالإمكان أن يُحدث الوباء العالمي اختراقا غير مسبوق يتجرأ على الحد من التوسع العشوائي أو القسري، أو المبرمج للمؤسسات المالية العملاقة، وكبح جماح التكتلات الاقتصادية التي تسعى إلى الاستحواذ على العالم وفق قواعد الربحية الخالية من الاعتبارات الإنسانية؟
كاتب تونسي
عرف العالم تحولات كثيرة و عديدة منذ نهاية عهد يالطا وصولا الى سقوط جدار برلين الذي حول أمريكا إلى قوة أحادية ذات تفوق إستراتيجي شامل و توجه هيمني لم يعرفه العالم منذ اضمحلال عهد السلام الروماني هذا العصر الجديد الذي انهى الإمبراطورية السوفيتية و منطقها المعياري القائم على الايديولوجيا الماركسية و ابرز مشروع القيادة العالمية الأمريكية باعتبارها قوة رائدة يمكن أن تساعد في الحفاظ و خلق ما يسمى بسلام عالمي امريكي Global Pax american و قد تميز هذا العهد بتوجه نحو عالم معولم اشتدت فيه الصراعات نظرا للتفاوت الصارخ في موازين القوة بابعادها الجيو سياسية و العسكرية و الاقتصادية و المالية و التكنولوجية و حتى على مستوى الموارد البشرية و لكن في النهاية اصبح الطغيان الامريكي بقوته الخارقة كما اطلق عليها السياسي الفرنسي اوبير فدرين هو السائد ، في وقت عانت و لاتزال الشعوب و البلدان الضعيفة من الفقر و الامراض و الحروب الاهلية و التمزق و قد تحولت الى أداة في يد الدول المهيمنة التي اعادة إنتاج سلوكات إمبريالية أثرت كثيرا على مصير هذه الشعوب وولدت صراعات تحتاج الى اجيال كاملة كي تهمد و تنطفىء . شكرا استاذ العبيدي على المقال الرائع هذا هو الشعور بمسؤولية المثقف و امانته في الحياة .
تماما. ويتجلّى هذا المسار كأحد العناوين الكبرى لهذا القرن في الوقت الذي نشهد فيه تقلّص العلاقات الديبلوماسية وتوتّرها اضافة إلى استعراض القوّة والسباق نحو التسلّح بأحدث المنظومات الدفاعية والهجومية. وهو مشهد عالمي يدفع باتّجاه مزيد تأزّم العلاقات الدّولية ويركن إلى سياسات توسّعية همّها المضيّ قدما في منطق عزل الشعوب عن بعضها البعض وتفكيك نسيجها القومي وابقائها في حالة الجهل والتخلّف وفق منهج استعماري قديم بطرق الاحتواء والتبعية.
اضافاتك رائعة “جميلة” شكرا جزيلا ودام حضورك