ما وقع في سوريا، ولا يزال يقع، طوال ما يقترب اليوم من 11 عاماً، ليس شيئاً يحدث كل جيل أو جيلين، ولا حتى كل قرن. مفردات الحدث السوري الظاهرة معلومة: نصف مليون ضحيm على الأقل، فوق 130 ألفاً معتقلين ومجهولي المصير، خسائر مادية بنحو نصف ترليون من الدولارات، نحو 90% من السكان تحت خطر الفقر، وفوق نصفهم في حاجة إلى دعم غذائي.
على أن ما قد يكون أجدر بالانتباه من وجهة نظر زمنية طويلة هو، انقسام سوريا الواقعي إلى خمس سوريات، ووقوعها تحت خمسة احتلالات. أولاً المحمية الأسدية التي تشكل اليوم المتن السوري، المتمتع بحماية إيرانية روسية مزدوجة. في المقام الثاني لدينا سوريا التي تستأثر بحكمها وتنطق باسمها وحدات حماية الشعب الكردية المحمية من الأمريكيين، وهي تشمل مناطق من الجزيرة (الرقة ودير الزور والحسكة) ومن حلب، ثم هناك المناطق التي يحكمها، ويسيء حكمها باقتدار «الجيش الوطني» وهو تشكيلات سورية تابعة لتركيا، وتشمل مناطق من حلب والرقة والحسكة. وسوريا الرابعة هي إدلب وبعض مناطقها، تسودها هيئة تحرير الشام التي هي طبعة مُنقّحة للمرة الثانية عن تنظيم «القاعدة» الدولي. وأخيراً، وليس آخراً، مرتفعات الجولان المحتلة من قبل إسرائيل منذ أكثر من 54 عاماً، أي التي يجايل احتلالها وقوع سوريا بيد السلالة الأسدية. والمحتلون الخمسة للسوريات الخمس هم حسب الأقدمية إسرائيل، إيران، أمريكا، روسيا، تركيا.
حصل النظام للتو جرعات تطعيم دموية بالغة الفاعلية ضد التغيير في أي أفق منظور، ما يعني بقاء سوريا بلداً بلا وعود لسكانها، أي بلا مستقبل
ثم هناك اختراع حديث في علم السياسة الدولي، يتمثل في منظمات ما دون الدولة السيدة، أي المسلحة التي تمارس ولاية عامة، كدول أو بالتحالف مع دول: هيئة تحرير الشام، وحزب الله وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي. الحكم الأسدي هو في الجوهر منظمة ما دون دولة تحكم بلداً. وبمجموعها تشكل السوريات الخمس والمحتلون الخمسة وتابعوهم ما قد يسمى سوريا الداخل، بالتقابل مع سوريا الخارج الموزعة بدورها على أربعة بلدان رئيسية: تركيا، لبنان، الأردن، ألمانيا، تتلوها العراق ومصر. بشرياً، هذه الدول كلها جارة لسوريا، وإن لم يكن بعضها كذلك جغرافياً. ويتوزع أرخبيل اللجوء السوري على 127 دولة في العالم، حسب تقرير حديث لـ»هيومن رايتس ووتش» ما يعني أننا جيران ثلثي العالم. لا نعرف شيئاً يشبه ما تقدم أو يدانيه في قرن ونيف من عمر الكيان السوري الحديث، ولا وقت كانت سوريا جزءاً من الامبراطورية العثمانية بين 1516 و1918. وقد لا نجد إطار مقارنة حتى لو عدنا خمسة قرون إلى الوراء، فعدا عن اعتبار عامٍ يقضي بأن حوادث التاريخ لا تتكرر وإن تشابهت، وإن بلغ تشابهها شبه قطرة الماء بقطرة الماء بعبارة ابن خلدون، فإن الحدث السوري يجري في عالم لم يكن له وجود قبل خمسمئة عام، ولا حتى قبل خمسين عاماً. هذا عالم لا يقع حول سوريا أو خارجها، بل هو فيها وجزء لا يتجزأ منها، بشهادة الاحتلالات الخمسة. العالم إحداثي آخر، بنيوي ومُلزِم، قد يساعد في الإحاطة بفرادة الأحوال السورية اليوم.
على أن المقصود بفكرة نصف ألفية من السنين كإطار زمني، ليس العودة إلى الماضي للبحث عن «أشباه ونظائر» بل محاولة تكوين فكرة عن هذه الأهوال التي عصفت بمصائرنا، ولا نملك لها اسماً، وبغرض النظر إلى الأمام. هل نستطيع النظر إلى الأمام؟ والكلام عن مستقبل؟ قد تكون الخاصية الأشد شؤماً للحدث السوري هي، أن النظام الذي يحكم البلاد منذ خمسين عاماً ونيف، مستمر في حكمها، حصيناً أكثر من أي وقت مضى خلال أكثر من عقد. لقد حصل للتو على جرعات تطعيم دموية بالغة الفاعلية ضد التغيير في أي أفق منظور، وهو ما يعني بقاء سوريا بلداً بلا وعود لسكانها، أي بلا مستقبل. يمكن الكلام سلفاً اليوم عن أسدية ثالثة، قد نؤرخ لبدئها بإعادة احتلال حلب أواخر 2016. الأسدية الأولى هي السنوات العشر الأولى من حكم حافظ الأسد، أو حتى حماه 1982. وهي سنوات الاستيلاء على السلطة وتأسيس سلطة فئوية متمكنة. الأسدية الثانية ما بعد حماه هي سنوات الاستيلاء على المجتمع، بما في ذلك الاستيلاء على الاقتصاد في العشرية الأولى لحكم بشار. كان تطعيم أول بالدم قد حصن النظام ضد التغيير لثلاثين عاماً بين حماه والثورة السورية. الأسدية الثالثة ما بعد حلب تبدو تحصينا للاستيلاء على المجتمع والاقتصاد، بعد السلطة، بتغيير السكان، أو إنتاج سوريين جدد، أسديين. من ذلك اضطرار نحو 30% من السكان لتغيير البلد بعد فشل مسعى تغيير النظام السياسي في البلد. ومنه عمليات تشييع نشيطة في غير مكان في البلد، واستيلاء إيران وميليشيات وشبكات تابعة لها على مناطق سورية، بالانتفاع من عمليات التهجير التي طالت بؤراً نشيطة للثورة. وهذا في ظل الفيتو الروسي المعلن على «حكم سني» في سوريا، فيتو لم يسمع صوت اعتراض عليه دولياً ولا عربياً (ولا «علمانياً» ولا «يسارياً» سورياً بالمناسبة). يوفر تقاطع الحمايتين الروسية والإيرانية للنظام، مع الهزيمة الدموية للثورة السورية ومع الظهور الوبائي والإجرامي لتشكيلات سلفية مسلحة، سنية، فرصة تاريخية لتحولات كهذه. وهو ما يكمله ترثيث متقدم للمعارضة التقليدية، وجمعها بين الشيخوخة والتبعية والضمور الفكري. التغيير المرجح للسكان دافع إضافي إلى التفكير في أننا حيال تحولات كبرى في الجيولوجيا الاجتماعية، وليس فقط حيال صراعات سياسية وعسكرية، تنتهي بمنتصرين ومهزومين سياسيين وعسكريين.
كان الدستور العميق أو الغريزة العميقة للأسدية في كل أطوارها هو حكم السلالة، و»رسالة» الأسدية الثالثة هي أن يرث حافظ حكم أبيه بشار، الذي سبق أن كفلت الأسدية الثانية وراثته لأبيه حافظ. ورغم أن السيادة العليا للبلد هي بيد إيران وروسيا، فليس هناك ما يقول إن هاتين الدولتين القوميتين التوسعيتين تختلفان في شيء عن حكم السلالة. لن تجدا وكيلاً أضعف حيالهما وأفضل لهما، يشاركهما العداء لعموم محكوميه وعدم الثقة بهم.
كانت دولة الاستيلاء الأسدية القناع الذي التصق بوجه سوريا، إلى درجة أن محاولة نزع القناع أفضت إلى تدمير الوجه نفسه. هذا شيء يعرفه الحاميان.
اليوم، في حقبة الأسدية الثالثة وتغيير السكان، يحدث شيء مماثل، من جهة إيران خاصة، تلتصق أذرعها بكيان سوريا، إلى درجة أن محاولة نزعها قد تؤدي إلى تدمير الكيان. يبدو الوضع محكم الإغلاق، تعززه ديناميكيات عربية وعالمية سلبية. هناك استسلام عربي أمام المحور الفاشي، الروسي الإيراني الأسدي، متولد عن رثاثة نخب سلطة استبدادية، عاجزة عن الانضباط بسياسة أطول أمداً أياً تكن. تعرف أي أطراف إقليمية أو دولية، أن الدول العربية ذات النفوذ، أو الأشخاص النافذين فيها، لا يطيقون وضع تصورات متسقة للمصلحة الوطنية ينضبطون بها، وأن قليلاً من الصبر وربما الخداع يكفي ليغيروا نهجهم، بل يسيروا في نهج معاكس. أما دولياً، فقد وفرت سردية الإرهاب والحرب ضد الإرهاب (الإسلامي السني ضمناً) أرضية لشراكة بين أقوياء مسلحين، من دول ومنظمات، ما دون الدولة. الكل محاربون جيدون ضد الإرهاب، بشار والسيسي، وبوتين وحكم الملالي، وإسرائيل بالطبع، بل حتى تنظيمان لا يزالان رسمياً على قوائم الإرهاب الأمريكية، حزب العمال الكردستاني النافذ في صفوف حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا (وقد تطوع مؤخراً زعيمه جميل بايك بالقول: «علاقتنا مع حافظ الأسد وعائلته كانت وثيقة ودافئة.. لا يمكننا أن نكون مناهضين لسوريا أو ضد الأسد») ثم حزب الله اللبناني الإيراني، الذي احتاج إلى تمييز الإرهاب الذي يحاربه عن الإرهاب الذي يُتّهم به بوصف الأول بالتكفيري.
هذه الديناميكيات السلبية هي جل ما يحتاجه الثلاثي الفاشي لأخذ سوريا في العلن لتكون فلسطين ثانية. إنها مآل فلسطنة السوريين عبر السنوات والعقود، نزع ملكية دولتهم، ثم وطنهم، منهم.
كاتب سوري
” ومنه عمليات تشييع نشيطة في غير مكان في البلد، واستيلاء إيران وميليشيات وشبكات تابعة لها على مناطق سورية، بالانتفاع من عمليات التهجير التي طالت بؤراً نشيطة للثورة. وهذا في ظل الفيتو الروسي المعلن على «حكم سني» في سوريا، فيتو لم يسمع صوت اعتراض عليه دولياً ولا عربياً (ولا «علمانياً» ولا «يسارياً» سورياً بالمناسبة). ” إهـ
العلمانيين واليساريين مع النظام البعثي قلباً وقالباً ضد الإسلام السياسي السُني!
ولهذا فهم مع بشار بالخفاء, ومع الحريات بالعلن!! ولا حول ولا قوة الا بالله
الثورة طفرة في الوعي الجمعي لأمة من الأمم قد لا تحدث الا مرة واحدة في تاريخها.
حاول الغرب بشتى السبل قتل تلك الطفرة
شكرًا أخي ياسين الحاج صالح. كان الحديث سابقًا عن صوملة (الصومال) سوريا ثم عن لبننة (لبنان) سوريا ثم أفاك (أفغانستان) سوريا عقب الإحتلال الروسي وانتهى الأمر بفلسطينية سوريا! وهل كانت تحلم إسرلئيل بغير ذلك. أن يقوم مايسمى! محور المقاومة والممانعة الأسدي بهذا الدور أي أن يفعلوا بسوريا والشعب السوري مافعلته الصهيونية بالشعب الفلسطيني وبفلسطين هذا من عجائب التاريخ بالفعل. ياترى هل يقف التاريخ عن هذا الحد، لاأعتقد، من سره زمن ساءته أزمان ومايحدث في العالم اليوم نطرًا لما يحدث في أوكرانيا يذكرنا بالحرب الباردة وروسيا لن تستطيع أن تتحمل أعباء الإحتلال لفترة طويلة.